برلين من القيادة إلى “رجل أوروبا المريض” (2 من 2)

تتناول الحلقة الثانية من مقال “المعجزة الاقتصادية الألمانية” إما التجدد أو الركود، التحديات الديموغرافية، غياب التنافسية، البيروقراطية وسينايوهات التحول بين لجم “دولية النشاط الاقتصادي لألمانيا”، والتركيز على الابتكار إخراج معجزة ألمانية جديدة.

أظهرت دراسة عن التطورات الديموغرافية أجرتها مؤسسة “بيرتلسمان ستيفتانغ” أن ألمانيا تتقدم في السن أكثر فأكثر، وهذا ما سيكون له عواقب وخيمة خصوصا على سوق العمل. تقدر الدراسة أنه بين عامي 2020 و2040 سينخفض عدد الأشخاص القادرين على العمل في الفئة العمرية من 25 إلى 44 عامًا بنحو 1,6 مليون شخص، وهو ما يمثل تراجعًا بنسبة 7,7 في المئة، وفي الفئة العمرية من 45 إلى 64 عامًا، من المتوقع أن يتقلص العدد بمقدار 3,2 مليون شخص وبنسبة تراجع تبلغ 13,3 في المئة.

من جهة أخرى، يشكل الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عاما فما فوق، نحو 22 في المئة من العدد الإجمالي للسكان، وسيصلون في العام 2040 إلى نحو 28 في المئة، أما متلقّو المعاشات التقاعدية، فسيرتفع عددهم بشكل حاد من 12,3 مليون شخص في عام 2020 إلى نحو 16,2 مليون شخص بحلول عام 2035.

 

الاقتصاد الألماني فاته قطار الابتكار والتحديث، لقد كان الأمر لفترة طويلة مزيجا من الغطرسة المفرطة والسذاجة المفرطة والثقة المفرطة بالنفس

 

كارستن برزيسكي من “آي. إن. جي. ريسرش”

ويقترح وزير الاقتصاد والمناخ روبرت هابيك حلا للنقص في العمالة يتمثل في إعادة الناس إلى العمل من خلال توفير الفرص للنساء وحوافز لفترة عمل أطول لكبار السن، وكذلك جذب العمال الأجانب المهرة من خلال تقديم إعفاءات ضريبية تصل إلى 30 في المئة من إجمالي الراتب، علما أن الاحصاءات تشير إلى وجود أكثر من 2,6 مليون عاطل عن العمل، أي بمعدل بطالة 6 في المئة.

غياب الحداثة والتنافسية

أيضا، من العيوب الهيكلية التي تعاني منها ألمانيا، غياب الاستثمارات الكبيرة في البنية التحتية. وفي هذا يذكر ألفرد كامر، ممثل صندوق النقد الدولي في أوروبا، أنه “بدون بنية تحتية عاملة، لا يمكن أن يكون هناك اقتصاد منتج”. اهتراء البنية التحتية يعكسه تدهور جودة الطرق الألمانية وفقًا لمؤشرات عدة، وعدم إطلاق أي مشاريع جديدة للسكك الحديد، وإلغاء مشاريع استثمارية للسكن وارتفاع معدلات الضرائب على الشركات.

ولا تزال البنية التحتية الرقمية بحاجة إلى تطوير. علاوة على ذلك، بات من الملح رفع الجهوزية للتصدي للكوارث غير العادية التي يتسبب بها تغير المناخ والتي تؤدي إلى فيضانات تقضي على المحاصيل الزراعية أو تتسبب بتضررها.

 

.أ.ف.ب .أ.ف.ب

موظف يعمل في خط إنتاج في مصنع شركة “بي إم دبليو” الالمانية، في دينفولوج، جنوب ألمانيا، 23 مارس 2021. 

ويعترف كارستن برزيسكي من “آي. إن. جي. ريسرش” لمجلة “فورتشن” بأن الاقتصاد الألماني فاته قطار الابتكار والتحديث. “لقد كان الأمر لفترة طويلة مزيجًا من الغطرسة المفرطة والسذاجة المفرطة والثقة المفرطة بالنفس، لقد اعتقدوا أنه لن يكون هناك منافسون لعالم الشركات القوي الخاص بهم”.

 

ألمانيا تفقد قدرتها التنافسية العالمية، وتصنيفها تراجع من المرتبة 15 في عام 2021 إلى المرتبة 24 هذه السنة

 

المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD)

والنتيجة فقدان ألمانيا مكانتها في القدرة التنافسية العالمية، فبيانات المعهد الدولي للتنمية الإدارية (IMD) تظهر انخفاض تصنيفها من المرتبة 15 في عام 2021 إلى المرتبة 24 في السنة الجارية، وخلال الفترة نفسها، تراجعت أيضاً عشرة مراكز من المركز الثالث إلى المركز 13 من حيث الأداء الاقتصادي. وقال برزيسكي لـ”يوراكتيف”: “نحن حقًا في مرحلة من الركود وهناك انخفاض تدريجي في القدرة التنافسية”.

ألمانيا موضوع دسم للرأي العام والصحافة

على الصعيد الأوروبي، تشير الأرقام الصادرة عن مكتب الإحصاء الفيديرالي”ديستاتيس” (Destatis)، التي نشرتها صحيفة “لوموند” في 31 يوليو/تموز 2024، إلى انخفاض الناتج المحلي الإجمالي لألمانيا بنسبة 0,1 في المئة، وارتفاع هذا المعدل لفرنسا وإسبانيا وإيطاليا بنسبة 0,3 في المئة و0,8 في المئة و0,2 في المئة على التوالي.

الوضع الاقتصادي المأزوم لألمانيا تتناوله الصحافة الألمانية والأوروبية منذ مدة طويلة. فصحيفة “بيلد” الألمانية أوردت في غلاف عددها الصادر في 3 أغسطس/آب 2023 مضمون بطاقة بريدية أرسلتها إلى المستشار الألماني أولاف شولتز أثناء إجازته في فرنسا، وعليها عبارة “النجدة اقتصادنا ينهار”.

 

ألمانيا هي ثالث أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة والصين، وقد احتلت عام 2023 مكان اليابان في هذا الترتيب، وبلغ ناتجها المحلي الإجمالي الاسمي 4,5 تريليون دولار

 

 

أما الـ”إيكونوميست” البريطانية، فقد عرضت على غلافها في 19 أغسطس/آب  2023 صورة “أمبيلمان”، الرجل الرمزي الذي يرتدي قبعة تنظيم المرور في ألمانيا الشرقية. ولكن، على عكس ما قد توحي به خطوته الحازمة، فقد ظهر وهو يقطر مصلا فتساءلت “هل أصبحت ألمانيا مرة أخرى رجل أوروبا المريض؟”، ودعت الاقتصاد الرائد في أوروبا الى تغيير نموذجه، فمعجزته تقترب من النهاية وهو متخلف الآن عن الركب، وثقل إدارته يمنعه من تغيير الاتجاه الذي يسلكه بسرعة.

أضواء إقتصاد ألمانيا تبقى ساطعة

لكن كل التوجهات التشاؤمية السابقة يجب ألا تحجب الميزات الخاصة التي يتمتع بها الاقتصاد الألماني، فهو واحد من أغنى اقتصادات دول العالم، وإن كان ذلك قد لا يستمر إلى الأبد، والألمان أنفسهم لا ينخدعون: “فالمزيد منهم على يقين أن دولتهم لا تعمل كما ينبغي”.

 

Shutterstock Shutterstock

سفينة شحن حاويات ضخمة، في ميناء هامبورغ، 3 مايو 2024. 

كما أن ألمانيا هي ثالث أكبر اقتصادٍ في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية والصين، وقد احتلت عام 2023 مكان اليابان في هذا الترتيب، إذ بلغ الناتج المحلي الإجمالي الاسمي للأخيرة نحو 4,2 تريليون دولار مقارنة بنحو 4,5 تريليون دولار لألمانيا.

 

ألمانيا هي صاحبةُ الاقتصاد الوطني الأكبر في الاتحاد الأوروبي، إذ يتدفق يورو من بين كل اثنين إليها بفضل التصدير، كونها مركزا لتدفقات السلع الأوروبية والعالمية

 

 

وتندرج ألمانيا في التصنيف السنوي لمنظمة التجارة العالمية بانتظام ضمن أكبر ثلاث دول مُصدِّرة بعد الولايات المتحدة والصين. ونصف الشركات الألمانية تقريبًا لديها استثمارات في الخارج ويعمل أكثر من سبعة ملايين شخص في الخارج في شركاتٍ ألمانية.

وألمانيا هي صاحبةُ الاقتصاد الوطنيّ الأكبر في الاتحاد الأوروبي، إذ يتدفق يورو من بين كل اثنين إليها بفضل التصدير، كونها مركزًا لتدفقات السلع الأوروبية والعالمية. وهناك ثلاثة ملايين شخص يعملون في مجال الخدمات اللوجستية. ويمثل ميناء هامبورغ بوابة إلى العالم، حيث تنتقل عبره نحو 9 ملايين حاوية كل عام. وكان مطار فرانكفورت في عام 2021 متفوقًا إلى حدٍ بعيد باعتباره المطار الأوروبي رقم واحد بنحو 2,2 مليون طن من الشحن الجوي، كما يوجد في فرانكفورت أم ماين، مقر البنك المركزي الأوروبي الذي يراقب كمؤسسة تابعة للاتحاد الأوروبي استقرار سعر اليورو.

 

.أ.ف.ب .أ.ف.ب

المستشار الألماني أولاف شولز، خلال اجتماع مجلس الوزراء الألماني، برلين، 13 نوفمبر 2024. 

وتتميز ألمانيا بقوة الابتكار، إذ تستثمر أكثر من 3 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي في البحث والتطوير، ولديها وكالات وبرامج ابتكار عدة، آخرها استراتيجيا الذكاء الاصطناعي (عام 2018) واستراتيجيا مماثلة للشركات الناشئة (عام 2022).

 

ألمانيا تواصل التخلف دولياً وتحولها سيكلف الجميع… الاقتصاد والسياسة والمجتمع

 

تانيا غونر، النائبة السابقة في “البوندستاغ”

يتكون العمود الفقري للاقتصاد الألماني من شركات متوسطة الحجم تؤمن التدريب المزدوج الذي يجمع بين المعرفة النظرية في المعاهد المهنية والممارسة العملية، وهو انموذج يتمتع بسمعة طيبة في جميع أنحاء العالم.

البيروقراطية تعيق التحول

نشر “مرصد السياسات الاقتصادية في أوروبا” ورقة عمل بعنوان “هل ينبغي لدخول الاقتصاد الألماني في حالة من الركود الكبير أن يثير قلق أوروبا؟”، وقالت إن التعامل مع التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية السريعة يتطلب قدرة على التكيف وسرعة في اتخاذ القرار، وهو ما ينقص البيروقراطية الأسطورية في ألمانيا، كما ان الرقمنة متخلفة فيها نسبيا، “فتصاريح البناء وتراخيص التشغيل وتسجيلات الأعمال تستغرق وقتًا أطول بكثير من المتوسط المطلوب في بقية الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وكثيرا ما تنتقد الإدارة باعتبارها بطيئة للغاية، وملتزمة القانون أكثر مما ينبغي وحذرة بلا داع وبحاجة إلى إصلاح واسع النطاق. “فكيف إذا كان المطلوب منها معالجته أمرا بنيويا؟”.

 

غيتي غيتي

عمال مصانع مضربون يحملون مشاعل النار، في غريفرونتش، ألمانيا، 31 أكتوبر 2024. 

ترى تانيا غونر، النائبة السابقة في “البوندستاغ” ورئيسة مجموعة الضغط “بي. دي. آي.”، “أن ألمانيا تواصل التخلف دولياً وتحولها سيكلف الجميع… الاقتصاد والسياسة والمجتمع، لكن عدم التحول سيكلف أكثر بكثير”. والمقصود ليس فقط من هم داخل ألمانيا، بل أيضا من هم خارج الحدود في المحيط الأوروبي، فعندما تعطس ألمانيا يصيب الزكام الآخرين في أوروبا، بحسب صحيفة “صوت الشمال” الفرنسية.

 

هل سيسمح بمساحة من المناورة في الموازنة تتيح تجاوز معدل “كابح الديون” لتحفيز التعافي من خلال تمويل الاستثمارات بالديون كما يفعل منافسو ألمانيا؟

 

 

والسؤال الجوهري هو عن كيفية التحول. هل يتم ذلك بتخفيف “عالمية النشاط الاقتصادي لألمانيا”؟

هذه هي نقطة الأذى بحسب نشرة لـ”صناع القرار في مجال تمويل الشركات”، التي ذكرت أن الصادرات الألمانية نمت بنقطة أقل من معدل نمو التجارة الدولية في السنة الجارية، في ترسيخ لفكرة أن المنافسة باتت على الأسعار لا الجودة العالية للإنتاج، على نقيض من الاقتصاد الفرنسي المتخصص بالخدمات والذي حقق تقدما اقتصاديا أفضل بعد “كوفيد-19”.

هل سيُسمح بمساحة من المناورة في الموازنة تتيح تجاوز معدل “كابح الديون” لتحفيز التعافي من خلال تمويل الاستثمارات بالديون كما يفعل منافسو ألمانيا؟ أم بالتركيز على الابتكار بإخراج معجزة ثانية تتميز عن معجزة الخنفساء في الأربعينات الماضية؟ سؤال سيجد جوابه في ضوء المتغيرات السياسية والاقتصادية التي ستشهدها ألمانيا في السنة المقبلة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M