بعد موافقة تركيا على ملف انضمام فنلندا للناتو، يبدو أن فكرة توسع حلف شمال الأطلسي أصبحت واقعية بل ومطلوبة أكثر من أي وقت مضى، وعلى الرغم من تبرير الولايات المتحدة ودول الحلف لهذا التوسع بأنه نتيجة للعملية العسكرية الموسعة التي شنتها موسكو على أوكرانيا، فإن التوسع المستمر لحلف شمال الأطلسي نحو الشرق، وتجاهل الحلف والولايات المتحدة مطالب روسيا بتزويدها بضمانات أمنية، يزيد إلى حد كبير احتمالات اندلاع نزاع مسلح في القارة الأوروبية، لديه كل الفرص للتحول من نزاع محلي إلى مواجهة واسعة النطاق.
وعلى صعيد الحالة الفنلندية والسويدية فإن التحول يعد مؤشرًا مهمًا بالنسبة لروسيا وربما يستوجب رد فعل، لأن الدولتين راهنتا منذ الحرب العالمية الثانية على أن المنظومة الأمنية فيهما ينبغي أن تكون قائمة على حالة من الحياد من خلال البقاء خارج منظمة حلف شمال الأطلسي. وقام هذا الطرح على فكرة تجنب الإخلال بالتوازن العسكري في منطقة بحر البلطيق واستفزاز روسيا. ومع ذلك، دفعت العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا ومطالبها بوقف توسع الناتو كلا البلدين إلى السعي للانضمام إلى الحلف.
لماذا السويد وفنلندا؟
بداية، لا ينبغي النظر لمسألة انضمام هلسنكي وستوكهولم باعتبارها الرابط الوحيد بين الدولتين وحلف الناتو، لأن الروابط العسكرية سابقة لمسألة الانضمام إذ تجري الدولتان تدريبات عسكرية مع الناتو وتتشاركان المعلومات الاستخباراتية معه بشكل متزايد، علاوة على أنهما جزءًا من برنامج الشراكة من أجل السلام التابع للحلف، والذي يعزز التعاون مع غير الأعضاء، وإلى جانب كييف هم من بين ستة ممن يطلق عليهم شركاء الفرصة المعززة الذين يقدمون “مساهمات مهمة بشكل خاص لعمليات الناتو”. لكنهم لم ينضموا إلى الحلف في وقت سابق لأسباب تاريخية.
ومثالًا فإن فنلندا لم تبدأ في اتخاذ منحى متوجه للمدرسة الغربية إلا في وقت متأخر بعد أفول الحرب الباردة، حيث انضمت إلى الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو، ولكن ظلت هلسنكي ملتزمة بالحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا. حتى أن الرأي العام في الداخل كان حتى بدايات 2022 يرفض فكرة الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.
وعلى مستوى السويد فإن دفاعاتها خلال الحرب الباردة كانت مصممة لردع الغزو السوفيتي، وتعاونت ستوكهولم بشكل مُغطى مع الناتو. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، أعيدت تسمية سياسة السويد رسميًا على أنها عدم الانحياز العسكري وتم تقليص دفاعاتها بشكل كبير. ولكن منذ ضم روسيا لشبه جزيرة القرم الأوكرانية عام 2014، زادت السويد تدريجيًا من الإنفاق العسكري وسعت إلى تعاون أوثق مع الناتو.
أما أهمية الدولتين بالنسبة للحلف العسكري الدفاعي، فتكمن في أن وجودهما سيجعل من الأسهل تحقيق الاستقرار في المنطقة المحيطة ببحر البلطيق والدفاع عن أعضاء الناتو، إستونيا ولاتفيا وليتوانيا. نظرًا لأنه غالبًا ما ينظر إلى دول البلطيق الثلاث على أنها هدف محتمل للعدوان الروسي لأن لديها عرقيات روسية، وقد استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حماية هذه العرقية كذريعة للتدخل في أوكرانيا. كذلك أن دخول البلدين كأعضاء في الحلف سيضيف لقائمته جيشين متطورين ومجهزين تجهيزًا جيدًا مع معدات متوافقة بالفعل مع تلك المستخدمة من قبل الحلف، على عكس أوكرانيا التي تختلف منظومة تسليحها عن حلف شمال الأطلسي. ومن شأن ذلك أن يطيل حدود الناتو مع روسيا، والتي تشكل الآن 6٪ فقط من محيط أراضي روسيا ويوفر مراقبة بشكل أكبر لتحركاتها.
ومن ناحية أخرى فهو يضع الحلف في مواجهة مع روسيا، لأن قبول عضوية فنلندا يعني أن الحلف مُلزم بالدفاع عنها حال تعرضت إلى أية مخاطر روسية، بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة قدمت العام الماضي ضمانات أمنية لكلا المتقدمين إذا هددتهما روسيا، أي أن حتى ستوكهولم التي لم يقبل ملفها بعد في عضوية الحلف تتوفر لها ضمانات أمنية غربية. علاوة على تركيز الدولتين على رفع إنفاقهما الدفاعي وتوقيع اتفاقات وشراكات عسكرية.
كيف عززت روسيا توسع الأطلنطي؟
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية نظرت الدول الأوروبية إلى روسيا باعتبارها المهدد الأكبر للأمن الأوروبي، وهو ما خلق حالة أوروبية من إعادة إنتاج التفكير في عملية التسلح وميزانية الدفاع خصوصًا أن وجهة النظر الأوروبية تفترض أن أوكرانيا ليست هي الهدف النهائي، بمعنى آخر فإن كييف ليست سوى نقطة الانطلاق حيث استهدف بوتين من خلال العملية العسكرية في أوكرانيا زعزعة استقرار الناتو والاتحاد الأوروبي. ليس فقط من الناحية الأمنية التي يوجد حولها طرحان، طرحًا يفترض أن الحرب الروسية على أوكرانيا دعمت توسع الحلف الأطلنطي، وطرح آخر يفترض أن الدول الأوروبية فضلًا عن دول الحلف أصبحت غير قادرة على تأمين نفسها، بسبب استنزافها عسكريًا للوفاء بمطالب كييف من التسلح، وأيضًا من الناحية الاقتصادية عن طريق إغلاق صنبور الطاقة الذي كانت له ارتداداته التي لا يمكن إنكارها، وإن كانت أوروبا قد صمدت أمام شتاء العام الجاري.
ومما سبق تمكن الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وأوروبا ودول الأطلنطي تنظر للانتصار الروسي باعتباره كارثة على النظام الدولي؛ لأنه إذا انتصرت موسكو فإنه ليس من المستبعد أن تسعى إلى شن حرب هجينة على دول البلطيق وبولندا ورومانيا وزعزعة استقرار المنطقة بأكملها. ولا يمكن لشيء حماية سلامة أراضي أوكرانيا وأوروبا بأكملها من العدوان الروسي إلا انتصار أوكرانيا والدعم الأوروبي والعالمي القوي لها.
ولكن ينظر إلى التحركات الأوروبية من قبل دول أوروبا الشرقية بتحفظ، فعلى الرغم من دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الاستقلال الاستراتيجي في السنوات الأخيرة، وإعلان المستشار الألماني عن تحولات تاريخية في سياسة الدفاع في مواجهة الاجتياح الروسي، تقدمت الدولتان بحذر طوال الحرب. وأرسلت ألمانيا على مضض دبابات ليوبارد 2 إلى أوكرانيا في أعقاب خطوات موازية من جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، بينما أصر ماكرون على ضرورة أن يشمل أي قرار لما بعد الحرب اعترافًا بالمخاوف الأمنية تجاه روسيا، بعبارة أكثر وضوحًا فقد أخذ الأوروبيون خطوات إلى الخلف وقد أدى هذا إلى زيادة إحباط الحلفاء في أوروبا الشرقية، مثل بولندا ودول البلطيق، الذين جعلهم موقفهم المتشدد تجاه روسيا غير راضين عما يرونه غموضًا من جانب نظرائهم الغربيين، وزاد من رغبتهم في الحفاظ على بقاء الولايات المتحدة في أوروبا.
وعلى هذا الأساس وضعت الولايات المتحدة منذ أيام حامية عسكرية دائمة لها في بولندا، حيث أصبح من الجلي أن واشنطن موجودة في بولندا لكي تبقى وستكون هذه الحامية -وهي الثامنة في أوروبا- مسؤولة عن تنسيق الدعم للقوات الأمريكية المنتشرة في بولندا وفي الجناح الشرقي بأكمله لحلف شمال الأطلسي. وبالنسبة إلى واشنطن التي تبدي تململًا من حالة الاعتماد الأمني الأوروبي عليها، فإنها لا ترغب حقًا في تخفيف هذا الوجود بل على العكس فإن الوجود العسكري الأمريكي في أوروبا يمكن وصفه بالمتراكم، ويعزى ذلك إلى أنها ترى أن أفضل طريقة لتشجيع حلفائها على توفير المزيد من الدعم هو مضاعفة جهودها نيابة عنهم، حتى وإن كان هذا يزيد من الاعتمادية الأوروبية على الصعيد المادي ولكنه على الأقل يبقى موفرًا للظهير الأيديولوجي الذي تعتمد عليه واشنطن في تحركاتها، خصوصًا أن دولًا كثيرًا اختارت الحياد في الحرب الروسية – الأوكرانية.
أمن أوروبا وأمن الأطلنطي
على الرغم من وجود اختلاف فعلي بين الأمن الأوروبي وأمن الأطلنطي، إلا أن البيت الأبيض حتى الآن لا يزال غير راغب في التنازل عن كرسيه على رأس الناتو، لأنه بداهة وقبل كل شيء يضع أوروبا بأكملها في دائرة النفوذ الأمريكي خصوصًا أن واشنطن نجحت في تحقيق عدد من الأهداف جراء الحرب الروسية- الأوكرانية، وإن كان اندلاع الحرب من أساسها يعد فشلًا للسياسة الأمريكية وسياسة القطب الواحد.
ولكن استطاعت واشنطن إرساء دعائم تحالف عالمي ضد روسيا يتضمن توسع الناتو ونشر المزيد من أنظمة التسلح في أوروبا، فضلًا عن التحرك في آسيا الوسطى والمحيط الهادئ للتضييق على روسيا والصين، واستطاعت دون شك أن تزيد من حالة عسكرة القارة الأوروبية بدليل أن دولًا مثل ألمانيا أعلنت عن أكبر تحول في عقيدتها العسكرية، وفي آسيا تخلت اليابان عن نظرتها الدفاعية للمنظومة العسكرية وأعلنت عن رفع الإنفاق العسكري، وتحول عقيدتها من الدفاع إلى تطوير القدرة على الهجوم.
ولكن على الرغم من كل الأهداف التي نجحت واشنطن والتحالف الغربي في تحقيقها، إلا أنها فشلت حتى الآن في الهدف الرئيس وهو إلحاق هزيمة استراتيجية بروسيا التي لا زالت طويلة النفس حتى مع دخول العام الثاني من الحرب، فضلاً عن أن الولايات المتحدة عادت مرة أخرى وسقطت في دائرة التصارع على مجالات النفوذ في السياسة الدولية، وهو ما يمكن لمسه بوضوح من تحركات وزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين وحتى من تحركات أمين عام حلف الناتو، والخروج من دائرة التنافس على مجالات النفوذ غالبًا ما ينتهي بمواجهة باردة، مثلما هو الحال الآن أو مباشرة إذا ما أخذت الأمور منحى أسوأ.
.
رابط المصدر: