بديل استراتيجي: هل تكون موريتانيا مدخلا جديدا لحلف الناتو إلى الساحل الأفريقي؟

عبد المنعم على

 

مثلت دعوة حلف شمال الأطلسي “الناتو” لمشاركة موريتانيا في اجتماع الحلف المنعقد في مدريد نهاية يونيو 2022، تحولًا استراتيجيًا مستجدًا في خضم التفاعلات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الروسية الأوكرانية بصورة عامة، والمساعي لتوسيع دائرة التفاعل البيني وشراكات “الناتو” العابرة للحدود الأوروبية لتشمل الجناح الجنوبي للحلف متضمنًا دول الساحل وذلك في إطار خطوات استباقية لفرض طوق وحزام آمن لحدود دول الناتو الجنوبية.

ولعل الشراكة مترامية الأطراف التي بات يتبعها “الناتو” ناجمة عن تغير معادلة القوة والتوسعات التي حققتها روسيا في غرب إفريقيا، ومن ثم فهي بمثابة تصحيح للحسابات الخاصة بالناتو، وتُمثل إسبانيا حلقة الوصل بين دول غرب إفريقيا وعلى رأسها موريتانيا وبين الحلف، وهو ما فسرته الزيارات الدبلوماسية والعسكرية المختلفة لمسئولين إلى مدريد على مدار العام الجاري، لوضع الخطوط العريضة للتفاعل المشترك والدعم العسكري الواجب تقديمه لموريتانيا في سبيل مواجهة التحديات المختلفة وعلى رأسها ملف الإرهاب والهجرة غير النظامية.

ولم تكن العلاقة التفاعلية بين “الناتو” و”نواكشوط” وليدة اللحظة الراهنة، حيث شهدت مسارًا تصاعديًا من التفاعل البناء منذ عام 1995 على خلفية انضمام “موريتانيا” –من خارج دول الأعضاء بالحلف- لمنظومة الناتو للحوار عبر المتوسط وما تبعها من تعاون ممتد منذ ذلك التاريخ.

أهداف الناتو المتعددة

تحرك حلف الناتو لتعزيز العلاقة مع موريتانيا مدفوع بالرغبة في تحقيق عدد من الأهداف التي كان أهمها:

  • البحث عن البديل الاستراتيجي: تراجعت مؤخرًا بصورة كبيرة وضعية الاعتمادية من قِبل حلف الناتو على كل من “الجزائر والمغرب” في ظل التنافسي الجيوستراتيجي بينهما ضمن معادلة القوى الإقليمية في الشمال الإفريقي، وفي ظل وضعية الانشغال بين الدولتين في إطار من حرب باردة مفتوحة بينهم، توجهت أنظار الناتو لخلق شراكات جديدة وبديل حيوي عن تلك القوتين، وتتمثل في موريتانيا التي تشهد نجاحات متعددة الجبهات، الأولى: في إطار مواجهة الإرهاب والجماعات المسلحة، والثانية: انتهاجها سياسة خارجية متوازنة بين القوى الفاعلة إقليميًا وعالميًا وابتعادها عن سياسة المحاور المختلفة، الثالثة: موقعها الجغرافي حيث تُعد بوابة الغرب الإفريقي لدول الحلف الناتو من ناحية الجنوب ومن ثم حائط صد للمخاطر الأمنية العابرة للحدود (مثل الإرهاب – الهجرة غير النظامية)، الرابعة: ما باتت تحظى به من اكتشافات للغاز على هامش اكتشاف حقل “آحميم” المشترك مع السنغال، تلك المقومات هيأت المناخ أمام مزيد من التنسيق لدول الحلف مع نواكشوط، والابتعاد بشكل أو آخر (نسبيًا) عن مساحة المناورة والتنافس والتجاذبات الجزائرية المغربية.
  • حماية المصالح الاستراتيجية: إن مساعي حلف شمال الأطلسي نحو توسيع حدود ومصادر التهديدات الخاصة به فيما يتعلق بالجناح الجنوبي للحلف ودخول دول جديدة في تلك المعادلة وفي إطار المفهوم الاستراتيجي الجديد للناتو، وفقًا لما صرح به الأمين العام لحلف الناتو ” ينس ستولنتبرغ”، يوليو 2022، يعود بصورة رئيسية في نطاق الترتيبات العالمية الخاصة بمعادلة توازن القوى بشكل عام ومع روسيا والصين على وجه الخصوص في تلك المنطقة، وفي ضوء مساعي الدول الغربية للحفاظ على مصالحها الأمنية والاقتصادية في تلك المنطقة، علاوة على تطلعاتها لضمان وجود وكلاء لهم في المنطقة لتقويض تحركات الجماعات المتطرفة والمسلحة وعلى رأسها عناصر تنظيم داعش والقاعدة ومراقبة الحدود لضبط ملف الهجرة غير النظامية، ومن ثم يمكن القول إن “الناتو” يرغب في توظيف موريتانيا أمنيًا لمواجهة التحركات المضادة لمصالحها من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي تكون خط الدفاع الأول للتصدي للمخاطر الأمنية التي تشهدها منطقة الساحل والصحراء.
  • خلق مساحة تنافس جيوسياسية مع روسيا: إن تزايد التفاعل الموجه من جانب الناتو إلى نواكشوط، يأتي كذلك في إطار مساعي الدول الغربية لمواجهة الأنشطة المختلفة لروسيا ووكلائها في منطقة غرب إفريقيا، ويأتي على رأسها دولة مالي التي باتت تُمثل جبهة أخرى للتصعيد بين روسيا والدول الغربية في ظل حالة الفراغ الأمني الذي تسببت فيه خطة فرنسا لخفض عدد القوات في منطقة الساحل بصورة عامة وفي مالي على وجه الخصوص منذ فبراير 2022، الأمر الذي مثل مساحة مناورة وحركة للاختراقات الجيوسياسية الروسية للغرب الأفريقي، وتمثل التفاعل المتبادل في دعم “مالي” لروسيا في إطار حربها العسكرية مع أوكرانيا، وما تبعها من توقيع اتفاقية عسكرية موقعة بين دولة مالي وروسيا تتمثل في نشر وحدات تابعة لمجموعة “فاغنر” الروسية العسكرية إلى جانب صفقة السلاح المقدمة من جانب موسكو لمالي والمتضمنة طائرات هليكوبتر هجومية من طراز “مي -35 إم” ونظام رادار جوي متقدم، ليس فقط توطيد الشراكات العسكرية مع مالي بل امتدت لتشمل (بوركينافاسو، تشاد، النيجر)، وهو ما يُعد في ضوء أدبيات حلف الناتو بمثابة مهددات لأمنها القومي وكذلك مهددًا للأمن الإقليمي على طول خط حدودها الجنوبي.

ملامح التعاون

ثمة ملامح متعددة تؤشر على مسار التعاون المتزايد والمتبادل بين موريتانيا وحلف الناتو، تؤطر لاستراتيجية تشاركية بين نواكشوط ودول الحلف، وترسخ للمفهوم الاستراتيجي الجديد للحلف، ويمكن توضيحها في النقاط التالية:

  •  الاستجابة المشتركة للمتغيرات الأمنية التي فرضتها الحرب الأوكرانية: إن أحد تطورات الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية التي تفاقمت مطلع العام الجاري وما تبعها من ضغوطات اقتصادية وبروز سياسة المحاور والاستقطاب ليس فقط في إطار البيئة الأوروبية بل على المستوى الأفريقي أدت إلى تبدلات في مسارات التفاعل الغربي مع دول التشابك والتداخل الحدودي معها والمصلحي مع روسيا، وبرز ذلك في الجوار الجنوبي لدول حلف شمال أطلسي وعلى رأسها موريتانيا، الأمر الذي أدى إلى إعادة النظر في الاستراتيجية الكلية للحلف مع توسعات للتعاون العسكري مع دول الجنوب وفي العمق منها “نواكشوط”، ولعل هذا الأمر عكسته وثيقة الولايات المتحدة الجديدة في إفريقيا خاصة في ضوء رغبة الأخيرة تحشيد الدول الإفريقية ذات البعد الاستراتيجي إلى المعسكر الغربي والتصدي للنفوذ الروسي والصيني في القارة السمراء، خاصة في ظل تفاقم حدة التوترات الأمريكية الروسية والأمريكية الصينية مؤخرًا، وباتت ملامح الاستقطاب الأمريكي للقوة الفاعلة في القارة بكافة أقاليمها فيما تضمنته جولة وزير الخارجية “أنتوني بلينكن” إلى القارة والتي بدأت في الثامن من أغسطس 2022.

واتصالًا بالسابق؛ فإن الاهتمام الأمريكي كأحد أعضاء دول حلف الناتو بموريتانيا وخلق مساحة تعاون معها في إطار حلف الناتو وهو ما تجلى في الاجتماع الثنائي الذي جمع وزيري الدولتين على هامش قمة الناتو الماضية والتأكيدات الخاصة بوضعية موريتانيا كشريك رئيسي في الأمن الإقليمي، فضلًا عن تناول السفيرة الأمريكية في نواكشوط “سينثياكيرشت” مساعي واشنطن لتعزيز العمل مع بلدان إفريقيا جنوب الصحراء وفقًا لما تضمنته باستراتيجية الولايات المتحدة الجديدة، وذلك خلال اجتماع جمعها مع وزير الخارجية الموريتاني “محمد سالم”، وذلك في العاشر من أغسطس 2022، لتبرهن جميعها على ملامح التحول البين نحو استراتيجية التضمين المستجدة لحلف الناتو لشركاء من خارج الدائرة الغربية.

  • الزيارات المكثفة والتعاون الممتد: إن مؤشرات توطيد العلاقة بين موريتانيا وحلف شمال الأطلسي (الناتو) برزت بشكل كبير منذ العام الماضي عبر النافذة الدبلوماسية والزيارات الرسمية، حيث جاءت زيارة الرئيس “محمد ولد الغزواني” الرئيس الموريتاني إلى مقر حلف شمال الأطلسي في يناير لعام 2021 والتي تناولت بصورة كبيرة قضايا الأمن والدفاع في منطقة الساحل الأفريقي، ولعل تلك الزيارة كأولى الزيارات الرسمية لرئيس موريتاني منذ عام 1960، لتكرس بذلك مرحلة جديدة من العلاقات والاعتماد المتبادلة لتدخل بذلك العلاقات إلى مرحلة شراكة جديدة، كما أن توصيف الأمين العام المساعد المكلف بالشئون الأمنية في حلف الناتو “خافيير كولومينا” “موريتانيا” بالشريك الوحيد للناتو في منطقة الساحل تُعزز من هذا الطرح، ويبرهن على توجيه التنسيق المستقبلي مع تلك الدولة في منطقة الساحل خاصة في ظل ما تتمتع به من دور قيادي في مجموعة الدول الخمس في الساحل وما حققته من نجاحات في مواجهة الجماعات المسلحة.

الامر الآخر وثيق الصلة يتمثل في دعوة حلف الناتو لموريتانيا للقمة التي انعقدت في مدريد نهاية يونيو 2022، وما تمخض عنها من التعهد بتقديم دعم خاص لموريتانيا تتمثل بتزويدها بأسلحة نوعية وتدريبات عسكرية مختلفة لتعزيز قدراتها في مواجهة الإرهاب بمنطقة الساحل والصحراء، الأمر الذي يعكس تزايد الاهتمام الغربي بمصالحه الاستراتيجية في غرب إفريقيا التي تُعد واحدة من بين أقاليم القارة التي تشهد حالة من الاستقطاب الإقليمي والدولي.

  • تطوير الشراكة والتعاون العسكري: برز ذلك المعلم في أبريل من العام الجاري حين تم عقد مباحثات بين وزير الدفاع الموريتاني “حننا ولد سيدي” والبعثة العسكرية من حلف شمال أطلسي برئاسة “بورا هاليديم أونن” والخاصة بمناقشة ملف الشراكة في مجال الدفاع، كما جاء تعهد حلف الناتو بتزويد موريتانيا بالأسلحة المتطورة والتدريبات العسكرية المشتركة والتي جسدتها الزيارات المتكررة لرؤساء أركان الدفاع لعددٍ من الدول المنضوية تحت مظلة الحلف، كما هو الحال بالنسبة لزيارة رئيس أركان الدفاع الإسباني “تيودورو إستيبان” في الرابع عشر من يوليو 2022، وزيارة قائد قوة برخان الفرنسية “بوسام كونامدور” وقائد القوات الخاصة الفرنسية في ذات الشهر، وكذلك اللقاء الذي جمع الفريق “المختار بلع شعبان” قائد الأركان العامة للجيوش الموريتاني مع الملحق العسكري الأمريكي “زاهي بورجيلي”، جاءت لتبرهن مسار التفاعل العسكري المستقبلي بين دول الحلف وبين نواكشوط، وذلك في مجال تعزيز استشارات الحلف دفاعيا وعسكريا مع الجانب الموريتاني ودعم الحلف لبرامج تدريب قوات الجيش الوطني الموريتاني وكذلك تدريب قوات الأمن والعمل على رفع كفاءة هياكل الأجهزة العسكرية والأمنية في موريتانيا، والتفاعل المشترك في مجالات الاستخبارات والأمن البحري والعمليات الخاصة ومواجهة الجماعات المتطرفة والهجرة غير النظامية.
  • التشبيك الأمني ولعب دور الوسيط: إذا ما كانت إسبانيا تلعب دورًا هامًا في التشبيك وخلق مساحة مشتركة للتفاعل بين موريتانيا ودول حلف الناتو تحقيقًا للرؤية التي تقودها مدريد في محيطها الأوروبي والقائمة على حتمية إشراك دول إفريقيا في منظومة الأمن والدفاع المشترك التي تتبناها دول الحلف، باتت نواكشوط تؤدي دورًا هامًا في إيجاد تفاعل وتشبيك أمني متبادل بين مجموعة G5 وحلف الناتو، برز ذلك في اختيار موريتانيا لاستضافة أعمال ملتقى مشترك بين كليتي الدفاع لمجموعة الخمس وحلف الناتو في الرابع من يوليو 2022، في إطار سياسة التأهيل والتدريب وتطوير المهارات العسكرية المتبادلة للتكتلين، في إطار التعاون المشترك بين نواكشوط وحلف شمال الأطلسي.

وفي التقدير؛ تأتي مساعي دول حلف الناتو لتوطيد شراكاتها العسكرية مع موريتانيا بصورة مكثفة في الآونة الأخيرة، لتدلل على حجم التحولات والتحديات الضاغطة على هذا الحلف وتوسع دائرة المخاطر المحيطة بها، الأمر الذي تطلب معه النظر في استراتيجية الحلف وتفاعلاتها الخارجية وإعادة النظر في مجال أمنه الحيوي، ليضم بذلك مسرحًا جديدًا وتوسعًا لسياسة الحلف العسكرية يتمثل في منطقة الساحل والصحراء، لتأمين الحدود الجنوبية لحلف الناتو من ناحية، ومعادلة النفوذ الروسي في إقليم غرب إفريقيا من ناحية أخرى، وذلك عبر التعويل على موريتانيا وكيلًا لمصالح تلك الدول، والتي فضلت الابتعاد عن وضعية التنافس الجيوستراتيجي المغربي الجزائري.

ومن هذا المنطلق يمكن القول إن المرحلة المقبلة سوف تشهد تعزيزًا عسكريًا ليس فقط على صعيد مجال الدفاع وصفقات الأسلحة المزمع إبرامها مع نواكشوط فحسب، بل سوف يمتد التعاون لمجالات الاستخبارات في تأمين مصالح تلك الدول، وهو الأمر الذي سيستتبعه مزيد من التعاطي عسكريًا من جانب روسيا في تلك المنطقة وعلى رأسها الجزائر ومالي، وإذا ما كان التعاون العسكري للناتو مع موريتانيا سوف يدفع نحو مواجهة التهديدات المتباينة في منطقة الساحل والصحراء، إلا أنه سوف يُعزز من سباق التسلح في إقليم غرب إفريقيا بصورة عامة.

 

.

رابط المصدر:

https://ecss.com.eg/20683/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M