اندلعت في منطقة أزواد شمال مالي، منذ شهر أغسطس من العام الجاري (2023)، موجةً من العنف المتزايد تركَّزت في القواعد العسكرية وكبريات المدن والتجمعات السكانية. فقد انفجرت الحرب بين القوات الحكومية الماليّة المدعومة من قوات فاغنر الروسية من جهة، وعدة تنظيمات مسلحة، من بينها الجيش الأزوادي الذي يتشكل أساساً من الطوارق والعرب، والمنظمات الجهادية المتطرفة التي نقلت نشاطها إلى المنطقة الحدودية المشتركة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر، في الجهة المقابلة.
ترصد هذه الورقة اتجاهات الحرب الجديدة في مالي ومنطقة الساحل، وتحاول استكشاف آثارها المستقبلية محلياً وإقليمياً.
أبعاد الصراع الجديد في مالي
منذ انسحاب القوات الفرنسية التي كانت مرابطة في شمال مالي (اكتمل الانسحاب في منتصف أغسطس 2022)، ومع بداية انسحاب القوات التابعة لبعثة الأمم المتحدة في مالي (بدأ في أغسطس 2023 وسينتهي في نهاية ديسمبر 2023)، اندلعت المواجهات بقوة بين الجيش الحكومي المالي وعدد من المنظمات والجماعات المسلحة. وقد شكَّل هجوم القوات المالية على مدينة بير التابعة لدائرة تمبكتو في 11 أغسطس الماضي نهايةَ الهدنة الطويلة التي قامت بين الحكومة المالية والمنظمات الشمالية من الطوارق والعرب منذ اتفاق الجزائر للسلام الموقع عام 2015.
وعلى الرغم من التباين الكبير في البيانات الإعلامية بين مختلف الأطراف المتحاربة، يظهر أن القوات المالية المدعومة من مجموعة فاغنر الروسية سيطرت فعلاً على الثكنة العسكرية التي كانت توجد فيها قوات الأمم المتحدة للسلام في مدينة بير، بينما لا يزال “الإطار الاستراتيجي الدائم للسلام والأمن والتنمية” (الذي يضم حركات الطوارق والعرب) يسيطر على المدينة. وبعد هذه المعركة، أعلنت المجموعات القومية الأزوادية تشكيل “الجيش الأزوادي”، والدخول في مواجهة مسلحة مفتوحة مع القوات الحكومية المالية.
يضم “الإطارُ الاستراتيجي الدائم” الأطرافَ التي وقعت على اتفاق الجزائر باسم “منسقية حركات أزواد”، وهي أساساً “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” و”المجلس الأعلى لوحدة أزواد” و”الحركة العربية في أزواد” و”تجمع الدفاع الذاتي عن الطوارق”. ومع أن “حركة إنقاذ أزواد” (جناح موسى أغ أشغتمان) المتركزة في الحدود النيجرية انسحبت من الإطار الاستراتيجي الدائم ورفضت قرار المواجهة مع الحكومة، إلا أن المعارك تتالت خلال شهر سبتمبر الماضي بضراوة بين “الجيش الأزوادي” والقوات الحكومية المالية.
وظهر من المعطيات الميدانية على الأرض أن الجيش الحكومي خسر في الأسابيع الأخيرة ثلاث قواعد عسكرية مهمة في شمال البلاد، كما يأتي:
- قاعدة بامبة على نهر النيجر (مدينة من إقليم بورم تقع على الطريق الرئيس بين غاو وتمبكتو)، التي سيطر عليها الجيش الأزوادي في 1 أكتوبر 2023، وذهب ضحية المعركة أكثر من 80 جندياً مالياً، بحسب تقرير إخباري لهيئة الإذاعة البريطانية.
- قاعدة ديورا في إقليم موبتي، التي هاجمها الجيش الأزوادي في 28 سبتمبر، وذهب ضحية الهجوم -بحسب بيانات الجيش الأزوادي- 98 قتيلاً من القوات الحكومية. وتكمُن أهمية هذه القاعدة في أنها تقع في وسط مالي، على الطريق المؤدية إلى مدن الشمال الأساسية. وقد غطّت وكالة فرانس برس هذه المعركة متحدثةً عن اعتراف السلطات الحكومية بالمعركة دون تفصيل، بما يُرجِّح صدق بيان الجيش الأزوادي.
- قاعدة ليري قرب مدينة تمبكتو، التي سيطرت عليها قوات الجيش الأزوادي في 17 سبتمبر، بحسب المعلومات التي أوردتها صحيفة “جون أفريك” الفرنسية بالرجوع إلى بيانات الحركات الشمالية.
وقد برز بوضوح أن الجيش الحكومي المالي عازمٌ على دخول مدينة كيدال، العاصمة الكبرى للطوارق، بما من شأنه مضاعفة الاحتقان السياسي والأمني القائم، في الوقت الذي تحاصر جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين” المرتبطة بتنظيم “القاعدة”، مدينة تمبكتو التاريخية في شمال البلاد منذ نهاية أغسطس الماضي، كما هاجمت القاعدة العسكرية المالية في غاو في 8 سبتمبر، وأعلنت حصاراً جزئياً على هذه المدينة المهمة. أما تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش) فيكاد يسيطر كلياً على أقاليم منطقة ميناكا الحدودية المشتركة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وهكذا يمكن تلخيص الخارطة العسكرية الجديدة في مالي على النحو الآتي:
- سيطرة الجيش الأزوادي على مراكز عسكرية مهمة في الشمال، وعلى مدينة كيدال عاصمة الطوارق.
- سيطرة “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين” التابعة للقاعدة على منافذ أساسية في مدينتي تمبكتو وغاو.
- سيطرة “داعش” على معظم مساحة إقليم ميناكا.
ورداً على هذا التمدُّد للتنظيمات المسلحة والجهادية، وفي سياق عملية استعادة الشمال المالي بعد انسحاب القوات الفرنسية وبعثة الأمم المتحدة للسلام، أخذ الجيش المالي الحكومي في إعادة تسليح نفسه، وتحقيق التفوق في السلاح الجوي بدعم روسي.
التأثيرات الإقليمية للحرب المالية
في الوقت الذي تفجَّر فيه الصراع الأهلي المسلح في مالي، تزايدت موجة الإرهاب الراديكالي العنيف في دول الساحل الثلاث (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) التي تحكمها أنظمة عسكرية أعلنت مؤخراً دخولها في حلف دفاعي وأمني مشترك.
وهكذا أعلنت الحكومة النيجرية أن قوات جهادية راديكالية هاجمت مواقع الجيش الحكومي في إقليم تاباتول قرب الحدود مع مالي وقتلت 29 جندياً، بما عُدَّ تحولاً نوعياً في العمل الإرهابي منذ انقلاب 26 يوليو 2023. وفي منتصف أغسطس الماضي هاجمت التنظيمات الإرهابية قاعدة عسكرية نيجرية قرب الحدود مع بوركينا فاسو، وسقط في الهجوم 17 قتيلاً، كما قُتِلَ سبعة جنود في هجوم إرهابي في 28 أغسطس.
وفي بوركينا فاسو تصاعدت العمليات الارهابية في الآونة الأخيرة، وبلغت ذروتها في 4 سبتمبر، حين هاجمت الجماعات الإرهابية إقليم كومبري في الشمال الغربي، وذهب ضحية المعركة 53 قتيلاً بين وحدات الجيش والمتطوعين المسلحين مع وقوع عشرات الجرحى. ومع أن السلطات العسكرية الحاكمة اقتنت طائرات مسيرة لمواجهة الإرهاب، وخصصت صندوقاً (من تبرعات المواطنين) قدره 20 مليار فرنك أفريقي (ما يزيد على 32 مليون دولار) لمواجهة الإرهاب، إلا أن تنظيم “داعش” لا يزال يسيطر عملياً عل أغلب مناطق الشمال في بوركينا فاسو، ولا يبدو أن الجيش قادر على مواجهته.
وهكذا نجد أن خطر التنظيمات الراديكالية تزايد في كل منطقة الساحل، التي أصبحت مرشحة لتكون مركز التهديد الإرهابي الأول في العالم، بعد تقويض خطر تنظيم “داعش” في العراق وسورية. وبحسب إحدى الدراسات مثّل الإرهاب في إقليم الساحل عام 2022 ما نسبته 43% من حجم الإرهاب في العالم مقابل 1% عام 2007. وقد حذّرت وزيرة الجيوش الفرنسية سيباستيان لوكورنو في 13 أغسطس من قيام بؤرة دائمة للتطرف في الساحل على مرمى حجر من شواطئ المتوسط، بما يشكل أخطر تهديد لأمن أوروبا.
آفاق الوضع السياسي-الأمني في شمال مالي
وفق الاتجاهات الحالية التي لا تزال تخضع للتحول والتغيير، يمكن استشراف ثلاثة سيناريوهات في رسم مستقبل شمال مالي:
1. سيناريو استقلال منطقة أزواد بانفصالها عن الدولة المالية بقرار انفرادي من حركات الشمال، على غرار إعلان الاستقلال بتاريخ 6 أبريل 2012 الذي رفضته حكومة باماكو والمنظومة الأفريقية والمجموعة الدولية، وتلاه التدخل الفرنسي إثر اكتساح الجماعات الجهادية الراديكالية كبرى مدن الشمال. وفي الوقت الذي تتهم الحكومة المالية فرنسا بدعم هذا السيناريو، يبدو من بعض المؤشرات أنها بالفعل قد تقف إلى جانب الجماعات المعتدلة من الجيش الأزواد التي تراها باريس فعَّالة في الوقوف ضد المنظمات الإرهابية. إلا أن خيار الاستقلال يقتضي ضرورة التوافق المرحلي بين “الإطار الاستراتيجي الدائم” الممثل لحركات الشمال و”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”. وإن كانت التناقضات محتومة مستقبلاً بين الطرفين، إلا أن إعلان الاستقلال قد يُحيي الحل اللامركزي (الفيدرالي) في الشمال وفق اتفاقية الجزائر المعطلة.
2. سيناريو سيطرة الحكومة العسكرية المالية مدعومة من قوات فاغنر الروسية على إقليم الشمال، وهو احتمال ضعيف بالنظر إلى ضعف أداء الجيش، والحديث المتزايد عن عزم قوات فاغنر الخروج من الساحة المالية نتيجة لعدم جدوى العملية التي تكلف الدولة المالية 103 ملايين يورو، وتطالب جماعة فاغنر بضعف هذه الميزانية للانتقال من الاستشارة والتدريب إلى العمل القتالي الميداني.
3. سيناريو توزع مراكز القوة بين الأطراف المقاتلة في الإقليم، بحيث تسيطر قوات جماعة النصرة على منطقة تمبكتو، وتسيطر قوات الجيش الأزوادي على كيدال، ويبقى إقليم غاو مسرحاً لصراع مستمر بين مختلف الأطراف بما فيها الجيش المالي. ويبدو هذا السيناريو هو الأرجح في المدى المنظور. وفي حال تحقق هذا السيناريو من المتوقع أن يتزايد انهيار الوضع السياسي والأمني في مالي، بحيث ينعكس سلباً على وضع منطقة الساحل بالكامل، ولن يكون بمقدور الحلف الساحلي الثلاثي إنقاذ الموقف، بل إن احتمالات تصاعد الموجة الإرهابية في كل الدول الثلاث واردة ومرجحة.
استنتاجات
عادت المواجهة العسكرية بين المنظمات المسلحة في الشمال من الطوارق والعرب، وقوات الجيش الحكومي المالي الساعية إلى استعادة السيطرة على إقليم أزواد بعد انسحاب القوات الفرنسية وبعثة السلام الدولية. وبحسب المؤشرات الأخيرة، يبدو أن تنظيمات الشمال حققت مكاسب عسكرية متتالية، في الوقت الذي تزايد تهديد الجماعات الجهادية الراديكالية في الشمال وفي المنطقة الحدودية المشتركة بين مالي وبوركينا فاسو والنيجر.
وقد انعكس هذا الوضع سلباً على أمن منطقة الساحل التي تواجه تصاعد العمليات الإرهابية في مختلف البلدان التي أعلنت مؤخراً قيام حلف عسكري أمني فيما بينها. وفي ضوء الاتجاهات الحالية في شمال مالي، يبدو أن السيناريو الأرجح هو استفحال الصراع المسلح هناك، وصولاً إلى تقاسُم مراكز القوة فيه بين الأطراف المتحاربة، بما سيزيد من تردي الأوضاع الأمنية في كل منطقة الساحل.
.
رابط المصدر: