“بريكس” بين الطموحات الروسية وتعقيد الأوضاع العالمية

في قمةٍ سعى الكرملين إلى أن تكون استثنائية، استضافت مدينة قازان الروسية قمة مجموعة “بريكس” الدورية يومي الثلاثاء والأربعاء 22-23 أكتوبر/تشرين الأول. وعقدت القمة وسط تصاعد الخلافات الروسية الغربية على خلفية الحرب الروسية على أوكرانيا. وأنهت روسيا تحضيرات استثنائية للقمة الأولى بعد توسيع المجموعة العام الماضي، على أمل أن تشكل محطة فارقة في إعادة تشكيل نظام عالمي جديد “أكثر عدلا وإنصافا”.

وشكل اختيار قازان على بعد 820 كيلومترا شرقي موسكو كمكان لانعقاد القمة مؤشرا مهماً إلى طبيعة التحالفات الروسية المستقبلية التي تسعى إليها موسكو في مواجهة “الغرب الجماعي” عبر المزج بين التوجه شرقا الذي بدأ منذ صعود بوتين قبل نحو ربع قرن، وبناء “الجنوب العالمي” كمصطلح زاد الحديث عنه في السنوات الأخيرة في روسيا للإشارة إلى الدول التي لا تشارك الغرب في قيمه وطريقتة في إدارة العالم.

وتمنح مشاركة 32 دولة في القمة- منها 24 دولة ممثلة على مستوى القادة- الكرملين ثقة كبيرة عند الحديث عن فشل جهود عزل روسيا عالميا بعد فرض الغرب أكثر من ثمانية آلاف عقوبة تعدّ الأقسى والأكبر المفروضة على دولة في العصر الحديث، إضافة إلى حزم العقوبات الثانوية الهادفة أساسا إلى ثني الدول والشركات عن التعامل مع روسيا للالتفاف على العقوبات.

وتأمل موسكو في جذب مزيد من دول “الجنوب العالمي” إلى مجموعة “بريكس”. وفي يوم الجمعة الماضي، شدد الرئيس فلاديمير بوتين على أن “عمل البريكس ليس موجها ضد أحد”، في رسالة إلى التخفيف من مخاوف الدول التي ترفض الاصطفاف إلى محور على حساب آخر. وفي حين نفى سعي بلاده إلى إعادة هيكلة النظام العالمي، رأى أن عملية خلق عالم متعدد الأقطاب “عملية حتمية” بدأت قبل 2014.

 

لا يمكن مقارنة بيانات “بريكس” مع نظيراتها عند السبع الكبار التي تعدّ إطارا للدول الصناعية المؤثرة عالميا، وتتوافق فيما بينها على قرارات ملزمة

 

 

وأشار بوتين إلى أن اجمالي الناتج المحلي لبلدان مجموعة “بريكس” تجاوز 60 تريليون دولار، وأن حصة المجموعة في الاقتصاد العالمي تتجاوز حصة مجموعة السبع الكبار. واستشهد بوتين ببيانات حول النمو الكبير الذي حققته اقتصادات الدول المشاركة في “بريكس”، وقال إن حصة مجموعة السبع الكبار في عام 1992 شكلت 45.5 في المئة من الاقتصاد العالمي، مقابل 16.7 في المئة لدول “بريكس”. وذكر بوتين أن حصة “بريكس” في 2023 بلغت 37.4 في المئة، مقابل 29.3 في المئة لمجموعة السبع الكبار، مؤكدا أن الفجوة تتسع لمصلحة “بريكس” مع توقعات ببلوغ متوسط النمو فيها في العام الحالي بنحو 4 في المئة، مقابل 1.7 في المئة متوسط النمو في مجموعة السبع.

مع التسليم بدقة هذه البيانات، يجب الانتباه إلى أنها تعد جمعا حسابيا للمؤشرات الاقتصادية للبلدان المنضوية في اطار “بريكس” التي تعد اشبه بمنتدى سياسي لا يفرض التزامات محددة على أعضائه. ومؤكد أن المجموعة تضم خمس دول ذات أهمية كبيرة في السياسة العالمية حاليا هي البرازيل وروسيا، والهند، والصين، وجنوب أفريقيا، وزادت قوتها مع التوسع في مطلع العام الحالي بضم أربع دول اقليمية مهمة. وفي المقابل، لا تقوم مجموعة “بريكس” على آليات واضحة للدول المشاركة لتوحيد مواردها الاقتصادية والعسكرية، كما هو الحال في مؤسسات مثل الاتحاد الأوروبي، “الناتو”، او غيرها.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الصيني شي جينبينغ على هامش قمة “البريكس” في قازان يوم 22 أكتوبر 2024 

ومما سبق، لا يمكن مقارنة بيانات “بريكس” مع نظيراتها عند السبع الكبار التي تعدّ اطارا للدول الصناعية المؤثرة عالميا، وتتوافق فيما بينها على قرارات ملزمة، واوضح مثال على ذلك الالتزام بفرض عقوبات على روسيا بعد اجتياح أوكرانيا في 2022، وحزم مساعدات أوكرانيا المتتالية.

كما لا يمكن مقارنة “بريكس” مع الاتحاد الأوروبي أو التجمعات المبينة على أساس جغرافي.

وباستعراض مصالح وإمكانات وعلاقات دول “بريكس” المؤسسة، من المستحيل أن يكون هناك قائد واحد قادرا على تنظيم المشاركين الآخرين وتحقيق الأهداف المشتركة، كما هو الحال في الناتو أو مجموعة السبع حيث القيادة للولايات المتحدة. وواضح أن روسيا الأنشط سياسيا واقتصاديا بين أعضاء المجموعة لوضع اسس لنظام عالم يرفض العقوبات أحادية الجانب، ويسرع بناء مؤسسات وآليات تفك الارتباط بالمؤسسات الغربية التي حاصرت اقتصاداتها، لكن كثيرا من البلدان تخشى من تأثير تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي مع روسيا على العلاقات مع الغرب. كما أن ثقل موسكو الاقتصادي وحتى السياسي بات أقل بكثير من ثقل الصين التي استثمرت نموها الاقتصادي الكبير واستثماراتها الضخمة لبناء علاقات سياسية وثيقة مع بلدان العالم في آسيا وأوروبا وأفريقيا.

ونظريا، يمكن النظر إلى “بريكس” على أنها تجمع لدول تشترك في رؤية استراتيجية لعالم أكثر عدالة، ولكنها تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية في القضايا العملية المتعلقة بالاقتصاد والسياسة العالمية، ما يعطل بناء توافق على إنشاء مؤسسات مالية دولية وأدوات ذات تأثير يماثل تلك التي يسيطر عليها الغرب مثل صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي.

وانطلاقا من مصالح بلدان “بريكس” المتشابكة، من المستبعد أن تتبنى المجموعة قرارات تصادمية من أجل تغيير “ثوري” لطبيعة النظام السياسي والاقتصادي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي المقابل، لدى بلدان “بريكس” القدرة والرغبة للتوافق على آليات محددة للتعامل مع مشكلات التنمية المستدامة، والفقر، والجوع، والجريمة، والإرهاب، والأمن المعلوماتي، والذكاء الاصطناعي.

ويعد توسع “بريكس” مطلع العام الحالي نقطة تحول مهمة في تاريخ المجموعة. وبعث انضمام دول جديدة إلى التكتل مؤشرات إلى تسارع وتيرة تشكيل التعددية وتقليص النفوذ العالمي للغرب، ورغبة عدد متزايد من الدول في جميع أنحاء العالم في تعزيز سيادتها والمشاركة بشكل أكبر في الحوكمة العالمية.ومن جهة أخرى، وضع التوسع المجموعة أمام تحديات المحافظة على نوعية التعاون وتعزيزها، والتحول إلى مؤسسة تساهم في تشكيل نظام عالمي أكثر عدلاً، أو مواصلة الشكل الحالي الأقرب إلى نادٍ للنقاش غير الملزم لأعضائه. وحتى قبل التوسع الجديد، لم تكن علاقات جميع البلدان المؤسسة مثالية أو دافئة، واتسمت علاقات الصين والهند بالتوتر، وكلما توسعت المجموعة ازدادت امكانية انضمام أعضاء على خلاف في القضايا الاقليمية.

 

رغم الجهود المبذولة… مثل تطوير منصة لتسوية المدفوعات التجارية بالعملات الوطنية، لا تزال هذه المساعي تواجه صعوبات كبيرة بسبب تعقيدات النظام المالي العالمي

 

 

ويعد بنك التنمية الجديد مثالا واضحا على نجاح التعاون ضمن “بريكس”، ويغري البنك كثيرا من الدول للتعاون مع “بريكس” أو الانضمام لها بحثا عن قروض وفرص للتعاون الاستثماري، ولكن الأسئلة تدور حول حصص مساهمات بلدان المجموعة في البنك الذي تمول الصين معظم أعماله، إضافة إلى إمكانية تحوله إلى مؤسسة مثل البنك الدولي. ويعد  الدفع بقضايا مثل تشكيل منطقة تجارة حرة ضربا من الخيال في الظروف الحالية، لأسباب أهمها أن بعض الأعضاء مثل الهند، على سبيل المثال، يفتقر إلى الإرادة السياسية وربما الاقتصادية للقيام بذلك، وتصديق البرازيل على صفقات التجارة الحرة مقيد بكونها جزءًا من السوق المشتركة لأميركا الجنوبية (ميركوسور)، التي تفرض سياسة تجارية مشتركة بين أعضائها.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان عند وصوله إلى مطار قازان لحضور قمة “البريكس” 

ولا يوجد توافق ضمن ” بريكس” على هدف إلغاء الدولار الأميركي في التعاملات، كما بدا في الاجتماعات التحضيرية لوزراء مال المجموعة في موسكو مطلع الأسبوع الماضي، ناهيك أن الرغبة لدى بعض الدول، مثل روسيا، لإلغاء الدولار لا تتوافق مع إمكاناتها الاقتصادية أو قدرتها على طرح بديل، وهناك فارق كبير بين الرغبة والقدرة. ومن السذاجة الحديث عن اعتماد “بريكس” عملة جديدة للتعامل كما فعل الاتحاد الأوروبي. وربما يكون خيار الاعتماد على اليوان الصيني مطروحا لدى بعض الدول، ولكن الصين ذاتها غير مستعدة لذلك، كما أن دولا مثلا الهند سترفض المقترح بكل تأكيد.

تحديات أمام “بريكس”

ويكمن التحدي الرئيس أمام التحالف في إثبات قدرته على تقديم بديل فعلي للنظام الاقتصادي العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بإنشاء أنظمة دفع مالية مستقلة عن “سويفت” ومواجهة هيمنة الدولار الأميركي.

ورغم الجهود المبذولة في هذا الصدد، مثل تطوير منصة لتسوية المدفوعات التجارية بالعملات الوطنية، لا تزال هذه المساعي تواجه صعوبات كبيرة بسبب تعقيدات النظام المالي العالمي.

ومنذ إنشائها في عام 2006، ازدادت أهمية “بريكس” كثيرا، وتراهن روسيا عليها كثيرا في حالة الاستقطاب الدولية الحادة لتشكيل قطب عالمي جديد يكون منافسا لهيمنة مجموعة “السبع الكبار”، والاتحاد الأوروبي وحتى “الناتو” رغم الطبيعة العسكرية للحلف. كما تسعى روسيا إلى الاستعانة بهذه المجموعة من أجل التخفيف من وطأة العقوبات غير المسبوقة.

 

من المؤكد أن مجموعة “بريكس” تعد نواة لقطب عالمي صاعد تخف فيه هيمنة الغرب. لكن الحديث عن أنها تشكل منافسا للتجمعات الغربية مبالغ فيه كثيرا

 

 

وفي المقابل، يواصل الغرب الرافض لإنهاء هيمنته، وبروز مؤسسات جديدة قد تقوض المؤسسات التي بناها في العقود الأخيرة، ومن الملاحظ أن الغرب عمل بجد على ضرب أسس “بريكس” عبر استمالة الهند وجنوب أفريقيا وهو ما بدا واضحا في استضافة زعيمي البلدين في قمة “السبع الكبار” التي عقدت في بافاريا بعد يومين من اختتام قمة “بريكس” صيف 2022.

ربما يكون الخيار الأفضل للبرازيل والهند وجنوب أفريقيا هو تطوير علاقات مع الشرق والغرب في الوقت ذاته، ولكن الاستقطاب الحالي يشكل عاملا ضاغطا على هذه البلدان الثلاثة للحسم في خياراتها مع هذا المعسكر أو ذاك.

ومن المؤكد أن مجموعة “بريكس” تعد نواة لقطب عالمي صاعد تخف فيه هيمنة الغرب. لكن الحديث عن أنها تشكل منافسا للتجمعات الغربية مبالغ فيه كثيرا.  وفي المقابل فإن “بريكس” أقرب إلى منتدى حواري منه إلى حلف سياسي واقتصادي وعسكري، وهناك آراء مختلفة للأطراف في صف واسع من القضايا السياسية المطروحة.ومن العوامل المهمة أنه، رغم علاقات الصين المتوترة مع واشنطن، فإن مصالحها الاقتصادية ما زالت مرتبطة بشكل أساسي مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والتبادل التجاري مع هذه الدول أكبر بأكثر من 15 مرة من التبادل مع روسيا. كما أن الهند عضو في تحالف “كواد” إلى جانب أستراليا والولايات المتحدة واليابان، وهو التحالف الذي ترى فيه الصين أنه موجه ضدها. ويجب الانتباه إلى أن التبادل التجاري بين الدول الأعضاء في “بريكس” أقل بكثير من تبادلها التجاري مع الغرب بسبب طبيعة اقتصاداتها، والتوزع الجغرافي للبلدان.

وبعيدا عن المشكلات الحدودية بين  الهند والصين، فإن الأولى تسعى الى أن تكون منصة مستقبلية لاستضافة شركات التقنية الأميركية التي بدأت هجرة من الصين وتبحث عن مقار جديدة لها في آسيا، وتأمل في الحصول على الاستثمارات والتقنية الأميركية، وهي مؤهلة نظريا للعب دور بديل عن الصين بطاقاتها البشرية البالغة 1.4 مليار شخص، ووجود مهندسين في البرمجة ذوي خبرة جيدة، وامتلاكها سوقا كبيرة، وقربها من أسواق مهمة أخرى. وجميع بلدان “بريكس” ما زالت بحاجة إلى الاستثمارات الغربية وخاصة تلك التي تجلب معها التقنيات الحديثة.

 

أ.ف.ب أ.ف.ب

مسجد كول شريف، وهو جزء من كرملين قازان التاريخي، في 22 أكتوبر 2024، خلال قمة “البريكس” 

ورغم تأكيد الرئيس بوتين، قبل أيام من قمة قازان، على “طبيعة فريدة” للعلاقات مع الصين ونفي وجود شريك صغير أو كبير في هذا التعاون الذي يعد “واحدا من أهم عوامل الاستقرار في العالم”، فإن انشغال روسيا في حربها على أوكرانيا أضعفها كثيرا في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز على حساب تصاعد نفوذ الصين، وبات يخل بالتوافقات السابقة المنطلقة من  تقاسم  بُني على تقديم روسيا الغطاء السياسي والعسكري، وتوفير الصين الغطاء الاقتصادي.

ومع توسع “بريكس” من دون تحولها إلى مؤسسة أكثر صرامة، يصعب الوصول إلى توافقات إلا في حال ابتلعت الصين التكتل عبر تحويله إلى منصة لتنفيذ مشروع “الحزام والطريق”، ومؤكد أن هذا السيناريو لا يروق لروسيا التي تنتقل تدريجيا إلى “الشقيق الأصغر” في علاقاتها مع الصين ذات الطموحات التي لا تعرف حدودا والمدعومة بتحول قوتها الاقتصادية إلى قوة سياسية فاعلة في عدة مناطق في العالم، والتي تعلمت جيدا من درس الحرب الروسية على أوكرانيا.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M