ماري ديجيفسكي
ربما يكون هذا من بنات خيالي فحسب. إنما يبدو لي أن الأسبوع الأول من أكتوبر (تشرين الأول) سجّل تغيراً حاداً، أو منعطفاً حتى في مسار حملة جو بايدن الرئاسية. بات فجأة يتصرف كما الرجل الذي توقف عن الأمل وبدأ بالإيمان بأنه قادر على الفوز حقاً.
لا يتعلق التغيير باستطلاعات الرأي، مع أنها تظهر أن هامش تقدّم المرشح الديمقراطي على الرئيس دونالد ترمب أصبح أكبر بعد المناظرة التلفزيونية الأولى بينهما في 29 سبتمبر (أيلول)، ومجدداً بعد إقامة ترمب الوجيزة في المستشفى لإصابته بفيروس كورونا. وتبيّن حصيلة استطلاعات الرأي الأميركية الحالية تقدّم بايدن بتسع نقاط، مع أن العديد من الاستطلاعات تُظهر فارقاً أوسع بكثير.
ولا يتعلق الأمر بمحتوى خطاباته. إن قرأتم نصوص خطاباته الأخيرة، من المهرجانات الانتخابية التي عقدها في ولايتي ميشيغان وفلوريدا المتأرجحتين، ستجدونها مشابهة لخطاباته السابقة: أطول من اللازم بعض الشيء، وفيها المزيج نفسه من الشعبي والتفصيلي الممل كما سابقاتها.
لكن راقبوا طريقة إلقائه (خطاباته). لم يعد هذا المرشح الجاثم في قبو منزله في ديلاوير كما اعتُقد، والمتردد في الخروج إلى عالم تنتشر فيه الجائحة وفي الاحتكاك مباشرة مع غريمه المنمّق. تغيّرت لغة جسده ونبرة صوته. وأصبحتا فجأة أقرب إلى (الشكل) الرئاسي. كما لو أن البرهان على ضعف ترمب الجسدي أعطاه الإذن بأن يمسك بزمام الأمور.
لم يعد نائب الرئيس الأبدي. وبات لديه بالفعل مرشحة لمنصب نائب الرئيس أظهرت كفاءة في مناظرتها الخاصة مع نائب ترمب، مايك بنس. إن كان القانون الأول في مناظرة نواب الرئيس عدم إلحاق الضرر- إما بسمعتكم السياسية الخاصة أو الأهم، بسمعة المرشح الرئاسي- فقد نجحت. حتى الآن، في منافسة يسلّط فيها عمر المرشحين الضوء على شريكيهما في الحملة أكثر من العادة، برهنت كامالا هاريس أنها لا تشكل عبئاً.
لكن المجال ما زال مفتوحاً كي تعاكس الأمور جو بايدن قبل 3 نوفمبر (تشرين الثاني). فالمرض، كما أصبح واضحاً جداً، يسري في أميركا. ولدى دونالد ترمب قاعدة شعبية شرسة في ولائها له قد يتبين أنها أكبر مما تظهره استطلاعات الآراء الأولية. وما زال بإمكان بايدن أو هاريس الإقدام على خطوات ناقصة [هفوات] باهظة الثمن في الطريق. كما أن ترمب شديد المهارة في شن الحملات، وهو يستمتع بالمعركة بطريقة لم يبد على جو بايدن في السابق على أي حال أنه يملكها.
لكن بداية أكتوبر فتحت نافذة أمل للديمقراطيين، ربما للمرة الأولى خلال هذه الحملة. ولا يقتصر الأمر على الديمقراطيين الأميركيين، بل يشمل جميعهم حول العالم، لا سيما في أوروبا، حيث يُنظر بشكل كبير إلى تولي بايدن الرئاسة على أنه مستهل العودة إلى وضع طبيعي مريح بعد مرور أربع سنوات مريعة. لكن إلى أي درجة تُعتبر هذه الآمال مبررة، هو أمر مختلف. وأخشى أنها من قبيل تفكير تحفه المخاطر أقرب إلى التمنيات منه إلى الوقائع، وتقوم على النفور من دونالد ترمب وعقيدته وعلى حنين مضلّل لسنوات حكم أوباما.
ويمكنني أن أشير بشكل خاص إلى تصوّرين خاطئين بشأن سياسة بايدن الخارجية.
أولهما هي أن إدارة بايدن ستميل أكثر نحو أوروبا وتقدم لها دعماً أكبر مما فعل ترمب، أو سيفعله في حال فوزه بولاية ثانية.
لا شك أنه بصفته من سكان الساحل الشرقي التقليديين، سيكون بايدن أكثر ليونة تجاه الأوروبيين بمن فيهم البريطانيون. وسيكون المسؤولون وكبار الدبلوماسيين الذين يختارهم أكثر ميلاً لإيجاد لغة مشتركة مع لندن وباريس وبرلين. لكن مدى تخطي هذا التغيير حدود آداب السلوك والأمور المُتوقعة كي يصل إلى المضمون هو مسألة مختلفة. وعلى سبيل المثال، لم يصدر أحد أقسى الانتقادات الموجهة إلى أوروبا، بسبب عدم مساهمتها بما يكفي في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، عن ترمب، بل عن وزير الدفاع المنتهية ولايته في ذلك الوقت في إدارة أوباما، روبرت غيتس في عام 2011، عندما حذّر من أن حلف ناتو يواجه خطر التحول إلى “قوة عسكرية جماعية غير صالحة” ما لم يرفع الأوروبيون مستوى مساهمتهم [الدفاعية] فيه.
ونُظر إلى أوباما- الذي ولد ونشأ في هاواي، ولم يكن في رأيه بالمملكة المتحدة ما يبعث على الإطراء- في بعض الأماكن على أنه أول “رئيس باسيفيكي” [نسبة إلى المحيط الهادئ] مع أن بيل كلينتون كان قد أنذر سابقاً بالحاجة في القرن الحادي والعشرين “لتحويل الدفة” باتجاه آسيا. وأغرمت النخبة الأوروبية بفكرة وجود أوباما: باعتباره أول رئيس أميركي أسود، وليبرالي اجتماعي، وشخص لديه ميول المثقّف. لكنه من المنصف القول على الأرجح بأن أوروبا لم تمثّل أولوية في السياسة الخارجية بالنسبة له كما كانت بالنسبة لرؤساء حضرت في ذاكرتهم الحرب الباردة وربما خدموا أنفسهم، أو خدم أقرباؤهم، في القوات العسكرية الأميركية في أوروبا. ربما ينتمي بايدن نظرياً إلى ذلك الجيل- لكن ترمب كذلك- وما بيّنه انتخابه هو أن الولايات المتحدة تخطت تلك المرحلة.
وهذا ما يقودنا إلى التصور الخاطئ الثاني. لا يختلف ترمب في انعزاليته كثيراً عن أوباما، كل ما في الأمر أنه أوقح وأكثر تبجحاً بشأنها مقارنةً بسلفه. كما كان أكثر نجاحاً في تحدي أعلى القيادات في إدارته في إصراره على انسحاب القوات الأميركية إما من العراق أو أفغانستان- أو ألمانيا. وما زال تدخّل الولايات المتحدة في سوريا طيّ الكتمان بدرجة كبيرة.
تتجنب الولايات المتحدة معظم التدخلات في دول أجنبية منذ 12 عاماً. وقد انتُخب أوباما جزئياً بسبب معارضته الحرب على العراق، التي تركت أثراً على الناخبين الأميركيين كما نظرائهم في المملكة المتحدة. ورفض توريط الولايات المتحدة في أوكرانيا في عام 2014 وفي ليبيا (باستثناء التدخل لإنقاذ المملكة المتحدة وفرنسا من مأزق) أو -بشكل علني- في سوريا، حيث حصد بعض اللوم داخلياً بسبب عدم احترامه لـ”الخط الأحمر” الذي فرضه على نفسه بعد ما أشيع عن استخدام الجيش السوري للسلاح الكيماوي.
لم يكن أوباما أبداً ليرفع أي شعار صلف مثل “أميركا أولاً” ومن جانبه، بذل ترمب كل ما قدر عليه من أجل تقديم نفسه على أنه “مختلف عن أوباما” من كل النواحي. لكن النقاط المشتركة بين الاثنين، من خلال عدم تدخلهما ورفضهما موقع القيادة الدولية التي ينطوي عليها هذا الموضوع، أكثر بكثير مما قد يعترف به أي منهما. ولم يقدّم بايدن أي إشارة على أنه سيعكس هذا المسار.
لذا، فيما ما زال من السابق لأوانه كثيراً التعامل مع الولايات المتحدة باعتبارها قوة آفلة، من حيث قدراتها وثرواتها العسكرية، من العسير أن نرى الرئيس المقبل، أياً كان، يسعى أو يحصل على تفويض بفرض سلام أميركي، أو “باكس أمريكانا” Pax Americana جديد. وعلى الأوروبيين الذين يعوّلون على الحماية الأميركية إلى ما لا نهاية أن يعتادوا على هذا الأمر. سواء تجلى ذلك عبر محاولة بناء أحلاف جديدة في المحيط الهادئ أم تحدي الصين في مجال التجارة (كما فعل ترمب)، فإن “تحويل الدفة” [الاستدارة نحو] باتجاه آسيا يجري على قدم وساق.
لكن لا شك في أن زيادة السلوك المتوقع والكياسة في العلاقات الدولية، كما زيادة الحساسية الثقافية تجاه أوروبا يعتد بها، ومن هذا الجانب، قد يحسّن تولي بايدن الرئاسة الأجواء [العلاقات] عبر الأطلسي. إنما لا يمكن لأوروبا وبريطانيا في زمن بريكست أن تسمحا لنفسيهما بالوقوع في إغراء العودة إلى ماضٍ لن يتكرر. فأولويات السياسة الخارجية الأميركية لم تعد نفسها كما كانت منذ 20 عاماً ولن يغيّر ميل جو بايدن السطحي نحو أوروبا من هذا الواقع. وفي أقصى الحالات، سوف يفتح أمامهم- أمامنا- مجالاً للتنفس مدته أربع سنوات من أجل التكيف مع الاعتماد الذاتي الأوروبي على النفس على ما يجدر أن يحصل.
رابط المصدر: