قبسات من فكر المرجع الشيرازي
هناك قول شهير لأحد المفكرين المعروفين جاء في مضمونه (إذا هزلتْ الثقافة هزلتْ الأمة)، فهل ينطبق هذا القول على العراق؟، وهل هناك مشكلات ثقافية يعاني منها هذا البلد لدرجة أنها أصبحت سببا فيما يحصل فيه من تراجع في السياسة والاقتصاد والاجتماع، وهل أنّ جذر المشكلة العراقية الكبرى يتجسّد في ثقافته الراهنة التي استجدت فيها قيم دخيلة أحدثت اختلالا في البنيات الأخرى؟
وإذا اتفقنا أن هناك تخلخل في البنية الثقافية انعكس على منظومة القيم والسلوكيات، فهل نجد لهذا التخلخل الثقافي صدى في حياة العراقيين؟، فمن يتتبع تاريخ العراق المنظور، سوف يعثر على موروث سياسي (دكتاتوري) ثقيل، أثَّر بشكل كبير على الوضع الاقتصادي، وحفر مشكلات كبيرة في النسيج الاجتماعي، لدرجة أن العراقيين لا زالوا يعانون حتى يومنا هذا من الإرث القمعي المدمِّر.
تلك الثقافة القمعية وقيمها التي تسببت بمشكلات كبيرة للعراقيين، لا تزال تشكل سببا فيما يتعرض له العراق اليوم، حيث الحاجة إلى ثقافة مدعومة بقيم أخلاقية مكتملة نستمدها من إرثنا الإسلامي، وندعم بها شبابنا ومجتمعنا، ونغرس فيه قيما أخلاقية تكون كفيلة بتصحيح المسار السياسي الذي سينعكس بدوره إيجابا على الاقتصاد والاجتماع والمجالات الفرعية الأخرى.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(في العراق حاجة ماسّة إلى برامج تثقيفية وتوجيهية).
هذه البرامج الثقافية لا يمكن تطبيقها في الواقع العراقي إلا بعد خطوات تمهيدية كبيرة، تساوي حجم الأذى الذي ألحقته بالعراقيين، فما حدث بسبب الأزمة الثقافية أدى إلى تناسل وتكاثر الأزمات، مما ضاعف من المعضلات، وجعلها تقف عائقا حيال التطور والتقدم الذي ينشده العراقيون في ظل مجتمع عالمي صار يجنح نحو التطور في قفزات هائلة، لهذا وجب على العراقيين لاسيما النخب فيهم أن يتنبّهوا لهذه المعضلة الكبرى، ونقصد بها مشكلة التصدّع الثقافي وانعكاسه على الحياة العراقية برمّتها.
اعتلال منظومة القيم
وهذا يعني بأننا أمام مشكلات كبيرة ومعقدة ومتعددة، أسبابها تتجسد في خلخلة في بنية الثقافة، واعتلال في منظومة القيم، وهذا يعني بأن العراقيين بحاجة إلى إرادة حديدية وذكية وجهود مخلصة، وتخطيط صائب، والتخلّص من العزل والعقبات والشباك التي شلّت حركة العراقيين وحدَّت من تقدمهم كالإرهاب والتجهيل، حتى يكون بإمكان العراقيين اقتفاء أثر التقدم والتطور العالمي بعد وضع العراق على السكة الصحيحة والجادة الصواب.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يتساءل:
(كم يحتاج بلد مثل العراق من جهود وإرادة وجديّة وعمل متواصل وإخلاص وأموال ودعاء، حيث عانى عقوداً طويلة من العزل والإرهاب والبطش والتجهيل وما إلى ذلك، في ظل أعتى ديكتاتورية في العالم؟!).
الإرث الدكتاتوري الثقيل هو الذي شلَّ حركة العقول، وضاعف من تضارب المصالح، وجعل التشرذم والخلافات تتربع المشهد العراقي، وهذا كان ولا يزال سببا في مراوحة العراقيين في مكانهم نفسه دون أن يحققوا طفرة تنموية كبيرة، وهي ممكنة لأن مستلزمات هذا النوع من التنمية متوافرة، فيما لو توافرت الثقافة والقيم الصحيحة التي تخلّص العراقيين من مشكلة التخلف والنظرة الضيقة.
ولعل بقاء العراقيين في بيئة تجهيل مستمر ونواقص هائلة وحاجات مستمرة، تقف وراؤها المرحلة القمعية التي شوهت القيم وخلخلت الثقافة، فجعلت من البنيات الأخرى في حالة شلل تام، وجعلت من العراقيين مطوّقين بالاحتياجات والمشكلات المستعصية!!.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(العراقي الذي عاش سنين متمادية في ظلام حالك، تطوّقه الاحتياجات الكثيرة من كل الجهات).
نحن نقف إزاء عقبات ليست خفية، بل هي معروفة للمختصين وحتى لعامة الناس، وإذا عُرف السبب بطل العجب كما يُقال، لذلك علينا أن نحدد الأسباب والاحتياجات، ثم علينا أن نبادر بوضع الحلول اللازمة لها، وفق خطوات وآليات علمية قادرة على معالجة المشكلات والعقبات، بعد ذلك نحن بحاجة إلى المبادرة القوية والسريعة والصحيحة للبدء بالمعالجة، مع أهمية أن نتحلى بالشعور التام بالمسؤولية تجاه بلدنا، وعلى كل فرد عراقي (مع أهمية المركز الوظيفي وحجم الصلاحيات)، أن يجعل من مسؤوليته تجاه بلده مشابهة لمسؤوليته تجاه عائلته أو بمستوى مقارب لها!
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(يلزمنا جميعاً العمل على بناء العراق الجديد بأن نمسك بزمام المبادرة، ونعمل بنفس تلك الدرجة من المسؤولية التي نحسّها بإزاء أسرنا وأبنائنا، لضمان مستقبل العراق).
أهمية التخطيط التنموي
الشعور بالمسؤولية وتحمّلها يجب أن يصبح ثقافة اجتماعية، وسلوك مجتمعي ناتج عن حاصل سلوكيات الأفراد، بمعنى على كل فرد جزء من مسؤولية النهوض الثقافي السلوكي، فكل فرد لديه مؤهلات وطاقات هو منْ يعرف ويفهم كيفية توظيفها في صالح مستقبل العراق، فـ (على كل فرد منّا أن يفكّر: ماذا يستطيع أن يفعل من أجل مستقبل العراق؟)، وإذا تجمّعت الطاقات الفردية، وتمت برمجتها ثقافيا في إطار من القيم الجيدة، سوف تحقق جانبا كبيرا من التنمية الثقافية والفكرية.
فتنعكس بدورها على الوعي الثقافي السلوكي الجمعي، وفي هذا الإطار لابد من نشوء مجالس يكون الهدف منها بحث مستقبل العراق، والكيفية التي تضمن هذا المستقبل، بما يجعله في مصاف الأمم والدول المتطورة، بعد أن تقوم هذه المجالس المتخصصة بدراسة أوضاع العراق في كل المجالات.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يركّز على هذه النقطة فيقول:
(من الضروري أن تنشأ مجالس من أجل مستقبل العراق، بغية تدارس أوضاع الشعب العراقي، وتؤسّس لجان ذات مهام وتخصّصات مختلفة، بحيث تغطي احتياجات هذا الشعب).
ويذهب سماحته إلى التفاصيل أكثر، فيحدد نوعية هذه المجالس، ويؤكد على أهمية التخصص وجدواه، حتى الأعداد التي تتكون منها يحدّدها سماحته أيضا، على أن تكون مهام هذه المجالس موزّعة على الأهداف التالية:
الهدف الأول: مهمة التخطيط ومراحل الانجاز.
الهدف الثاني: تهيئة الأموال اللازمة للانجاز.
الهدف الثالث: العمل في إطار زمني سريع مع مراعاة الدقة.
وبهذا تكون الفرص التنموية متوافرة، على أن يتم استثمارها بالشكل الصحيح، فالعراق بلد غني بموارده الطبيعية، ويمتلك رأس المال البشري اللازم فيما لو تمّ تأهيله لمهمة بناء المستقبل.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(نؤكّد أهمية أن يبادر الإخوة المؤمنون في العراق إلى إنشاء لجان تتألّف من شخصين أو ثلاثة أو أربعة أشخاص، تأخذ على عاتقها مهمة التخطيط وتهيئة الأموال اللازمة والعمل بسرعة، من أجل بناء العراق الحرّ والزاهر بالخيرات والإيمان والعمران).
خارطة طريق يمكن لكل العراقيين اعتمادها، كلٌ حسب طاقاته ومؤهلاته وصلاحياته أيضا، وكلما كانت المسؤولية أكبر كان الفعل المنجز أكثر تميّزا، وبهذه الطريقة يمكن أن نستعيد الثقة بأنفسنا ومواهبنا، ويمكننا برمجة ومعالجة الثقافة ودعمها بالقيم الراسخة، وتحويلها من أفكار ومفردات إلى سلوكيات ومبادئ نؤمن بها، هكذا تكون قدراتنا كبيرة وقادرة على بناء مستقبل مضمون ومشرق لكل العراقيين، شريطة أن تتوافر الإرادة والعقول والخبرات واستثمارها بشكل حثيث ومدروس.
رابط المصدر: