بأي شيء تتعلق الانتخابات الأميركية حقا

إريك بوزنر

شيكاغو ــ لا تتعلق الانتخابات الأميركية المقرر انعقادها في الشهر المقبل بالسياسة، ولا حتى الرئيس دونالد ترمب. بل تدور حول النظام الدستوري في أميركا. هذا لا يعني أن الانتخابات قد تنهي هذا النظام. فعلى الرغم من مزاج ترمب الاستبدادي وإعجابه بالحكام الطغاة من أمثال الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، فإنه من غير المرجح أن يصبح حاكما مستبدا حتى لو أعيد انتخابه. السؤال الحقيقي الذي يواجه أميركا يتعلق بالدور الذي تضطلع به الحكومة الوطنية في حياة البلاد.

كان مذهب ترمب (الترامبية) هو الأحدث في سلسلة من موجات شعبوية تولدت عن الغضب تجاه ما يعتبره الناس نخبا سياسية فوق المساءلة ولا تبحث إلا عن مصلحتها الذاتية في واشنطن العاصمة. الواقع أن القصة تبدأ قبل إنشاء المدينة. استهدفت الثورة الأميركية النخب النائية الباحثة عن المصلحة الذاتية في لندن، وسرعان ما أعقبها نزاع جوهري حول سلطة الحكومة الوطنية.

زعم المنتقدون أن الدستور الجديد المقترح من شأنه أن يخلق نخبة حاكمة وطنية، فيقوض بالتالي السيادة التي اكتسبتها المستعمرات التي تحولت إلى ولايات بشق الأنفس. وعلى الرغم من انتصار مؤيدي الدستور، فإن المنتقدين أثبتوا أنهم كانوا يتمتعون ببصيرة نافذة. فعلى الفور تقريبا، ظهرت حركات شعبوية تحدت ما اعـتُـبِـر حكما نخبويا. في عام 1800، أطاحت ديمقراطية جيفرسون بالنخب الفيدرالية، ثم أطاحت ديمقراطية جاكسون بنخب جيفرسون في عام 1829.

على الرغم من اختلاف ديمقراطية جيفرسون عن ديمقراطية جاكسون من نواح عديدة، فإن كلا منهما كانت تعكس اعتقادا مفاده أن النخب التي قادت الثورة الأميركية حنثت بوعدها بتقديم الحكم الذاتي لجماهير الناس. كان المسؤولون المنتخبون، والقضاة، والبيروقراطيون يأتون في ما يبدو من عائلات كبرى أو من الطبقة المتوسطة، ويحكمون وفقا لذلك، مثلهم كمثل الأرستقراطية الفاسدة التي هرب منها الأميركيون للتو. وكان الحل متمثلا في إعادة السلطة السياسية إلى جماهير الناس من خلال توسيع حق الانتخاب، وتوسيع نطاق الديمقراطية لتشمل المزيد من المناصب (مثل قضاة الولايات)، والحد من سلطة الحكومة الوطنية.

استولى الجدال حول العبودية والحرب الأهلية على هذه الموجة الشعبوية مؤقتا، لكنها عادت مرة أخرى وبقوة في أواخر القرن التاسع عشر. وهذا المرة قادها مزارعون من الجنوب والغرب الأوسط والذين اعتقدوا أنهم كانوا موضع تجاهل من قِـبَـل الحزبين السياسيين الرئيسيين، وموضوع استغلال من قِـبَـل البنوك وشركات السكك الحديدية التي كان هذان الحزبان يخدمانها. اعتبر الشعبويون جاكسون بطلا لهم، وهاجموا النظام السياسي بأكمله باعتباره فاسدا، وكونوا حزب الشعب لتعزيز مصالحهم.

جاءت الموجة الشعبوية الكبرى الثانية أثناء فترة الكساد الأعظم في ثلاثينيات القرن العشرين. وصل إلى السلطة ساسة من أمثال هيوي لونج، حاكم ولاية لويزيانا الذي أصبح لاحقا عضوا في مجلس الشيوخ، على وعد بإعادة توزيع الثروة من الأغنياء إلى الفقراء. اتهم لونج الساسة الراسخين بأنهم حكومة أثرياء، وحاول تقويض مراكز القوى المتنافسة، من المجلس التشريعي في الولاية إلى النظام الجامعي. وعندما توفى في عام 1935، كان اجتذب عددا كبيرا من الأتباع على المستوى الوطني.

كان آخر اندلاع للشعبوية قبل وقتنا الحاضر في ستينيات القرن العشرين، عندما سعى السياسي الجنوبي وزعيم الدهماء العنصري جورج والاس إلى إقناع الشماليين بدعم ترشحه لمنصب الرئاسة من خلال الادعاء بأن البيروقراطية الفيدرالية (“الحكومة الكبيرة”) كانت مسؤولة عن كل مشاكل أميركا. كانت معادة النخبوية على هذا النحو شائعة أيضا على اليسار، الذي ألقى باللائمة عن الحرب الباردة والتدخل في فيتنام على مؤسسة عنصرية إمبريالية.

إن منطق الشعبوية بسيط وقوي: إذا ساءت الأمور، فإن اللوم يقع على عاتق الحكومة والنخب التي تديرها. وفي حين هاجم الشعبويون الأميركيون حكومات الولايات، كانت الحكومة الفيدرالية هدفهم الأساسي بسبب بُـعـدهـا. قد يثق الناس بالساسة المحليين وممثلهم أو عضو مجلس الشيوخ عنهم. لكن بخلاف الرئيس وقادة الكونجرس، كان المسؤولون الفيدراليون مجهولي الهوية إلى حد كبير.

تنطفئ جذوة كل الحركات الشعبوية عندما تتغلب تناقضاتها الداخلية على الحماس الشعبي. يكره الشعبويون النخب، لكنهم لا يستطيعون الحكم دون وضع نخبهم في السلطة. أسفرت ديمقراطية جيفرسون عن دولة الحزب الواحد التي أدارها مزارعو فيرجينيا؛ وأنتجت ديمقراطية جاكسون نظاما حزبيا فاسدا سيطر عليه قادة الأعمال والساسة المحترفون؛ ثم فقدت الحركة الشعبوية زخمها عندما ربطت مصيرها بالحزب الديمقراطي من أجل تحقيق تقدم سياسي. وأحيانا يتفوق ساسة المؤسسة في المناورة على الشعبويين أو ينتزعون منهم السلطة مع تحسن الظروف. تحرك روزفلت باتجاه اليسار لمواجهة شعبوية لونج في الثلاثينيات، وانهارت شعبوية الستينيات مع نهاية جيم كرو وحرب فيتنام.

ينبغي فصل الشعبوية الترامبية عن ترمب، الذي امتطى موجة سياسية لم يطلقها ولا يتحكم فيها. فمصدرها الرئيسي الغضب إزاء تقدم الليبرالية الثقافية، والركود الاقتصادي، وفجوات التفاوت ــ وكل هذا أُلـقي اللوم عنه، بقدر ما من العدل، على النخب الوطنية والمؤسسات التي تهيمن عليها. ساعدت ذات الموجة باراك أوباما، الدخيل نسبيا، على هزيمة مرشحي المؤسسة هيلاري كلينتون وجون ماكين في عام 2008، وإن كان أوباما تكنوقراطيا بطبيعته، وقد حكم وفقا لذلك.

الشعبوية نزعة خطيرة لأنها تستند إلى موقف عدائي متصلب تجاه المؤسسات السياسية الراسخة والساسة المحترفين الذين لن نجد سبيلا للاختيار سوى الاعتماد عليهم، مهما كانت نقائصهم. لهذا السبب، قد تبدو الشعبوية من منظور لاحق غير عقلانية حتى وإن أفضت إلى خير من خلال لفت انتباه الحكومة وعامة الناس إلى المظالم المشروعة. تنحرف هجمات ترمب على المؤسسات والأعراف، والتي بلغت ذروتها في رفضه ضمان الانتقال السلمي للسلطة، نحو العدمية.

يقودنا هذا إلى انتخابات الشهر المقبل. نحن لا نعرف بعد ما إذا كانت الموجة الشعبوية في القرن الحادي والعشرين التي أتت بترمب إلى السلطة استنفدت زخمها. ربما ذَكَّـرَت الجائحة الناس بفضائل الخبرة والاحتراف في الحكم. لكن كثيرين من الأميركيين انغمسوا بشكل كامل في معارضة البيروقراطيين غير المنتخبين في “الدولة العميقة”، حتى بات من الممكن أن تواصل الترامبية الحياة بعد زوال من تحمل اسمه، وربما يقودها منبر جديد ــ مما يهدد بسنوات أخرى من الفوضى والانقسام. وعلى هذا فإن الهزيمة الحاسمة حقا لكل من ترمب والجمهوريين هي وحدها القادرة على منع حدوث نكبة من هذا القبيل.

 

رابط المصدر:

https://annabaa.org/arabic/views/24953

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M