أصبح الإعلان الروسي عن حسم معركة “سوليدار” مسألة وقت؛ إذ أعلنت قوات “فاجنر” الروسية أنها بالفعل نجحت في السيطرة على المدينة الاستراتيجية التي تمثل مفتاحًا رئيسًا أو “فتحًا استراتيجيًا” للسيطرة على “باخموت”. ومع ذلك أكد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف أنه لا داعي للاستعجال في الإعلان، وأن ذلك سيتم رسميًا في حين الانتهاء من العمليات بشكل نهائي.
وتعكس تصريحات بيسكوف مغزى سياسيًا أكثر من كونه عسكريًا؛ إذ يبدو أن هناك تحفظًا على أن يحسب هذا الانتصار العسكري في “سوليدار” لصالح “فاجنر” التي أخذت زمام المبادرة في إعلان الانتصار والسيطرة على المدينة من دون العودة للجيش. وهناك تفسيرات عديدة حول تلك الدوافع، على الرغم من المؤشرات العديدة التي تشير إلى دعم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمجموعة وقائدها المقرب منه شخصيًا؛ قد يكون أبرز تلك المؤشرات المتغيرات الهيكلية التي تجري على مستوى القيادة والعمليات الروسية في أوكرانيا، إذ سيترأس الجنرال فاليري جيراسيموف القيادة المشتركة التي ستضم كلًا من: الجنرال سيرجي سوروفكين القائد العام للقوات الجوية، والجنرال أوليج ساليوكوف القائد العام للقوات البرية، والعقيد أليكسي كيم نائب رئيس هيئة الأركان العامة، وهي تشكيله مرنة تتناغم من منح “فاجنر” مساحة مهمة في مناطق العمليات الرئيسة.
أهمية استراتيجية
على المستوي الميداني، لا تقل الأهمية الاستراتيجية لسوليدار عن “باخموت”، لكن يتطلب الأمر حسمهما بالتتابع، وبالتالي قد ترى روسيا أن حسم عملية “سوليدار” نصف انتصار؛ أخذًا في الحسبان أن عملية “باخموت” في حال صارت وفق المعطيات الراهنة لن تطول كثيرًا، فالقوات الروسية تعمل على إضعاف المقاومة الأوكرانية في المدينة التي تخوض فيها معركة هي الأطول والأكثر شراسة خلال العام الأول للحرب، فقد بدأت العمليات قبل 6 أشهر، فشلت القوات الروسية في السيطرة عليها في المئة يوم الأول من تلك الفترة، وفي الأشهر الثلاثة الأخيرة لعبت “فاجنر” الدور الرئيس -وربما المنفرد- في السيطرة على “سوليدار”. ويمكن تصور كيف أدارت حرب “الأرض المحروقة” هناك، ومع ذلك تكبدت ما يقارب من 1000 عنصر وفق التقديرات الأوكرانية والغربية، وهي كلفة لم تشهدها من قبل.
ستوظف “فاجنر” هذا الانتصار في عدة اتجاهات، منها: شرعنة دورها في الحرب، وفي العلاقة مع الجيش، بالإضافة إلى العوائد الاقتصادية، حيث لم تدرج لها ميزانية رسميًا، لكن السوابق تشير إلى أنها غالبًا ما تحصل على نسبة من العوائد الاقتصادية على نحو ما فعلت في سوريا، حيث تحصل على عوائد 20% من نفط الحقول الواقعة في مناطق السيطرة. وفي مقابل ذلك، يتعين عليها أن تمنح القوات المسلحة الروسية هذا الانتصار في الأخير، أو على الأقل تتقاسمه معه بعد الانتهاء من معركة “باخموت” لإهدائه للرئيس “بوتين” الذي يحتاج إلى انتصار الآن. ففي الوقت الحالي تنتشر القوات الروسية في “باخموت” وتعمل على إضعاف المقاومة الأوكرانية، حيث تقسم الموقع إلى نصفين تقريبًا بمحور شمالي – جنوبي (كلشفيكا- أوبتين)، وتستهدف بشكل مكثف المنطقة الصناعية في الشمال الشرقي.
خيارات لاحقة
مع الانتهاء من معركة “باخموت”، سيكون أمام القوات الروسية منطقة أخيرة وهي “أرتيوموفسك” لإحكام السيطرة على جغرافيا إقليم دونباس. ولكن قبل ذلك، ستكون روسيا قد أمّنت بشكل رئيس السيطرة على خط الدفاع الدول في المنطقة، حيث ستسيطر على نقاط الإمداد والحركة الرئيسة (السكة الحديدية، والطريق الدولي)، وستؤمن في الخط الخلفي أيضا “سيفرودونتسيك” و”ليسشانسك”. بالإضافة إلى أن تلك السيطرة قد تمنح روسيا الأمل مرة أخرى في الاتجاه شمال عبر محور ليمان كرما تورسك، باتجاه “خاركيف”، لاسيما من المناطق التي كانت قد انسحبت منها. ومع ذلك، من الأهمية بمكان الأخذ في الحسبان أن أي تمدد إضافي يتطلب أولًا نجاح القيادة الميدانية الروسية الجديدة في تبديد الانطباعات السلبية التي أحاطت بالجيش الروسي بشكل عام، بالإضافة إلى إنقاذ عملية التعبئة المتعثرة.
في المقابل لذلك، ربما أخفقت القوات الأوكرانية في استعادة تلك المواقع رغم محاولاتها المستميتة في إفشال عملية السيطرة الروسية، اذ يحسب لها تكبيد الجانب الروسي كلفة هائلة وتأخير الفوز في المعركة. وفي هذا السياق ووفق تقديرات غربية، تنصح القيادات العسكرية الغربية كييف بادخار جهودها لما هو قادم ما بعد دونباس، خاصة وأن مواقعها المتقدمة في محاور “كريمينا” تمنحها القدرة على زيادة الكلفة والأعباء على القوات الروسية، ربما يعني ذلك تقييمًا غربيًا بحسم معركة “باخموت” ومن ثم تنصح بعدم إهدار المزيد من الوقت والجهد من الجانب الأوكراني.
بالنسبة لروسيا، سيكون الاتجاه القادم وفق ثلاثة خيارات، أو التنويع ما بينها في نفس الوقت، وهي: التركيز شمالا من مسار باخموت – سوليدار باتجاه “خاركيف”، أو جنوبًا للانتقال إلى الضفة الغربية لخيرسون في الوقت الذي تسعى فيه القوة الروسية إلى بناء الجسور التي سبق استهدافها من الجانب الأوكرانية؛ لبناء استحكامات تقود إلى تأمين الجبهة الخلفية في “القرم” بالإضافة إلى “زابوريجيا”، وفي الوقت نفسه ثمة تعزيزات روسية في جنوب بيلاروسيا المتاخم لأوكرانيا، إلا أن التقديرات الأوكرانية تقلل من شان هذه الخطوة، لكن فيما يبدو أن الهدف تشكيل محور ضغط على كييف للتعامل مع التطورات المحتملة في المستقبل.
أما سياسيًا، فعلى الأرجح أن روسيا ستلجأ إلى ورقة الدبلوماسية ما بعد “باخموت”. وبغض النظر عن أن مدى نجاح معركة دبلوماسية ربما سيكون أطول وأصعب من الحرب في ضوء مواقف الأطراف المعلنة، لكن قد يكون الأهم في هذا الصدد هو وضع أوكرانيا خارج مناطق السيطرة الروسية، فحاليًا تجري عملية تغير وجه القوة الأوكرانية المسلحة بالكامل، عمليًا مع انتهاء العام الأول للحرب بحلول فبراير 2023 سيكون تسليح أوكرانيا هو تسليح “ناتو” بالكامل تقريبًا، في حين أن بناء نظام دفاعي غربي متعدد الطبقات في أوكرانيا سيشكل حائط صد أمام محاولات التوسع الروسية في تلك المناطق أو استهدافها.
ربما لا تفكر روسيا في التمدد عمليًا بالنظر إلى حدود قدراتها وقواتها، لكنها ستواجه جيشًا أوكرانيًا بمواصفات غربية، بخلاف ذلك الجيش الذي واجهته في عام الحرب الأول، حيث فرضت الحرب تسليح الأفراد لتشكيل المقاومة بأسلحة تناسب ذلك، وتم استهلاك معظم الأسلحة السوفيتية التي تم جمعها من كافة الدول الممكنة. ويتم حاليًا تجميع أسلحة غربية بالوتيرة ذاتها، ورغم التحديات التي تواجه ذلك، لكن في الأخير سيكون هناك أمر واقع جديد، ربما سيعزز هذا الوضع من اللجوء إلى وقف إطلاق النار، وربما ستعود أوكرانيا إلى المطالبة بالانضمام إلى الناتو، هذا إن لم تنحرف الحرب إلى السيناريو الأسوأ. لكن هذا السيناريو قد يعني المعادلة الواقعية، وربما قد يعني من جانب آخر أن “باخموت” ستكتب الفصل الأول من فصول الحرب الروسية في أوكرانيا ليس أكثر في رواية لا يزال من المتوقع أنها ستحفل بالمزيد من الفصول.
.
رابط المصدر: