عبد الحميد الحسني
تمهيد:
الكتاب الموسوم بـ “الأمراض الأخلاقية: نظرة جديدة في عوامل السقوط” للأستاذ العلامة الشيخ فوزي محمد تقي آل سيف، ظهرت طبعته الأولى ضمن منشورات دار روافد ببيروت لهذه السنة ٢٠٢١م. وقد اشتمل على مقدّمة وإثني عشرة مرض أخلاقي تم ترتيبها بحسب الترتيب الألف-بائي وقائمة بالمصادر، تقع مادة الكتاب في مجلد، قرابة ٣٧٠ صفحة من القطع المتوسط.
ما دفعنا إلى تقديم هذا الكتاب، هو عنوانه اللافت والمثير كما عبر عن ذلك مؤلف الكتاب في مقدمته إنطلاقا من رواية خاصة بحامل سر رسول الله صلى الله عليه وآله، الصحابي حذيفة بن اليمان الذي كان يتوخّى سؤال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، عن الشر في مقابل سؤال أغلب الصحابة عن أمور الخير، على هذا النهج جاء الكتاب ليدل القارئ على أن سبل البحث عن الوقاية أولى من بلوغ مرحلة البحث عن العلاج في حقل الأخلاق كما الأبدان.
عرض لأهم مضامين الكتاب
لقد حاول الأستاذ الشيخ فوزي آل سيف في مقدمة كتابه أن يقدّم عرضاً موجزاً، استهله بدوافع المباحث الإثنى عشر ومقاربة إصطلاح الأخلاق، ثم عن آفاق وأبعاد بحث الجانب السلبي في الأخلاق، موضحا أصل مادة الكتاب التي هي أحاديث ألقاها في أيام الجمع، على أثر تشجيع المؤمنين والمؤمنات المتابعين لنشاطه الوعظي والإرشادي تم جمعها وترتيبها، مثنيا على جهود المساهمين في إعداد وإخراج هذا العمل الفكري الثقافي من مؤمنات ومؤمنين، لينتهي في مقدمته إلى المصادر المعتمدة في المباحث وذكر عناوينها الكبرى لمن شاء المراجعة.
بعد المقدمة يباشر المؤلف في تفكيك ١٢ مرضا أخلاقيا لا تتوقف آثاره على الفرد بل قد تمتد للمجتمع وللأجيال:
1. أول مرض تناوله الشيخ آل سيف بالبحث الاستبداد بالرأي عبر تبيان أثره على الأفراد والمجتمعات، كما قارب هذا المرض وعلاجه من خلال الشورى في حياة المعصومين عليهم السلام..
2. البخل هذا المرض الأخلاقي ناقشه المؤلف مناقشة عميقة من خلال إشكالات مهمة طرحها تتعلق بالبعد العقيدي والجانب العبادي ليعبر بالمبحث نحو آفاق النفس والعاطفة والبذل والعطاء والتكافل في المجتمع المسلم، متوقفا عند محطات حساسة تعكس الخطورة وتؤطر الوقاية وترسم معالم السلامة والصحة الأخلاقية من هذا المرض الخطير على الإنسان وأسرته ومجتمعه وأمته بل أساسا على مصيره ومستقبله في الدنيا والآخرة..
3. بذاءة اللسان حتى تتضح ماهيتها يقرب الفكرة الشيخ فوزي آل سيف كعادته بأسلوبه الإرشادي التربوي بعرض معالم عفة اللسان من منطلق” تعرف الأمور بأضدادها”، متجها نحو سبر أغوار تشكل وتكون بذاءة اللسان عند الإنسان، حيث عدد أربعة أسباب ختمها بمثال حي يكشف عن نتائج سلوك البذاءة اللسانية والتي خصص لها بحثا تأصيليا على أساس الثقلين يركز المسؤولية لدى المسلم تجاه أخوه الإنسان مسلما وغير مسلم وكذا المجتمع، حتى لا تنتشر هذه الآفة الأخلاقية بين المسلمين لأنها ضد حقيقة وروح الأخلاق الإسلامية الإنسانية الحضارية.
4. ظاهرة التكبر وصورها الخفية، استطاع المؤلف تقريب حقيقة التكبر وماهية صورها الخفية للقارئ من خلال عرض آيات ترتبط بموضوع التكبر واساسه اللغوي والاصطلاحي، ثم مقاربة نماذج لشخصيات تحمل خاصية التكبر في أوساط طلاب العلم، النخب الثقافية، منبها لمركزية التربية الروحية في علاج هذا المرض العضال..
5. الحسد ومراتبه وكيف فكك القرآن هذا الخلق الذميم من خلال ثلاث قصص:
١. قصة إبليس اللعين وآدم عليه السلام،
٢. قصة قابيل وهابيل،
٣. قصة نبي الله يوسف عليه السلام وإخوته.
ليعرج بعد ذلك نحو تبيان نوعي الحسد: الفردي والأممي، فمراتب الحسد ثم مقاييس الحسد، وبعد ذلك بمقاربة تأصيلية مهمة ختم مبحث الحسد بمناقشة الإصابة بالعين بين الثقلين والعلم الحديث.
6. الحقد آفة أخلاقية فتاكة أيضا، ناقشها العلامة الشيخ فوزي آل سيف من خلال كشف خلفياتها وارتباطها الوثيق بالبغضاء، كما تناول أحد مظاهر الحقد كالتنمر لينتقل إلى سبل العلاج وترسيخ سبل التسامح والتواصل بين المختلفين وموجها بأسلوبه الفريد في تمتين العلاقات الإجتماعية عامة وتطبيب النزعات النفسية المنفلتة بلغة العلم الشرعي والعلم الحديث.
7. آفة الخيانة وارتباطها بسرطان النفاق، تناولها الأستاذ آل سيف من الناحية اللغوية والتشريعية على ضوء الثقلين ثم جهات الخيانة الرئيسية، مفككا عراها من عمق الواقع الاجتماعي عبر صور إجتماعية:
١- تفشي أسرار الناس عبر المجالس التي فقدت عناصر الأمانة،
٢- مخالفة مقتضى الأمانة في أموال الناس والمال العام والأعمال،
٣- مخالفة ولاة الأوقاف لمقتضى الأمانة والمحافظة على عوائد الوقف وصرفها فيما وقفت له.
٤. الخيانة الزوجية ختم بها المؤلف لبروزها بين أوجه وصور الخيانة، حيث استطرد في مناقشتها وتوضيح حيثياتها وما ليس بخيانة زوجية عبر تفصيل مهم وتحديد لنماذجها الأكثر شيوعا في المجتمع أو ما شابهها.
انتهى هذا المبحث بعرض لأهم مسببات الخيانة وسبل الوقاية منها والعلاج بمقاربات إرشادية من قبيل “الاستحضار الدائم للرقابة الإلهية” و”تعلم المسائل الشرعية”.
8. عن مرض الشك وتعريفه اللغوي والاصطلاحي وعلى ضوء الروايات الشريفة، هذا المبحث استقصى فيه المؤلف جل أوجه الشك ودوائر العلاقات العامة والخاصة التي يبتلى فيها الإنسان بالشك من خلال عرض نماذج وصور مهمة في:
١. المجال الإجتماعي
٢. العلاقة الزوجية
٣. الأمور العبادية
كما أكد على أسبقية اليقين وإيجابياته بالنسبة للمسلم وقيمته الإيمانية الكبرى فيما يرتبط بحركة الأفكار والعلاقات والتطلعات كما تدل على ذلك سير الأطهار عليهم السلام وكلماتهم ووصاياهم في عدة مواضع ومناسبات، وذلك عبر الجد والاجتهاد في بلوغ مراتب عليا في مضمار اليقين الإيماني عبر قنوات بناء الشخصية السوية المتوازنة والحكيمة والمعتدلة كحصانة منيعة في مقابل أمواج الشك المتلاطمة في بحر الحياة الفردية والإجتماعية.
9. الغضب أسبابه وآثاره، تناولها المؤلف بدقة فائقة حيث قرب للقارئ أهم حيثياتها وأبعادها كما عرض وسائل العلاج وأكد على ضرورة الإعلاء من منزلة كظم الغيظ في حياتنا الخاصة والعامة مما يحقق السلام والسلم والوفاق والود والمحبة بيننا ويثمر آثارا خلاقة للصحة النفسية والإجتماعية.
10. الظلم بحثه العلامة الشيخ فوزي آل سيف بإسهاب وعمق وتأصيل رفيع المستوى في تحصيل وتركيز فهم دقيق للظلم من خلال مناقشة تفاصيل أقسامه التي حددها العلماء وإدراك نظرة الثقلين (القرآن الكريم والروايات الشريفة) البالغة الأهمية والبليغة المعنى لعنوان الظلم في الحياة العامة والخاصة للإنسان، ليعرج بإضاءات مهمة على أهم دوائر وحقول حدوث أو وقوع الظلم في حياة الإنسان وهي دائرة الحياة الأسرية التي تعتبر الحاضنة الأولى لمرض الظلم وتفشيه لاحقا في الحقول الاجتماعية وعبر الأجيال، كما لم يتوقف المؤلف عند هذا الحد بل أنهى هذا المبحث بعرض أهم مناشئ الظلم في الحالة الإجتماعية مع سبل الوقاية والحد من هذا المرض الأخلاقي الفتاك بمقومات الأمن الاجتماعي.
11. في هذا المبحث استعرض العلامة الشيخ آل سيف مرض الكسل وماهيته ورفع اللبس حول جدليته نتيجة لثقافة الجهل الثقافي المستحكم في بعض الفئات الإجتماعية، مع تحديد عوامل الكسل وأسباب وأهم أوجهه في طلب الرزق وأداء الواجبات العبادية وما هنالك من مسؤوليات خاصة ومصيرية، وصولا إلى سبل المواجهة والوقاية عبر رسم معالم خريطة سليمة للحياة على ضوء قدوات النشاط والاستثمار الأمثل لرأسمال الوقت الثمين.
12. عن اليأس والقنوط ختم المؤلف الشيخ فوزي آل سيف كتابه الثقافي التربوي الخلاق للوعي والهمة والجد والإجتهاد، حيث قدم أجوبة مهمة عن عدة إشكالات ترتبط بمشكلات نفسية وإجتماعية وجهل مركب بسنة الحياة القائمة على الإبتلاء والمتوازنة بوعي العمل والتوكل والرجاء والأمل بالله من خلال المعرفة والإنفتاح على آفاق رحمة الله الواسعة التي تحقق السلام الداخلي والشامل للإنسان والمجتمع.
ملاحظات وإستنتاجات
1) كان العلامة الشيخ فوزي آل سيف أقرب إلى الموضوعيّة حين اعتمد المنهج التحليلي النقدي في مسألة التأليف في مبحث الأخلاق السلبية أو المذمومة. فقد أسهم بمؤلفه إسهاما كبيرا في حقل مهم بل أساسي في مجال فقه الأخلاق.
2) المؤلف أصاب في ملاحظاته المنهجية وقراءاته الوصفية فيما يرتبط بمناهج وطرائق بحث الأخلاق السلبية، حيث أراد أن يكون كتابه هذا مدخل جديد للحديث في شيء من التفصيل عن عوامل السقوط الأخلاقي لدى الفرد والمجتمعات على ضوء الرؤية الإسلامية الأصيلة.
3) حاول المؤلف بكل إتقان أن يطعّم مباحث كتابه في موضوع الإنحرافات السلوكية والمشكلات الإجتماعية بآراء نقدية واقعية، من خلال اعتماده على الفحص والتشخيص شبه اليومي لإخفاقات الوعي الديني لدى الأفراد والجماعات، لكن تبقى بعض المباحث بحاجة لتعميق التحليل والنقد بما يتناسب وحاجات الراهن وتطلعات مستقبل الأجيال فيما يرتبط ارتباطا وثيقا بأسس التربية والتعليم ومناهجها وكذا أخلاقيات الإعلام والخطاب والقانون.
4) تطرّق المؤلف الشيخ آل سيف في كل مباحث كتابه إلى مسببات الأمراض الأخلاقية وسبل الوقاية منها كما شمل التأصيل المفاهيمي أيضاً، وهو عمل علمي من شأنه إضاءة مغالق الوعي الأخلاقي لدى الأفراد والمجتمعات المسلمة عبر دورات ونقاشات وورش عمل إرشادية وهذا الجهد يمكن أن يخصص له المؤلف مستقبلا كتابا مستقلا مثلا حول “سبل الوقاية من السقطات الأخلاقية على ضوء الثقلين”.
5) انتهى صاحب كتاب (الأمراض الأخلاقية: قراءة جديدة في عوامل السقوط) الذي نقدّم، بحسب ما استوحينا من النقد والتعقيب والمقاربات والمطارحات في تفاصيل المباحث إلى أنّ التجديد في فقه الأخلاق يشمل عدّة قضايا يمكن حصرها فيما يلي:
أوّلاً: فك النزاع بين فقه الأخلاق القديم وفقه الواقع
ثانياً: دراسة المقاصد الأخلاقية بصورة وافية على ضوء فلسفة الأخلاق الإسلامية لدى الثقلين.
ثالثاً: تطوير مفاهيم بعض الأدلّة الشرعية بما يتناسب والمبحث الأخلاقي في الشريعة الإسلامية.
رابعاً: ربط أسس تجديد الوعي الأخلاقي بالواقع الاجتماعي وتعزيز روح الشريعة تربويا ما أمكن،
وعلى هذا الأساس، نستنتج أن العلامة الشيخ فوزي آل سيف يرى أنّ المنهج النقدي للأخلاق الذي يخلو من إفاضة القول في مقاصدها لا تتوفّر فيه كلّ الخصائص العلميّة للاجتهاد والتجديد، ومن ثمّ تعدّ هذه الدّراسة القيمة للبعد السلبي في حقل الأخلاق البشرية من ضرورات تجديد فقه الأخلاق وتطويره، ولا بدّ من تطوير معجم الأخلاق في الفقه الإسلامي المعاصر؛ أي التوسّع في هذه المفاهيم الأخلاقية بما يعكس الروح التربوية الإسلامية في بناء الفرد والمجتمع.
لقد سعى العلامة الشيخ فوزي آل سيف إلى تقديم آراء نقديّة مفيدة في جملتها، كما عهدناه واعياً بضرورة الفحص الأخلاقي المستمر للواقع الإجتماعي العام، وهذا ما دعاه إلى تخصيص قراءته الجديدة للأمراض الأخلاقية للحديث عن عوامل السقوط مع ما جاء فيها من أفكار وسبل ووسائل واستراتيجيات وقائية مشتتةً عبر فصول الكتاب، وأهم ما يمكن أن يضيفه هذا المنتج الثقافي التربوي ليس للمكتبة الإسلامية فحسب وإنما للرشد الأخلاقي عند الأفراد والمجتمعات أنه دليل وخريطة طريق ودورة إرشادية متكاملة حول أهم متاهات الجهل بسنة الحياة وآفاق النجاح فيها رسمت معالمها براديغم جديد في قراءة عوامل السقوط والتخلف والإنحراف الأخلاقية..
ختاما الشكر الكبير والجزيل للأستاذ المربي العلامة الشيخ فوزي آل سيف على جهوده العلمية والثقافية في رفد النباهة والحكمة والجد لدى إنساننا ومجتمعاتنا المسلمة..
.
رابط المصدر: