أعلنت السلطات التونسية في 17 أبريل الجاري عن إلقاء القبض على زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، بسبب فيديو مسرب له لمحادثة جمعت بينه وبين قيادات من جبهة الخلاص الوطني قال فيها إن “إبعاد الإسلام السياسي في تونس مشروع لحرب أهلية في البلاد” وفق تعبيره، وأضاف: “تونس بدون نهضة وبدون إسلام سياسي يعني مشروع حرب أهلية”، وقد فاقمت هذه الخطوة من حجم الأزمة المركبة التي يعيشها تيار الإسلام السياسي في تونس، وهي الأزمة التي ترتبط من جانب بالارتدادات التي صاحبت الإجراءات الاستثنائية لقرارات الرئيس قيس سعيد في 25 يوليو 2021 على بنية حركة النهضة، ومن جانب آخر بتوجه السلطات التونسية نحو تحجيم تحركات الحركة وفتح ملفات الإرهاب والفساد التي تورطت فيها.
من يدير حركة النهضة؟
كان التساؤل الرئيس الذي أعقب قرار اعتقال راشد الغنوشي من قبل السلطات التونسية، يتمحور حول الشخصية التي ستقود الحركة بشكل استثنائي في ظل غياب “الغنوشي” عن المشهد، وفي هذا السياق طُرحت 3 أسماء بشكل رئيس لقيادة الحركة وهم نواب رئيس الحركة المتبقيين: منذر أونيسي والعجمي الوريمي ووسيلة الزغلامي، حيث ألقت السلطات التونسية القبض على إثنين آخرين من نواب رئيس الحركة وهم: علي العريض ونور الدين البحيري.
وعقب مرور أسبوع على إلقاء القبض على “الغنوشي”، أعلنت حركة النهضة بشكل رسمي يوم 26 أبريل الجاري عن تكليف منذر أونيسي بتسيير شؤون الحركة “إلى حين زوال مسببات الغياب الطارئ لراشد الغنوشي” وفق بيان للحركة، مع تأكيد “أونيسي” على أن راشد الغنوشي “كان ومازال رئيسًا لحركة النهضة”، فيما يبدو أنه محاولة من قيادة الحركة الحالية للتأكيد على أن “الغنوشي” سيظل المرجعية السياسية والفكرية لحركة النهضة حتى وإن غاب عن قيادتها بشكل مباشر.
وينحدر الونيسي (56 عامًا) من محافظة الكاف، شمال غربي تونس، وهو طبيب مختص في طب وزراعة الكلى، ويعد من بين القيادات البارزة في الحركة حيث انتمى إلى الحركة منذ عام 1984، وظل ينشط داخلها، فيما تم انتخابه عضوًا بمجلس الشورى خلال المؤتمر العام العاشر في 2016.
وضع تنظيمي “غامض” لحركة النهضة
ينص الفصل الـ33 من القانون الأساسي لحركة النهضة الخاص بالشغور في الرئاسة على أنه “يحصل شغور في منصب رئاسة الحركة في حالات، عجز مانع عن أداء مهامه يقدره مجلس الشورى، أو تقديم الاستقالة ثم قبولها من مجلس الشورى، أو الوفاة، وفي حالة حصول شغور في رئاسة الحركة، يتولى مجلس الشورى في أجل شهر من تاريخ حصول الشغور، دعوة مؤتمري آخر مؤتمر عام سابق لانتخاب رئيس جديد للحزب لاستكمال العهدة”، ووفقًا للقانون الأساسي للحركة، إن كانت المدة الباقية على المؤتمر العام أقل من ستة أشهر، فإن مجلس الشورى ينتخب بأغلبية أعضائه رئيسًا جديدًا لاستكمال المدة الباقية.
ما يعني أن “الونيسي” سيتولى رئاسة الحركة بشكل مؤقت إلى حين الاستقرار على هيكل تنظيمي جديد لحركة النهضة، وفي هذا السياق يبدو أننا أمام سيناريوهين رئيسين:
1- أحد السيناريوهات المطروحة بخصوص المستقبل التنظيمي لحركة النهضة يتمثل في توجه الحركة نحو إعادة هيكلة بنائها التنظيمي، استجابةً للضغوط والأزمات الحالية التي تواجهها الحركة، وعلى رأسها التصدعات الداخلية التي تعيشها، وقد يتم ترجمة هذا المسار عبر استمرار “الونيسي” في قيادة “النهضة” بشكل مؤقت، لحين عقد مؤتمر عام جديد بنهاية العام الحالي يُفضي إلى اختيار رئيس جديد للحركة الإسلامية.
وما يعزز من واقعية هذا السيناريو واحتماليته، كون الإطاحة براشد الغنوشي من رئاسة الحركة أصبح مطلبًا رئيسًا بالنسبة للعديد من قادة وقواعد الحركة، وتحميله مسؤولية حالة الفشل التي تعيشها، الأمر الذي دفعه بالفعل إلى التلويح بعدم ترشحه مرة أخرى لرئاسة الحركة في المؤتمر العام القادم، فضلًا عن أن التحقيقات الجارية مع “الغنوشي” في عدد من القضايا قد تدفعه وقيادات الحركة إلى تفضيل هذا السيناريو.
2- أما السيناريو الثاني فيرتبط بشكل رئيس بمآلات ونتائج التحقيقات الجارية مع راشد الغنوشي، ويتمثل في استمراره كقائد لحركة النهضة، حال تبرئته من التهم الموجهة إليه أو إطلاق سراحه مع استمرار التحقيق هذه القضايا، خصوصًا وأن “الغنوشي” يراهن في الفترة الراهنة على بعض الاعتبارات وعلى رأسها تحالفه مع جبهة الخلاص الوطني، وسعيه لتوظيف الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي تعيشها البلاد من أجل الضغط على الرئيس قيس سعيد واستعادة الحضور في المشهد السياسي.
أزمات بنيوية عديدة
تواجه حركة النهضة في الفترة الراهنة العديد من الأزمات البنيوية التي أثرت بالسلب على هيكلها التنظيمي، وهي الأزمات التي ارتبطت بشكل رئيس بتداعيات قرارات الرئيس قيس سعيد الاستثنائية في 25 يوليو 2021، وعلى رأس هذه الأزمات:
1- عدم وجود مسار إصلاحي داخلي: في شهر سبتمبر 2021 تقدم 131 عضوًا وقياديًا بحركة النهضة باستقالتهم، بما في ذلك قيادات من الصف الأول، على غرار عبد اللطيف المكي وسمير ديلو ومحمد بن سالم، وعدد من أعضاء مجلس النواب المُجمد مثل جميلة الكسيكسي والتومي الحمروني ورباب اللطيف ونسيبة بن علي، فضلًا عن عدد من أعضاء المجلس الوطني التأسيسي مثل آمال عزوز، وبعض أعضاء مجلس الشورى الوطني ومجالس الشورى الجهوية والمكاتب الجهوية والمحلية.
وأشار أعضاء وقيادات “النهضة” في بيان الاستقالة الخاص بهم، إلى أن أحد الأسباب الرئيسة لهذه الاستقالة هو “الفشل في الإصلاح الداخلي للحركة، والإقرار بتحمل القيادة الحالية المسؤولية عما وصلت إليه الحركة من عزلة”.
ويروج هذا لسردية الحيلولة دون محاسبة قيادة الحركة – ممثلةً في شخص الغنوشي – على القرارات والسياسات التي أوصلت البلاد والحركة إلى هذه الحالة، والفشل في الحفاظ على التماسك التنظيمي للحركة والتراتبية الخاصة بها خصوصًا ما يتعلق بوجوده على رأس الحركة، وذلك عبر احتكار عملية صنع القرار، وتهميش الأصوات المخالفة له، وإعاقة كل محاولات الإصلاح الداخلي التي تصاعدت بعد 25 يوليو، وهو ما تجسد في قرار الغنوشي في 23 أغسطس 2021 بحل المكتب التنفيذي للحركة، والتحرك من أجل إعادة تشكيله.
2- الصراع “الجيلي” داخل حركة النهضة: حركة النهضة كغيرها من حركات الإسلام السياسي التي تدور في فلك تنظيم الإخوان المسلمين، على مستوى معاناتها من أزمة جيلية كبيرة، ترتبط بشكل رئيس بحالة السخط التي تسيطر على القطاعات الشبابية تجاه قيادات أو “صقور الجماعة”، وتحميلهم مسؤولية الفشل الذي وصل إليه هذا التيار في السنوات الأخيرة.
وقد صعدت هذه الأزمة إلى السطح بشكل واضح عقب 25 يوليو 2021، وهو ما تجسد بشكل واضح في البيان المُسمى بـ “تصحيح المسار”، إذ وقع 130 شابًا من الحركة بيانًا في أواخر يوليو 2021، اتهموا فيه قيادة الحزب وعلى رأسهم الغنوشي بالفشل والتقصير، وطالبوا فيه بضرورة “تغليب المصالح الوطنية التونسية على الحسابات الضيقة لقيادات الحركة”، لكن الغنوشي لم يلتفت إلى هذه الدعوات.
3- افتقاد الحركة للتماسك الأيديولوجي: على عكس ما تروج له قيادات حركة “النهضة”، تعاني الحركة من تباينات واختلافات كبيرة على المستوى الأيديولوجي والسياسي، وهى التباينات التي كشف عنها من قبل النائب الأسبق لرئيس الحركة عبد الفتاح مورو، في حوار له مع صحيفة “المغرب” في 27 أغسطس 2011، حيث صنف مورو في الحوار الإسلاميين داخل الحركة إلى ثلاث فئات: فئة لا تؤمن بالديمقراطية وتستعملها للوصول إلى الحكم لا غير، وفئة تؤمن بـديمقراطية فئوية إقصائية، وفئة تستعمل الديمقراطية لمصالح ذاتية، وقد عبرت هذه التصريحات بشكل واضح عن أن البنية التنظيمية لحركة “النهضة” سواءً على مستوى القيادات أو القواعد، غير متماسكة أو متفقة على المستوى الأيديولوجي أو السياسي، وهو الاعتبار الذي يجعل مثل هذه الاضطرابات والانقسامات أمرًا طبيعيًا لكنه يحتاج فقط إلى سياق يحفز تفاقمه وظهوره.
4- إدارة “الغنوشي” السلطوية للحركة: تفتقد حركة “النهضة”- كسائر أفرع الإخوان المسلمين في المنطقة- للشفافية فيما يتعلق بمسائل الترقية الداخلية، وعملية صنع القرار، إذ يحتكر الأمرين مجموعة ضيقة من شيوخ الجماعة بكافة أفرعها، وقد وجد شباب الحركة في المتغيرات التي صاحبت قرارات الرئيس قيس سعيّد في 25 يوليو، فرصة للمطالبة بتنحي هذه القيادات جانبًا، ومحاسبتها على أخطائها، وإفساح المجال أمام الشباب والإصلاحيين لقيادة المرحلة المقبلة، لكن هذا الاتجاه فوجئ بالنهج السلطوي الذي تعامل به الغنوشي مع مطالبهم، حيث ضرب عرض الحائط بهذه المطالب، وأعلن عن حل المكتب التنفيذي للحركة، مما فاقم الأزمة الداخلية، وزاد من الانشقاقات والتوجه نحو الاستقالة.
وفي الختام يمكن القول إن خطوة إلقاء القبض على راشد الغنوشي تمثل ضربة جديدة لحركة النهضة، خصوصًا في ظل الدور المحوري الذي يلعبه “الغنوشي” داخل حركة النهضة، على المستوى السياسي والأيديولوجي، وهي الخطوة التي من شأنها زيادة الحصار المفروض على الحركة، ومفاقمة أزماتها البنيوية الموجودة بالفعل منذ مرحلة ما بعد 25 يوليو 2021.
.
رابط المصدر: