أشار تقرير حديث لوكالة “بلومبرغ”، للمشاعر المعادية والمتنامية للرأي العام المجري تجاه الاتحاد الأوروبي، حيث يبلغ دعم الاتحاد الأوروبي بين المواطنين في المجر 39% حالياً وفقًا لأحدث استطلاع ل “يوروباروميتر”، في حين أن هذا الدعم كان يبلغ 51% في نفس الوقت من العام الماضي. وهي نسبة هائلة جعلت المجر من أقل الدول دعمًا للاتحاد، تزامن مع هذا الانخفاض ما أورده التقرير لبالون الاختبار الذي أطلقته الحكومة المجرية أثناء جائحة كورونا على لسان وزير المالية المجري من خلال طرح فكرة “هوكست” على غرار الخروج البريطاني “بريكست“، حيث صرح بأنَّ عضوية الاتحاد الأوروبي قد “تُصاغ من منظور جديد” بمجرد أن تصبح المجر مساهماً صافياً في ميزانية التكتل.
تلك التغيرات على المستوى الشعبي والحكومي المجري، تجعلنا نثير عدة تساؤلات، أبرزها: لماذا يدور هذا الحديث الأن بالرغم من أن المجر من أكبر المستفيدين من عضويتها بالاتحاد؟ ومدى جدية هذا الطرح من الأساس؟ وما الدافع وراء هذا السلوك والمنحى المجرى المعادي للاتحاد الأوروبي ومؤسساته؟ وما مستقبله؟
واقع المجر داخل الاتحاد الأوروبي:
انضمت المجر للاتحاد الأوروبي عام 2004، مع دول مجموعة فيشغراد Visegrád التي تضم التشيك وسلوفاكيا وبولندا. ويقدر عدد سكانها ب 10 ملايين نسمة، من حجم سكان الاتحاد الذي يصل ل 447.7 مليون نسمة. ولا يتجاوز الناتج المحلى الإجمالي الحقيقي للبلاد نص تريليون دول، حيث قُدر ب 326.186 مليار دولار لعام 2021. وتجاور البلاد سبع دول منها أوكرانيا وأن كان حدودها معها، من ضمن الأقل مقارنة بباقي الدول السبع. إلا أنها تلعب دورًا مهمًا لحد ما، بسبب موقعها للاتحاد بخاصة فيما يتصل بعلاقاته مع دول غرب البلقان، لعلاقات البلاد المهمة مع صربيا التي تلعب دور محوريًا في استقرار منطقة غرب البلقان، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، فتقاربها وتنسيقها المستمر مع بولندا، جعل منهم ثنائي مثير للقلاقل بالنسبة للاتحاد في السنوات الأخيرة.
امتلك هذا الثنائي تاريخيًا، عدد من المحاولات العرقلة لخطط الاتحاد، كوسيلة ضغط لتمرير أولويات سياساتهما الداخلية والتي تتعارض مع متطلبات عضويتهما بالاتحاد الأوروبي، والتي تستلزم قدرًا من الالتزام القانوني والذي تقوم على متابعته محكمة العدل الأوروبي، هذا الالتزام نابع من المزايا الاقتصادية والسياسية التي توفرها عضوية الاتحاد. وكان أخر تلك المواجهات بين الاتحاد والثنائي، والتي ترتب عليها تحولًا في سلوك المفوضية تجاه البلدين، ترتب عليه ممارستها لقدرة أكبر على البلدين، لم تملكها من قبل. ففي ديسمبر 2020، تبنت المفوضية الأوروبية لائحة لضمان سيادة القانون، وترتب عليها منح الاتحاد الأوروبي سلطة حجب التمويل عن الدول الأعضاء إذا تبين أنها تجاهلت سيادة القانون. استهدف هذا القانون البلدين خصيصًا، نظرًا لقيام بولندا بإصدار تشريع يبرر تجاوز المحاكم الوطنية قوانين محكمة العدل الأوروبية، وهو ما يتنافى مع أساس عضويتها. بينما قام النظام المجري بعدة إجراءات متحدية لقوانين الاتحاد متعلقة بسيطرة الحكومة بشكل أكبر على القضاء والأعلام، مثيرة في الوقت ذاته عدة شبهات للفساد. وقد حاولت البلدين على اللائحة أمام محكمة العدل الأوروبية(CJEU) بأن الاتحاد الأوروبي يمكنه حجب التمويل طالما أن انتهاكات سيادة القانون تهدد “الإدارة المالية السليمة لميزانية الاتحاد”. وقد مهد هذا الحكم الطريق أمام بروكسل للبدء في حجب التمويل عن بودابست ووارسو.
لذا في 18 سبتمبر الماضي، أوصت المفوضية بأن يحجب الاتحاد الأوروبي حوالي 7.5 مليار يورو من التمويل عن المجر إذا لم يتبنوا سبعة عشر إصلاحًا لمكافحة الفساد. تشمل الإجراءات المقترحة إنشاء هيئة النزاهة لمراقبة الاستخدامات الفاسدة لتمويل الاتحاد الأوروبي من قبل الدولة المجرية. علاوة على ذلك، يمكن للاتحاد الأوروبي حجب 5.8 مليار يورو إضافية من صندوق التعافي من فيروس كوفيد -19 حتى تتبنى بودابست الإصلاحات. وفى ديسمبر الماضي، هددت بروكسل بتجميد المبلغ الإجمالي للأموال المخصصة للمجر في ميزانية الاتحاد الأوروبي حتى عام 2027 – ما مجموعه 22 مليار يورو، في وقت تعاني البلاد من تضخم وصل لنحو 25%، وهو من ضمن الأعلى في الاتحاد الأوروبي.
موقفها المعادي لأوكرانيا. لم تقف حدود الخلاف بين الطرفين الأوروبي والمجري، عند عتبة السياسات الداخلية، كشأن العديد من الدول الأوروبية؛ بل امتد للتغريد خارج سرب التضامن الأوروبي مع أوكرانيا. فعلى الرغم من أن المجر قد فتحت حدودها الشرقية أمام الأوكرانيين الفارين من الغزو الروسي، فقد عبر أكثر من مليون لاجئ أوكراني الحدود المجرية منذ الغزو الروسي لبلادهم قبل أكثر من عام. لكن وفقاً لبيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، 35 ألفاً فقط تقدموا بطلب للحصول على وضع الحماية المؤقتة للاتحاد الأوروبي في المجر. وهذا أقل بكثير من أي دولة أخرى في الاتحاد الأوروبي تقريباً من حيث نصيب الفرد، والعدد أقل بكثير مما هو عليه في بلدان أخرى غرب أوكرانيا، مثل بولندا وجمهورية التشيك.
إلا أن المجر رفضت تقديم أي مساعدات عسكرية لكييف ومنعت نقل الأسلحة إلى أوكرانيا عبر أراضيها. بل أنها كانت من أوائل الدول التي أكدت على موافقاتها على تقديم مدفوعاتها بالروبل لروسيا، ولم تنضم لأي حزم عقوبات تتصل بوقف استيراد النفط أو الغاز الروسي، بل وهددت بوقف التمويل الأوروبي لأوكرانيا، لو لم يتم استثنائها من حزم العقوبات تلك. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد لانتقاد الحكومة للجانب الأوكراني والغربي، وتحميله مسئولية استمرار الحرب، وبالتبعية تحميله تبعية الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها البلاد بسبب الحرب، بالرغم من عدم مشاركتها بأي شكل فيها. بل أن رئيس الوزراء “فيكتور أوربان” بالتزامن مع مرور عام على الحرب الروسية الأوكرانية، صرّح بأن روسيا نجحت بالفعل في جعل أوكرانيا حطامًا لا يمكن السيطرة عليه. حيث قال أوربان خلال مناقشة مائدة مستديرة وصفها في The American Conservative: “إنها أفغانستان الآن”. وقال إن فلاديمير بوتين لن يخسر والوقت في صالح روسيا، واصفاً أوكرانيا بأنها “أرض لا أحد”.
مسيرة التحول المجري نحو التشدد:
على الرغم من أن المجر تُعد ثاني أكبر متلق لأموال الاتحاد الأوروبي بعد بولندا، وفي السنوات الأخيرة، شكلت هذه الأموال ما متوسطه 3-4 ٪ من الناتج القومي الإجمالي للبلاد، وهو ما يتوافق تقريبًا مع نموها الاقتصادي السنوي. وقد تجاوز حجم ما تلقته البلاد من مساعدات منذ عضويتها بالاتحاد الأوروبي أكثر من 100 مليار يورو، وهو من بين أعلى مستويات الدعم نسبةً لنصيب الفرد. توزعت في الفترة من 2010 إلى 2021، كالتالي:
المصدر: 2023 Statista . ملحوظة: 1 يورو يساوى 371.9 فورنت مجري.
وسبقها كذلك مساعدة الاتحاد الأوروبي المجر، من خلال تقديم قرض مخفض الفائدة بعد الأزمة، التي تعرضت لها البلاد في 2008. حيث تلقت المجر 14.2 مليار يورو، منهم 8.7 مليار يورو من صندوق النقد الدولي و5.5 مليار يورو من الاتحاد الأوروبي. بالإضافة للمساهمة الكبيرة للاتحاد ودوله في تنمية الاقتصاد المجري. حيث تمثل التجارة داخل الاتحاد الأوروبي 78٪ من صادرات المجر (ألمانيا 28٪ ورومانيا وسلوفاكيا والنمسا وإيطاليا كلها 5٪)، وخارج الاتحاد الأوروبي 3٪ تذهب إلى الولايات المتحدة و3٪ إلى المملكة المتحدة. ومن حيث الواردات، يأتي 71٪ من الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا 24٪، النمسا 6٪، بولندا وهولندا 5٪)، بينما من خارج الاتحاد الأوروبي 9٪ تأتي من الصين و4٪ من جمهورية كوريا. بالإضافة للدور الكبير الذي لعبته ألمانيا عن طريق شركاتها في إثراء الاقتصاد المجري. ففي عام 2010، كانت المجر مدينة لصندوق النقد الدولي وكان الاقتصاد في حالة سيئة. إلا أن دخول الصناعة الألمانية وبخاصة صناعة السيارات، وفرت على سبيل المثال، بحلول عام 2018 نصف مليون فرصة عمل مجرية. ويشكل التصنيع للشركات الألمانية جزءًا كبيرًا من الصناعة المجرية. حيث يمثل تصنيع السيارات الألمانية في المجر 28.8 في المائة من جميع الصادرات المجرية.
تلك الفوائد الاقتصادية، كانت السبب في أن المجر قبيل انضمامها للاتحاد الأوروبي وبعد انضمامها بسنوات. كانت من أكبر الداعمين لعضوية الاتحاد، حيث صوت 84% من المشاركين في الاستفتاء على الانضمام للاتحاد في 2003، بالموافقة. ومنذ ذلك الوقت، تذبذب الدعم للاتحاد، وفقًا للظروف الاقتصادية والأزمات التي تتعرض لها البلاد. فقد ككان لدى 46٪ من المجريين لديهم صورة إيجابية عن الاتحاد الأوروبي في عام 2004 مقابل 24٪ في عام 2012. وارتفعت التصورات الإيجابية إلى 49٪ في عام 2020. وبالمثل، كان لدى 14٪ تصور سلبي عن الاتحاد الأوروبي في عام 2004. وبلغ هذا الشعور ذروته في عام 2012 عندما ارتفع إلى حوالي ثلث السكان ثم انخفض بحلول عام 2020 إلى 12٪. وبهذا كانت المجر من بين أكثر الدول تشككًا في الاتحاد الأوروبي في عام 2012، كانت واحدة من أكثر الدول دعمًا بحلول عام 2020. وقد انخفض هذا الدعم في الآونة الأخيرة كما تم الإشارة في بداية التقرير.
وقد تم الربط بين هذا التذبذب في الدعم للاتحاد الأوروبي داخل المجر، بعدة عوامل، أبرزها:
أولًا الظروف الاقتصادية، فقد انخفض هذا الدعم لأدنى مستوياته ما بعد الأزمة المالية التي تعرضت لها البلاد في عام 2008، والتي ترتب عليها خسارة الحكومة الليبرالية الداعمة لأيدولوجية الاتحاد، ووصول حزب “فيدس” برئاسة رئيس الوزراء الحالي “فيكتور أوربان” منذ ذلك الوقت عام 2010. ولكن بمجرد دعم الاقتصاد المجري ونموه ارتفعت مستويات الدعم مرة أخرى كما تم التوضيح. وهو ما يتوافق مع الانخفاض الحالي مرة أخرى، بسبب الأوضاع الاقتصادية التي تعاني منها البلاد حاليًا، والتي تحمّل الأداة الإعلامية في البلاد وكذلك الحكومة أسبابها حصرًا للحرب الروسية الأوكرانية، وأن الغرب باستمرار دعمه لأوكرانيا يساهم في ديمومتها.
ثانيًا، الخلافات الإيديولوجية: تمتلك البلاد تاريخًا يختلف في جوهره عن القيم التي تأسس عليها الاتحاد. فقد بدأت تأسيس الاتحاد من جانب الغرب للقارة الأوروبية، الذي يملك تاريخًا يختلف عن شرق القارة. حيث أن الجر تملك تاريخيا طويلا ومتجذرا من إعلاء القيم المسيحية واعتبارها ركنًا اساسيًا في الحكم، امتزج ذلك مع تاريخها كدولة شيوعية سابقة، لم تملك معاداة للاتحاد السوفيتي متجذرة في نظامها، كالعديد من الدول التي عانت من حكمها تحت سلطة الاتحاد السوفيتي. هذا المتغيران، ساهما في تكرار صدام البلاد مع سياساتها وقوانينها الليبرالية كقوانين دعم مجتمعات الميم وغيرها، وكذلك تشددها تجاه اللاجئين السوريين، ورفضها استقبالهم، بسبب هوياتهم الدينية المختلفة. هذان البعدان، يفسرا لما يتعامل المواطنين المجريين مع عضوية الاتحاد، بشكل براجماتي، بحسب ما توفره من مزايا، دون تجذر للرؤية المشتركة للقيم بعكس أغلب الدول في غرب الاتحاد الأوروبي.
التوجه شرقًا: التقارب المجري مع الصين وروسيا:
ساهم في اذكاء التذبذب لدى الرأي العام المجري تجاه الاتحاد الأوروبي كذلك؛ التوجه الذي اتبعته حكومة رئيس الوزراء الحالي منذ تولية منصبه عام 2010، بالتوجه شرقًا. حيث أنه بالعودة إلى عام 2008، عندما هاجمت روسيا جورجيا، فقد سارع أوربان – الذي كان آنذاك في المعارضة السياسية – إلى إدانة العدوان الروسي، وصرح بوضوح أن “العدوان العسكري هو عدوان عسكري”. في الفترة التي تلت ذلك، وعلى خلفية من عدم اليقين الاقتصادي، وما تعرضت له البلاد من هزات اقتصادية عميقة. قام أوربان وحكومته بتطوير سياسة “التوجه شرقًا” بغرض تنويع الاستثمارات في الاقتصاد بما يضمن نموه. واكتسبت تلك السياسة قبولًا بخاصة من الناخبين الريفيين الذين لم يتمتعوا بنفس الفرص التي تتمتع بها النخبة الليبرالية في بودابست من عضوية الاتحاد الأوروبي. وعزز بريق هذا التوجه، أن هذا التقارب مع الدول غير الغربية، يعزز الخطاب الهوياتى الرافض لما يعتبره أوربان ومؤيدوه بالمعتقدات الغربية المعادية للقيم المسيحية المحافظة.
لذا بالنسبة لتقاربها مع الصين، في السنوات التي أعقبت عام 2012، جاء أكثر من نصف الاستثمار الأجنبي المباشر الصيني إلى بلدان أوروبا الوسطى والشرقية إلى المجر. وفي عام 2020، أصبحت الصين، ولأول مرة، أكبر مستثمر أجنبي في المجر. ووفقًا لوزارة التجارة الصينية، بلغ إجمالي حجم التجارة عام 2021، بين المجر والصين أكثر من 11 مليار دولار. وكان أحد المشاريع الصينية البارزة في المجر هو خط السكك الحديدية بين بودابست وبلغراد، الذي تم تمويله من خلال قرض صيني ويمكن القول إنه أهم مشروع لمبادرة الحزام والطريق في أوروبا. في أغسطس 2022، أعلنت شركة Contemporary Amperex Technology Co.، Limited (CATL) الصينية عن خطط لفتح مصنع جديد لبطاريات السيارات في المجر. باستثمار 7.3 مليار يورو، أي أكثر بثلاث مرات من أكبر استثمار سابق في المجر، ومن المتوقع أنه سيكون المصنع الأكبر للشركة في أوروبا ولهذا فهو له أهمية استراتيجية للمجر. وتمثل المجر للصين منصة تمكنها من تطوير العلاقات الاقتصادية مع أوروبا، وخاصة مع دول أوروبا الوسطى والشرقية. بالإضافة لأن الجانب الصيني يعتبر الاستثمار في المجر بالذات، بمثابة أداة لتمثيل المصالح الصينية في أوروبا، وناقل لوجهات النظر الصينية في المؤسسات الأوروبية، وفى الظروف القصوى فامتلاك المجر للقدرة على عرقلة السياسات التي تتُخذ بالإجماع، سبب رئيسي في تطوير علاقتها مع المجر. والمثال على ذلك، قيام الحكومة المجرية في عام 2021، بمنع بيانًا صادرًا عن الاتحاد الأوروبي ينتقد الصين بسبب قانون الأمن في هونج كونج.
أما بالنسبة لعلاقاتها مع روسيا، يتركز ثقلها الأكبر في قطاع الطاقة، حيث تعتبر الإدارة المجرية أن توفير الطاقة بأسعار رخيصة، من أهدافها الرئيسية. فبالإضافة لما تم توضيحيه سابقًا من رفض المجر تمرير أي حزم عقوبات تمتد لقطاع الطاقة الروسي بالبلاد على إثر الحرب الروسية الأوكرانية. بل زادت البلاد من اعتمادها على روسيا، ففي أغسطس الماضي، بدأت شركة الغاز الروسية العملاقة غازبروم بتزويد المجر بكميات إضافية طلبتها حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان لمعالجة مخاوف إمدادات الطاقة الشتوية. وتوفر غازبروم ما يزيد على 80% من احتياجات المجر من النفط، و25% من الكهرباء.
وفى عام 2014، ما بعد غزو روسيا للقرم، وقعت المجر على بناء خط أنابيب “ترك ستريم” الذي تم افتتاحه عام 2021، والذي يهدف لتقليل اعتماد روسيا على أوكرانيا ككمر عبور. وكذلك قامت المجر بتوقيع اتفاقية مشتركة مع روسيا في عام 2014 تنص على أن روساتوم ستبني مفاعلين جديدين في منشأة الطاقة النووية باكس بتكلفة تقدر بنحو 12 مليار يورو. امتد هذا التعاون للقطاع المصرفي، ففي أبريل 2021، أعلنت وزارة الخارجية المجرية أن المجر ستصبح أول دولة عضو في الاتحاد الأوروبي تنضم إلى بنك التنمية الأوراسي ومقره موسكو.
وقد أبرزت الحكومة رؤيتها للعلاقات مع روسيا بشكل جلى، من خلال خطاب حالة الأمة السنوي في بودابست، والتي تزامن مع مرور عام على الحرب الروسية الأوكرانية، والذي ألقاه رئيس الوزراء المجرى، قائلًا “سنحافظ على علاقاتنا الاقتصادية مع روسيا، وهذا ما نقترحه على حلفائنا أيضا”. مضيفًا إن “الحكومة المجرية لا تعتبر الاقتراح بأن روسيا تشكل تهديدًا لأمن المجر أو أوروبا أمرًا واقعيًا”.
انعكاس ذلك على علاقاتها مع الولايات المتحدة، كان للنهج المجرى المتقارب مع روسيا والصين، تكلفته على علاقاتها مع الولايات المتحدة، وبخاصة مع إدارة الرئيس الحالي “جو بايدن”، الذي يناصبه أوربان العداء، نظرًا لدعمه الكبير للرئيس السابق “دونالد ترامب”.
ففي 14 إبريل الماضي، وقعت الحكومة الأمريكية عقوبات على بنك الاستثمار الدولي الروسي المجري (IIB) وإدارته ونائب رئيس بنك الاستثمار الدولي “إيمري لازلوشكي”، وهو مواطن مجري. وإن بنك الاستثمار الدولي ليس مجرد بنك ، بل هو أحد البنوك التي تمتلك المجر حوالي 25٪ من أسهمها ، مع امتلاك روسيا لأغلب الأسهم الباقية. ويُعرف IIB أيضًا باسم “بنك التجسس”، حيث تتكون أغلب قياداته من أفراد مرتبطين بجهاز الاستخبارات الروسي FSB. ينحدر رئيس بنك الاستثمار الدولي نيكولاي كوسوف من عائلة من ضباط المخابرات السوفيتية. وقد اضطرت المجر لسحب موظفيها، على أثر هذا القرار، وإن تم استقبله بشكل غاضب.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، ففي الشهر ذاته، تم الإعلان عن قيام مجموعة أعضاء من الحزبين في الكونجرس بصياغة عقوبات أمريكية تستهدف شخصيات سياسية مجرية بارزة مرتبطة بحكومة أوربان. وسوف يسمي مشروع قانون العقوبات للمسؤولين السابقين وأنصار الحكومة، الذين ينتمون في الغالب إلى حزب فيدس الحاكم. وقال مسؤولون مطلعون على عملية الصياغة إن التشريع قيد الإعداد منذ العام الماضي ومن المتوقع أن يعرض على الكونجرس في أقرب وقت الشهر المقبل حيث من المرجح أن يحظى بتأييد واسع.
في الختام
والرغم من هذا الاحتدام في العلاقات بين المجر والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، والذي يُغذيه أمل رئيس الوزراء المجري في عودة حليفه المقرب، الرئيس الأمريكي السابق” دونالد ترامب” من ناحية، ومن ناحية أخرى قدرة روسيا على حسم الحرب لصالحها، أو ملل وتراجع الغرب عن دعم أوكرانيا، بما قد يثبت صحة سياساته، وإفلاته من أي تبعات لسلوك إدارته. إلا أن هذا لا يمنع أن رئيس الوزراء المجري يتميز بقدرة على التراجع في الوقت التي تصبح فيه قراراته مكلفة، وهو ما يتضح في تمريره لكل حزم العقوبات، وسحب موظفي بلاده من بنك الاستثمار، وموافقته على انضمام فنلندا للناتو بعد ابداء رفضه.
وبهذا يمكن أن نعتبر أن إثارة الحكومة المجرية لتلك القلاقل والجدل، ومنها ما تعرضنا له سابقًا بدعوتها المستترة للخروج من الاتحاد، وإثارة الرأي العام المجري ضد الاتحاد الأوروبي؛ سياسة تتبعها الحكومة المجرية لتعظيم مكاسبها من كافة الأطراف سواء الاتحاد أو الصين وروسيا، بالإضافة لمساهمة تلك السياسة في تحويل جزء من غضب الشعب المجري بسبب ظروفه الاقتصادية، لأطراف خارجية، لحين ما تسطع الحكومة مواجهة تلك الأزمات، مثل ما فعلت سابقًا في الفترة من 2010 ل 2012.
.
رابط المصدر: