مسلم عباس
العمل السياسي في العراق يمثل حالة من الصراع الشرس بين القوى الفاعلة لإعادة تبديل ما هو قائم تحت يافطة الإصلاح، وهو في الجانب الآخر يمثل حالة من الجمود الدائم لكون الإصلاح المزعوم لا يتعدى التدوير وإعادة إنتاج ذات الوجوه وذات السياسيات.
المواطن يعرف والخبير كذلك، لا يوجد إصلاح أو تغيير، هي مجرد شعارات تطلقها الكتل السياسية بين مدة وأخرى حسب حالة هيحان المواطن من شدة تاثير الفساد وسوء الإدارة على حياته، وفي بعض الأحيان تتخذ القيادة القيادة السياسية قرارات تنفذ على أرض الواقع لكنها في الواقع لا تتعدى جرعة تخدير لتجميد الوضع على ما هو عليه.
الشواهد كثيرة في هذا المجال، لكن أبرزها ما قام به رئيس الحكومة الأسبق حيدر العبادي عندما واجه التظاهرات المطالبة بالخدمات وتوفير فرص العمل، رد رئيس الوزراء في حينها بحزمة قرارات اعتبرها إصلاحية تغييرة لتحسين واقع المواطن، وعلى رأس القرارات تلك إلغاء منصب نواب رئيس الجمهورية بالإضافة إلى عدة خطابات وكلمات رنانة اعتبرت في وقتها فتحًا سياسيًا جديدًا.
بعد مدة تبين أن ما أصدره رئيس الوزراء من قرارات وخطابات لم تتجاوز عتبة التجميد السياسي، فاستمر الحال على ما هو عليه وتراكمت حالة الجمود والمشكلات السياسية.
بعد تبدل رئيس الوزراء ومجيء عادل عبد المهدي تفجر الوضع من جديد، تظاهرات مليونية لم يشهد لها العراق مثيلًا منذ عاد ٢٠٠٣، ومطالب سياسية واقتصادية وخدمية كبيرة، وآمال عظيمة للتغيير والإصلاح، لم يكن رئيس الوزراء ليتحمل التيار الشعبي الجارف الممزوج بالضغط الإعلامي والسياسي محليًا ودوليًا ليضطر بعدها إلى الإستقالة، لكن ما الذي حدث بعد الإنفجار الشعبي؟
جاء رئيس وزراء توافقي جديد، رئيس وزراء توافق عليه الشيعة والسنة والكورد، أما خارجيًا فحصل على الضوء الأخضر الإميركي والإيراني، إنه رئيس وزراء جاء لإرضاء الجميع، وبعبارة أدق، جاء من أجل الحفاظ على الوضع القائم وتجنب انزلاق الأمور إلى التغيير.
إنه يمثل تجميد اللحظة السياسية الراهنة، وقالها السيد مصطفى الكاظمي صراحة في أكثر من مناسبة، قال: انا أتيت لأضمن الوصول إلى الانتخابات المقبلة في شهر تشرين الأول، وأحافظ على الوضع الاقتصادي الراهن.
وما لم يذكره الكاظمي تكليفه صراحة أو ضمنًا بإيقاف لهيب الاحتجاج الشعبي ومنع التغيير، وقد نجح بذلك نجاحًا باهرًا، لأنه صور نفسه ممثلًا للمتظاهرين، فشعروا واهمين بالانتصار وتحقيق التغيير، عادوا إلى بيوتهم، ورغم عدم تغير أي شيء تقريبًا سوى بعض الشكليات إلا أنهم فقدوا قوتهم وفعلهم السياسي، لأن الدعم الإعلامي والسياسي محليًا ودوليًا قد توقف.
انتهى كل شيء، هذا هو الحد المسموح فيه للهيجان الشعبي، تنفيس قليل للغضب، مع بعض الإجراءات الترقيعية، ثم العودة إلى المنزل وتجميد اللحظة السياسية إلى أمد قد يطول أو يقصر.
إننا نعيش دومة من الصراعات المركبة يمكن إيجازها في الآتي:
١. صراع المواطن في داخل نفسه
٢. صراع المواطن والسياسي
٣. صراع السياسيين فيما بينهم
٤. صراع الدول فيما بينها على المكاسب والنفوذ في العراق
هذه الحالة المركبة من الصراع تدفع البلاد بقوة نحو الأزمات وغياب الحلول، وكلما تراكمت الأزمات شعر الجميع بالخطر وضياع المكاسب، فتجدهم يحاولون الإبقاء على الراهن.
المواطن لا يريد خسارة ما في يده، فقد شاهد كيف طالب بتحسين الاقتصاد ليجد نفسه أمام حكومة لا تستطيع دفع الرواتب للموظفين، ولا هي قادرة على توفير الكهرباء بنفس الوتيرة السابقة، فعاد المواطن إلى محرابه مستغفرًا ذنوبه وداعيًا الله أن يعيده إلى ما قبل لحظة التغيير الشكلي.
وقد تكرر موقف ندم المواطنين على أوضاعهم السابقة في أكثر من مناسبة، وباتوا أكثر رغبة في التجميد السياسي منهم إلى التغيير، ما عدا بعض الهيجان الذي يحدث بين مدة وأخرى كنوع من إثبات الوجود وتأكيد الفعل السياسي.
أما صراع السياسيين فيما بينهم، فلا يكاد يكون صراعًا على المبادئ بقدر ما يكون على مكاسب مالية ومناصب لتركيز السلطة، وهذا ما يدفعهم للتوافق رغم شدة الخلاف، لأنه خلاف مبني على صفقات مالية وسياسية يمكن حلها ببعض الإجراءات والتغييرات.
ويبقى الصراع الخارجي الذي يبدو أكثر تحكمًا وهو السبب الأهم في حالة التجميد السياسي، لأنه صراع قائم على تخطيط محكم ورغبة شديدة في إبقاء العراق دولة فاشلة وبما يؤهلها لتكون ساحة للصراعات بالوكالة.
لكي نفك حالة الجمود السياسي المزمزن نحن بحاجة إلى تفكيك الصراعات المركبة، وتعديل مسارها وكما نوضحه بالآتي:
1- المواطن بحاجة إلى الوعي بحقوقه وواجباته وموقعه من الفعل السياسي، وهذا لم يحصل حتى الآن.
2- الأحزاب السياسية بحاجة إلى بناء جملة مبادئ سياسية راسخة ومجربة تجريبًا واقعيًا وعلميًا ليمكن الاحتكام إليها عند اتخاذ القرار حتى ننتهي من حالة تقلب المواقف.
3- عندما تتحقق النقطة الأولى والثانية، تلقائيًا يضعف التدخل الخارجي إلى أبعد حد، وربما ينتهي، لأن القاعدة الداخلية القوية المبنية على العلاقة بين المواطن والسياسي ستدفع التدخل الخارجي إلى غير رجعة.
.
رابط المصدر: