بقلم : د. علي فاضلي – باحث في الدراسات السياسية والدولية. دكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة القاضي عياض-مراكش.
مقدمة:
حظيت منطقة الشرق الأوسط على مدى عقود بأهمية استراتيجية بالغة لدى الولايات المتحدة الأمريكية، وكان منبع تلك الأهمية هو الصراع مع الاتحاد السوفياتي، وحماية والحفاظ على تدفق موارد الطاقة نحو الأسواق الغربية. واستمرت الولايات المتحدة في إيلاء المنطقة أهمية قصوى حتى بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كما تعززت بعد أحداث 11/9 وبعد الغزو الأمريكي لأفغانستان والعراق.
في الوقت الحاضر بدأت تتراجع أهمية المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة لصالح منطقة أهم من الناحية الاستراتيجية للولايات المتحدة، وهي منطقة المحيط الهادي، تحول فرضته مواجهة النفوذ المتنامي للصين، وهو التحدي الذي سيؤطر السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقود المقبلة. عبر انتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي في حوار له قبل الانتخابات الرئاسية الأخيرة عن تراجع أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة للمصالح الأمريكية بالقول “بالنسبة لمسألة الوقت وأولويات الميزانية، أعتقد أننا سنعمل أقل وليس أكثر في الشرق الأوسط”[1].
سيترتب عن تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة العديد من السياسات وعلى رأسها تخفيف التواجد الأمريكي بالمنطقة، وتجميد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، والعودة للاتفاق النووي الإيراني.
- تخفيف التواجد الأمريكي
تعزز التواجد الأمريكي بالشرق الأوسط منذ الاتفاق التاريخي المعروف باتفاقية “كوينسي” بين “فرانكلين روزفلت” والملك عبد العزيز آل سعود سنة 1945، وتأكد هذا التواجد بعد الانسحاب البريطاني من المنطقة أواخر ستينيات القرن الماضي، عبر ما يعرف بعقيدة كارتر، وهي السياسة التي أعلنها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في 23 يناير 1980 باعتباره إن “أي محاولة من جانب قوة خارجية للسيطرة على منطقة الخليج العربي سوف يعتبر بأنه اعتداء على المصالح الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية، وسيتم صد مثل هذا الهجوم بأي وسيلة ضرورية، بما في ذلك القوة العسكرية”[2]، وهي العقيدة التي جاءت ردا على الثورة الإيرانية والاحتلال السوفياتي لأفغانستان.
غير أن انتقال الاهتمام الأمريكي منذ صدور استراتيجية أوباما للأمن القومي سنة 2015 [3] نحو الاهتمام باحتواء النفوذ الصيني المتنامي سيدفع بالولايات المتحدة لتخفيف تواجدها بمنطقة الشرق الأوسط، خصوصا التواجد العسكري.
أعلن الديمقراطيون وبايدن حتى قبل انتخابه رئيسا عن موقف واضح من حرب اليمن، وتعهدوا بإنهاء الدعم للحرب التي تقودها السعودية في اليمن[4]، وهو ما تم بالفعل بعد أسابيع فقط من تنصيب بايدن رئيسا.
كما أعلن الديمقراطيون القطيعة مع المرحلة السابقة والتي تميزت بنشر الآلاف من الجنود الأمريكيين بالمنطقة وشن جربين في أفغانستان والعراق، فقد حان الوقت “لإعادة الغالبية العظمى من جنودنا إلى الوطن من الحروب في أفغانستان والشرق الأوسط، وتحديد مهمتنا بدقة على أنها هزيمة القاعدة وداعش…إن البقاء في صراعات لا يمكن كسبها سيستنزف قدرتنا على القيادة في قضايا أخرى تتطلب اهتمامنا، ويمنعنا من إعادة بناء الأدوات الأخرى للقوة الأمريكية”[5].
وما كادت تمر سنة على انتخابه رئيسا للولايات المتحدة حتى بدأ بايدن في تطبيق تعهداته عبر الانسحاب من أفغانستان، وكذلك عبر تخفيض عدد الأنظمة الدفاعية الجوية في الشرق الأوسط وعلى رأسها بطاريات صواريخ باتريوت في عدد من دول المنطقة.
لكن تراجع الاهتمام الأمريكي بالمنطقة لا يعني التخلي المطلق عنها، فالمنطقة ما تزال تحظى بأهمية استراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها خصوصا الذين تعول عليهم الولايات المتحدة في احتواء الصين (مثل الهند، واليابان، وأستراليا،..)، لكنها دون الأهمية التي باتت تحتلها منطقة المحيط الهادي، فالتحول الكبير في التوجه الأمريكي يعني “طي صفحة عقدين من عمليات الانتشار العسكري واسعة النطاق والحروب المفتوحة في الشرق الأوسط لا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ستتخلى عن منطقة ما يزال لدينا فيها وشركاؤنا مصالح دائمة”[6].
- العودة للاتفاق النووي مع إيران
ليس من قبيل الصدفة أن يتزامن توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة المعروفة بالاتفاق النووي الإيراني مع صدور استراتيجية أوباما للأمن القومي سنة 2015، وهي الاستراتيجية التي شكلت التحول الاستراتيجي نحو منطقة المحيط الهادي، فالانتقال نحو احتواء الصين يتطلب دفع عدد من شركائها نحو الابتعاد عنها أو على الأقل تخفيف الاعتماد عليها، ومن هؤلاء إيران.
كان توقيع الاتفاق النووي ثمرة سلسلة من الجهود والعمل الدبلوماسي خلال عهد الرئيس أوباما، غير أن انتخاب الرئيس ترمب أعاد العلاقات مع إيران لما قبل سنة 2015، بل وصلت العلاقات حدا غير مسبوق من التوتر توج باغتيال قائد فيلق قدس قاسم سليماني، وهذا التوتر في العلاقات يشوش بالتأكيد على الهدف الأمريكي المحوري في احتواء الصين.
وبحكم أن الرئيس بايدن عاين وشارك في إخراج الاتفاق النووي لحيز الوجود من موقعه كنائب لأوباما، فهو يعي بكل تأكيد أهمية الاتفاق، لذلك أعلن قبل انتخابه عن عزمه العودة للاتفاق، وهو أمر أعلنه كذلك الحزب الديمقراطي، “نعتقد أن خطة العمل الشاملة المشتركة تظل أفضل وسيلة لقطع جميع مسارات إيران نحو قنبلة نووية”[7].
لكن بالرغم من هذا الموقف الأمريكي إلا أن بايدن لم يعلن لحد اللحظة العودة للاتفاق النووي، وهو أمر سيقع في المستقبل، غير أن الإدارة الأمريكية الجديدة تريد تعزيز مكاسبها مقابل تلك العودة، وألا تكون تلك العودة عودة مجانية، وكأن الأمر يتعلق بواقع سنة 2015.
بالإضافة إلى أن إدارة بايدن تريد من إيران العودة أولا للاتفاق، وهو شرط سبق أن أعلنه بايدن قبل انتخابه “يجب على طهران العودة إلى الامتثال الصارم للاتفاقية، إذا فعلت ذلك، فسأعود إلى الاتفاقية”[8].
ومن الملفات التي ستسقط من توجهات السياسة الخارجية الأمريكية خلال إدارة بايدن هو العمل العسكري لإسقاط الأنظمة السياسية، ومنها النظام الإيراني “يعتقد الديمقراطيون أنه لا يحق للولايات المتحدة أن تفرض تغيير النظام على دول أخرى، وأن ترفض ذلك باعتباره هدفا لسياسة الولايات المتحدة اتجاه إيران”[9]. لكن هذا لن يحول دون استعمال عمليات عسكرية دقيقة ضد بعض الأهداف الإيرانية وحلفائها في المنطقة عندما تتعرض المصالح الأمريكية للخطر في المنطقة، وكرسائل لنظام الإيراني لعدم استهداف المصالح الأمريكية.
- تجميد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
من الملفات التي ستتأثر بالتوجه الأمريكي الجديد مع إدارة بايدن هو ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، والذي سيتراجع على سلم أولويات السياسة الخارجية خلال المرحلة المقبلة.
ستنتهج إدارة بادين نهج تجميد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي عبر العودة إلى الموقف الأمريكي التقليدي من هذا الصراع، وهو الأمر الذي أعلن عنه من قبل الديمقراطيين حزبا ورئاسة.
سيستمر الموقف الأمريكي الداعم لأمن إسرائيل وتفوقها العسكري في المنطقة، فمن السياسات التي ما تزال ثابتة لدى الديمقراطيين والتي لم تتغير مع إدارة بايدن هي الالتزام بأمن إسرائيل “كمرساة وأساس للديمقراطية في المنطقة”، والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية[10]، فالولايات المتحدة الأمريكية في “حاجة للحفاظ على التزامها الصارم بأمن إسرائيل”[11].
في مقابل الدعم الأمريكي القوي لأمن إسرائيل، ستعمل إدارة بادين على إعادة العلاقة مع السلطة الفلسطينية لمرحلة ما قبل الرئيس ترمب، كما تعهد الديمقراطيون بتقديم المساعدات للفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة، والتأكيد على الموقف الأمريكي المؤيد لحل الدولتين ورفض التوسع الاستيطاني في الأراضي المحتلة[12].
لقد عبرت إدارة بايدن بعد تسلمه السلطة عن اعتزامه إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، كما قامت الإدارة الأمريكية الجديدة باستئناف تقديم المساعدات للفلسطينيين، والتي سبق للرئيس السابق ترمب توقيفها.
كما كان لافتا التعاطي الأمريكي خصوصا إعلاميا مع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة، حيث تم نشر صور الضحايا الفلسطينيين ومعاناتهم في كبريات وسائل الإعلام الأمريكي، كما أصبح أعضاء الكونجرس من الديمقراطيين أكثر جرأة في انتقاد السياسات الإسرائيلية.
إن هذا التعاطي الأمريكي مع الحرب الإسرائيلية على غزة هو تعبير عن غضب أمريكي من التشويش الإسرائيلي على التوجه الأمريكي الجديد نحو الانتقال لاحتواء النفوذ الصيني المتنامي.
خلاصة:
لم تعد منطقة الشرق الأوسط بالأهمية ذاتها التي كانت تحظى بها سابقا لدى الولايات المتحدة الأمريكية، فهذه الأخيرة قامت بانعطافة استراتيجية كبيرة نحو احتواء النفوذ الصيني المتنامي، انعطافة جعلت من منطقة الشرق ترجع في سلم الأولويات الأمريكية مع استمرار أهميتها، وهو توجه سيحكم السياسة الخارجية الأمريكية خلال العقود المقبلة.
إن هذا التحول الاستراتيجي الأمريكي يقتضي من دول المنطقة خصوصا من دول الخليج العربي التفكير في تبعات هذا التحول على المنطقة، والتفكير في حلول لمواجهة الانكشاف الاستراتيجي نتيجة عقود من الاعتماد على الحماية الأمريكية.
[1] . Dialogues on American Foreign Policy and World Affairs: A Conversation with Former Deputy Secretary of State Antony Blinken, Hudson Institute, July 9, 2020 : https://bit.ly/3liRg7k
[2] . https://history.state.gov/historicaldocuments/frus1977-80v18/d45
[3] . National Security Strategy, The White House, February 2015, Available at : https://bit.ly/38WQt77
[4]. 2020 Democratic Party Platform, July 27, 2020, Democrats, Available at : https://bit.ly/3qR4idi
Joseph R. Biden, Jr, Why America Must Lead Again, Foreign Affairs- March/April 2020: https://fam.ag/3bQCHFe
[5] . مصدر سابق:
2020 Democratic Party Platform
[6] . مصدر سابق:
2020 Democratic Party Platform
[7] . مصدر سابق:
2020 Democratic Party Platform
[8] . مصدر سابق:
Joseph R. Biden, Jr, Why America Must Lead Again
[9] . مصدر سابق:
2020 Democratic Party Platform
[10] . مصدر سابق:
Dialogues on American Foreign Policy and World Affairs: A Conversation with Former Deputy Secretary of State Antony Blinken
[11] . مصدر سابق:
2020 Democratic Party Platform
[12] . مصدر سابق:
2020 Democratic Party Platform