بعد عامين من اندلاع الحرب في منطقة تيجراي الإثيوبية التي بدأت في نوفمبر 2022، وعلى مدار الأشهر التي تلت ذلك، تسبب الصراع في أسوأ أزمة إنسانية في العالم، إذ كان هناك نقصًا حادًا في الغذاء، وحصار إنساني، وانقطاع في الاتصالات والكهرباء، ونزوح جماعي، مع عدم وجود نهاية قريبة للصراع تلوح في الأفق. وفي هذا السياق، تتناول هذه الورقة رؤية عامة عن الوضع في إثيوبيا بعد عامين من الحرب؛ وجذور الأزمة وأبرز محطاتها، وتداعياتها الاقتصادية والإنسانية، ومستقبلها.
جذور الأزمة وأبرز محطاتها
يمكن إرجاع جذور الأزمة إلى ما يقرب من قرن من الزمان، عندما قامت قومية الأمهرة بطرد النخبة التيجرايين من سلطة الدولة الإثيوبية، مما أدى إلى خلق تنافس سياسي بين المجموعتين، وتدهورت الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لنخبة التيجراي، وأدت المظالم المتراكمة والعديد من أشكال المقاومة إلى ظهور جبهة تحرير تيجراي الشعبية في عام 1975، التي استطاعت بعد سنوات من المقاومة من الوصول للسلطة في عام 1991، وظلت التيجراي مسيطرة على السلطة لما يقرب من الثلاثة عقود، حتى تمت الإطاحة بها مرة ثانية في عام 2018.
وفي مارس 2018 تولى آبي أحمد السلطة في إثيوبيا، وهو من عرقية أورومو وزوجته من عرقية أمهرة، وقام بالعديد من الإصلاحات السياسية التي حازت على إشادة شعبية، بينما رأى زعماء تيجراي أن إصلاحات آبي هي محاولة لمركزية السلطة وتدمير النظام الفيدرالي في إثيوبيا، فضلا عن موقف آبي من السلام مع إسياس أفورقي رئيس إريتريا وعدو تيجراي اللدود، الذي حصل بموجبه على جائزة نوبل للسلام.
وفي مارس 2020، قام المجلس الوطني للانتخابات في إثيوبيا، بتأجيل الانتخابات الوطنية والإقليمية المقرر إجراؤها في أغسطس 2020 مؤقتًا بسبب مخاوف من جائحة كوفيد -19، وهو القرار الذي اعترض عليه المشرعون من تيجراي، بمن فيهم رئيس مجلس الشيوخ، وانسحبوا من البرلمان الوطني احتجاجًا على ذلك.
ووصل الخلاف إلى ذروته في سبتمبر 2020، عندما تحدت عرقية تيجراي الحكومة المركزية لإجراء انتخابات إقليمية خاصة بها، وأعلنت فوزها بنسبة 98 % في التصويت الشعبي، فيما صرحت الحكومة المركزية، التي أرجأت الانتخابات الوطنية بسبب فيروس كورونا، إنها غير قانونية، وعلقت ميزانية تيجراي وقطعت العلاقات معها في أكتوبر2020، في ذلك الوقت، قالت إدارة تيجراي إن هذا بمثابة “إعلان حرب”. وازدادت التوترات بين حكومة إثيوبيا بقيادة آبي أحمد وحكومة إقليم تيجراي.
وبدأ الصراع فعليًا في خريف عام 2020، عندما أمر رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بشن هجوم عسكري ضد القوات الإقليمية في تيجراي، ردًا على هجوم قامت به قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي على قاعدة عسكرية في تيجراي، وقالت القوات التيجراية إنها نفذت هذا الهجوم استباقيًا استعدادًا لهجوم محتمل من القوات الفيدرالية.
في سياق متصل، في 4 نوفمبر 2020، وبعد أقل من عام من فوز رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بجائزة نوبل للسلام، أعلن آبي الحرب على تيجراي ونشر مقاتلين من أمهرة في جنوب تيجراي لتعزيز قوات الجيش، واستعان بقوات من إريتريا المجاورة لقتال المتمردين في شمال تيجراي إلى جانب الجيش الإثيوبي، وذلك على الرغم من إنكاره الاستعانة بهم في بداية الحرب.
وسيطرت القوات الفيدرالية وحلفاؤها سريعًا على ميكيلي، عاصمة تيجراي ومدن أخرى، مما أجبر الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي وأنصارها المسلحين على الفرار إلى المناطق الريفية والجبلية، وأعلن آبي أحمد في 28 نوفمبر فوزه على الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي وانتهاء الحرب.
قضية أخرى قلبت التيار لصالح جبهة تحرير تيجراي، وهي تحالفها مع جبهة تحرير أورومو التي أعلنت الحرب على حكومة آبي في مايو 2021، حيث اتفقت القوتان على توحيد جهودهم ضد عدو واحد، وتبادل المعلومات حول ساحة المعركة، كما انضم إلى هاتين الحركتين مجموعة أخرى من 7 حركات مسلحة ليشكلوا جبهة موحدة في قتالهم ضد حكومة آبي أحمد، وأطلق على التحالف الجديد اسم “الجبهة المتحدة للقوات الفيدرالية الإثيوبية”.
في يوليو 2021، بدأت الحكومة الفيدرالية وقوات تيجراي مفاوضات لوقف إطلاق النار، بعد أن استعادت قوات تيجراي السيطرة على العاصمة ميكيلي وجزء كبير من البلدات المتاخمة للإقليم في منطقتي عفار وأمهرة، وكادت أن تصل إلى أديس أبابا، ولكنهم سرعان ما انسحبوا إلى منطقتهم.
وفي 10 أغسطس استأنفت الحكومة الفيدرالية الحرب، وأعلن آبي أحمد التعبئة العامة للجيش الإثيوبي، واستمر القتال حتى يناير 2022، عندما أطلق آبي أحمد، دعوة إلى “المصالحة الوطنية” استجابة للمبادرة التي قادتها سلطات تيجراي، وأعلن العفو عن العديد من المعارضين للنظام، بمن فيهم أعضاء في الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، منذ ذلك الحين شهد الصراع انخفاضًا في شدته.
وفي 24 مارس 2022، بدعم من جهود الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، أعلنت أديس أبابا وقف إطلاق النار للسيطرة على الأزمة، واتفق الجانبان على احترام وقف إطلاق النار للسماح بإيصال المساعدات الإنسانية، واستمر هذا الوضع بضعة أشهر، قبل أن ينكسر في أغسطس 2022، حيث أكدت كلا من الحكومة الإثيوبية والجبهة الشعبية لتحرير تيجراي في بيانين منفصلين أن القتال قد استؤنف، واتهم كل طرف الآخر ببدء العنف. وصعدت القوات الإثيوبية إلى جانب القوات من إريتريا هجومها بالقرب من مدينة شيري – وهي مدينة يسكنها 100 ألف شخص في شمال غرب تيجراي – حيث تم الإبلاغ عن سقوط ضحايا من المدنيين في أعقاب قصفًا عنيفًا، وأفصح آبي أحمد عن نيته تدمير مطارات تيجراي.
وجدير بالملاحظة أن توقيت وقف إطلاق النار في المرتين ثابت تقريبا، حيث شهد شهر أغسطس انتهاء الهدنة في عامي 2021 و2022، وهو ما يشير إلى أن الأمر قد يكون متعمدًا من حكومة آبي أحمد، حيث يشهد شهر أغسطس بداية موسم الجفاف وانتهاء موسم الأمطار في إثيوبيا، ومن ثم تصبح القوات قادرة على التحرك بسهولة أكبر.
مفاوضات السلام ودبلوماسية كسب الوقت
على مدار الشهور الماضية عمل مبعوث الولايات المتحدة الخاص للقرن الأفريقي، مع زملائه الأفارقة والأوروبيون لمحاولة جلب قادة تيجراي وحكومة إثيوبيا إلى طاولة مفاوضات الاتحاد الأفريقي، بهدف وقف المذبحة وبناء بعض الزخم نحو السلام، وعلى الرغم من رفض آبي أحمد للتفاوض مع جبهة تيجراي في بداية الصراع، إلا أن حكومة آبي أحمد أعلنت فيما بعد التزامها بالحل السلمي للنزاع من خلال محادثات السلام التي يقودها الاتحاد الأفريقي، ولكن دون شروط مسبقة، ودون أي التزام بوقف الأعمال العدائية ضد تيجراي، حيث قالت إنها ستواصل ذلك إلى جانب “الإجراءات الدفاعية” لحماية سيادة إثيوبيا ووحدة أراضيها من التهديدات الداخلية والخارجية.
من جهة أخرى، تشككت جبهة تيجراي في البداية من الاتحاد الأفريقي الذي يقع مقره في إثيوبيا ليكون حكمًا عادلًا، ورفضت أن تكون المفاوضات بقيادة أوباسانجو وطالبت أن يكون الرئيس الكيني كينياتا هو الوسيط، وجعلت المفاوضات مشروطة بكل من العمليات الإنسانية غير المقيدة والاستعادة الكاملة للخدمات، فضلًا عن عودة تيجراي الغربية، ثم عادت ورحبت بحذر بالمبادرة الجديدة من قبل الاتحاد الأفريقي، ولكنها طلبت مزيدًا من المعلومات حول المشاركين وجداول الأعمال والترتيبات الأمنية لمندوبيها.
وكان من المقرر أن تعقد الجولة الأولى من المفاوضات في جنوب أفريقيا في 8 أكتوبر، بقيادة أولوسيجون أوباسانجو، بحضور حكومة رئيس الوزراء آبي أحمد وسلطات تيجراي، لكنهم لم يمضوا قدما، ويبدو أن ضعف التنظيم، والقضايا اللوجيستية، والفشل في استشارة المشاركين الرئيسيين مقدمًا قد أفسد مبادرة الاتحاد الأفريقي هذه المرة، ففي 1 أكتوبر أرسل موسى فكي رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي رسالة إلى “ديبرتسيون جبريمايكل” رئيس حكومة تيجراي، دعوة إلى محادثات السلام، وانتهكت الرسالة العديد من القواعد الدبلوماسية، حيث لم يستشر الاتحاد الأفريقي الرئيس الكيني السابق أوهورو كينياتا ونائب رئيس جنوب إفريقيا السابق فومزيل ملامبو-نجكوكا، اللذان تم تحديدهم إلى جانب أوباسانجو لإدارة المفاوضات، ما أثار أغضب كينياتا الذي كشف أن التاريخ لم يكن مناسبًا له وأنه هو الآخر ليس لديه معلومات كافية حول الطرق الأساسية للمحادثات.
وإلى جانب التحديات اللوجيستية ومشاكل التنظيم، تواجه مفاوضات السلام تحديات تتعلق بعملية التفاوض نفسها، فمن غير الواضح ما إذا كانت محادثات الاتحاد الأفريقي تصور أي دور لإريتريا، أحد الخصوم الرئيسيين في الصراع الحالي، وقد يكون ذلك عائقًا فيما بعد في تحقيق تقدم حقيقي في المفاوضات، وبالتالي ستكون بلا جدوى، والتاريخ مليء بعمليات التفاوض المنفصلة عن الواقع، التي يكون هدفها الأساسي تحويل الانتباه الدولي عن التحضير لحملات العنف المروعة التي تنفذها الأطراف على الأرض، وهو ما يعطي إشارة إلى أن مفاوضات السلام بين حكومة آبي أحمد وتيجراي في ظل استمرار أعمال العنف على الأرض ليست سوى وسيلة لإلهاء العالم الخارجي عن الفظائع المرتكبة من الحكومة الإثيوبية، وطريقة لكسب الوقت لحين تحقيق الانتصار على الأرض.
علاوة على ذلك، فإن إيجاد أرضية مشتركة فيما يتعلق بأرض تيجراي الغربية لن يكون بالمهمة اليسيرة، حيث كانت المنطقة تدار من قبل تيجراي طوال الحقبة الفيدرالية التي بدأت في أوائل التسعينيات، لكن الأمهرة تطالب بها أيضًا، وبالفعل استولت أمهرة عليها عندما بدأ الصراع الحالي وتم طرد مئات الآلاف من سكانها التيجراي، ولا تزال أمهرة ترفض رفضًا قاطعًا طلب تيجراي بالانسحاب وإعادة المنطقة إلى وضعها الذي كان عليه قبل الحرب، وقد رفضت أديس أبابا حتى الآن فرض هذه القضية في المناقشات، وربما كان آبي قد قدر أن موافقته على طرح هذه القضية للتفاوض سيكون مكلفًا للغاية بالنسبة له في أمهرة، التي كانت ركيزة أساسية لتحالفه السياسي والحرب في الأشهر الأخيرة، ولا يمكن أن يتحمل آبي خسارة المزيد من دعم أمهرة نظرًا لمجموعة المشاكل الأخرى التي تواجهها حكومته، بما في ذلك التمرد المتزايد في المنطقة الأكثر اكتظاظًا بالسكان في إثيوبيا وهي أوروميا، بالإضافة لذلك، فإن احتمال اكتساب تيجراي القدرة على إعادة إمداد نفسها من السودان عبر تيجراي الغربية أمر غير مقبول بالنسبة لآبي أحمد.
التداعيات الاقتصادية والإنسانية للصراع
تسبب الصراع المستمر منذ عامين في أزمة إنسانية كبيرة في تيجراي وأجزاء أخرى من شمال إثيوبيا، فضلا عن الآثار السلبية التي تركها على الاقتصاد الإثيوبي، وتتمثل أبرز تداعياته في:
انعدام الأمن الغذائي
تشهد تيجراي واحدة من أسوأ حالات طوارئ الأمن الغذائي على مستوى العالم، حيث يقدر برنامج الغذاء العالمي أن أكثر من 13 مليون شخص بحاجة إلى مساعدات إنسانية في شمال إثيوبيا، بما في ذلك؛ 4.8 ملايين في تيجراي، و 1.2 مليون في عفر، وأكثر من 7 ملايين في أمهرة، ويزداد الوضع سوءًا بالنسبة للأطفال، حيث تشير تقديرات منظمة اليونيسيف إلى أن أكثر من 115 ألف طفل في جميع أنحاء المنطقة يعانون من سوء التغذية الحاد الذي يهدد حياتهم وذلك حتى نهاية 2022، وهو عشرة أضعاف متوسط عدد الحلات السنوي، وما يقرب من نصف النساء الحوامل والأمهات المرضعات الذين تم فحصهم في تيجراي يعانون أيضًا. فضلًا عن ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية والوقود، فعلى سبيل المثال؛ ارتفعت أسعار الأرز بنسبة تتخطى الـ 100٪ مقارنة بمستويات ما قبل الأزمة، وازدادت أسعار الوقود بنسبة تصل إلى 1000٪، وتتوقع تقارير إعلامية مختلفة احتمال حدوث مجاعة جماعية تؤثر على عدد كبير من سكان تيجراي.
وعلى الرغم من بعض التقدم الحادث في توصيل المساعدات على إثر اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم بين الطرفين المتحاربين في الفترة ما بين مارس وأغسطس 2022، لا يزال الوصول إلى السكان في تيجراي يمثل مشكلة كبيرة، كما أن المساعدات لا تكفي لتلبية احتياجات ملايين الأشخاص الذين ما زالوا محاصرين في المنطقة، ولا يزال السكان يواجهون حالات تفشٍ متعددة للأمراض، بما في ذلك الملاريا والجمرة الخبيثة والكوليرا.
الحرمان من الخدمات الأساسية
إلى جانب انعدام الأمن الغذائي الشديد، فإن العنف القائم على النوع الاجتماعي، وعدم الحصول على الخدمات الأساسية والرعاية الصحية المناسبة والرعاية الاجتماعية، يبعث الفوضى في المنطقة، حيث حرمت الحكومة الإثيوبية وحلفاؤها حوالي سبعة ملايين شخص من الوصول إلى الخدمات الأساسية، بما في ذلك الإنترنت والاتصالات والكهرباء والخدمات المصرفية والرعاية الصحية، ووضعت قيودًا صارمة على وصول المساعدات الإنسانية إلى تيجراي، مما ترك ما يزيد عن 90 ٪ من السكان في حاجة ماسة إلى مساعدات إنسانية طارئة.
بالإضافة لذلك، فإن تيجراي التي كانت توصف بأنها منطقة بها أحد أفضل أنظمة الرعاية الصحية في إثيوبيا، أصبحت الآن لديها نظام رعاية صحية منهار، وعلى الرغم من القانون الإنساني الدولي الذي ينص على وجوب حماية مرافق الرعاية الصحية أثناء النزاع المسلح، فإن التقارير الصادرة عن منظمات دولية بما في ذلك منظمة أطباء بلا حدود ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية وغيرها، تشير إلى أن الجيش الإثيوبي والإريتري وميليشيات أمهرة هاجموا عمدًا المرافق الصحية والعمال الصحيين، ونهبوا المعدات الطبية والأدوية وحرقوا سيارات الإسعاف، وحولوا بعض المرافق الصحية إلى معسكرات، ما أدى إلى التعطل الجزئي أو الكلي لـ 85٪ من المراكز الصحية و 70٪ من المستشفيات، و90% من سيارات الإسعاف في المنطقة.
فضلًا عن تدمير ما يزيد عن 2000 منشأة تعليمية، ما أدى إلى بقاء ملايين الأطفال خارج المدارس في تيجراي، حيث تأثر الوصول إلى التعليم لما يقدر بنحو 2.7 مليون طفل في شمال إثيوبيا بسبب المدارس المدمرة من الحرب.
التأثير على الزراعة
يعمل حوالي 75% من سكان تيجراي بالزراعة، ويعتمدون على المحاصيل المحلية من أجل البقاء، وفي ظل فشل المحاصيل لعامين متتاليين، وعدم القدرة على توصيل المساعدات إلى الملايين في تيجراي، أصبح الوضع كارثيًا، حيث أشارت بعض التقارير إلى أن القوات المتحالفة مع الحكومة الإثيوبية تحرق أو تنهب المحاصيل النقدية، وتحرم المزارعين من فرصة زراعة أراضيهم وجمع محاصيلهم وتقتل أو تنهب حيواناتهم بما في ذلك الثيران المستخدمة في حرث الأراضي الزراعية، بالإضافة لذلك لم يكن هناك أي وصول إلى المدخلات الزراعية مثل البذور والأسمدة، ما دفع إلى تعريف الوضع بأنه محاولة متعمدة للتجويع، وجعل الآفاق المستقبلية للمنطقة رهيبة بشكل ينذر بالخطر، فضلًا عن قطع الأشجار على مستوى واسع لاستخدام الأخشاب للتدفئة والإنارة وأعمال الطبخ في ظل انقطاع التيار الكهربائي والوقود عن المنطقة، وهو ما يؤثر سلبيًا على البيئة ويزيد من معدلات التصحر في منطقة تعاني بالأساس من موجات جفاف متلاحقة.
النزوح واللجوء والخسائر البشرية
لعدة أشهر في بداية الصراع، نفى آبي تعرض المدنيين للأذى أو أن جنودًا من إريتريا انضموا إلى القتال، لكن التقارير الواردة من المراقبين الدوليين وجماعات حقوق الإنسان أثبتت أن هذه الادعاءات كاذبة، حيث تشير التقديرات إلى مقتل أكثر من 52000 مدني، وتشريد 4.2 ملايين شخص نزحوا داخليا في مناطق الصراع في شمال إثيوبيا، بينهم 2.1 مليون نازح في أمهرة حتى مطلع عام 2022، ويشكل مزيد من النزوح ضغطًا على البنية التحتية للمناطق التي يتم النزوح إليها في إثيوبيا، والتي تعاني أصلا من تدهور في الخدمات.
علاوة على ذلك، دقت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مرارًا وتكرارًا ناقوس الخطر بشأن سلامة اللاجئين الإريتريين في تيجراي، حيث كانت تيجراي موطنًا لأكثر من 95000 لاجئ عندما بدأ النزاع، يتم إيواءهم في أربعة مخيمات في منطقة تيجراي (ماي عيني، وأدي هاروش، وشيميلبا، وهيتساتس)، وبعد وقت قصير من اندلاع الحرب، واجه ما يقرب من 24000 لاجئ إريتري يعيشون في المنطقة موجة جديدة من العنف والترهيب والمضايقات، وكانوا يعيشون في خوف دائم حيث تم تهديد المساعدات الإنسانية التي اعتمدوا عليها للبقاء على قيد الحياة، وفي أوائل عام 2021 تم الإبلاغ عن تدمير مخيمين بشكل منهجي بالقرب من الحدود الإريترية، يستضيفان ما يقرب من 34000 لاجئ، وتقول المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إن اللاجئين حوصروا في مرمى النيران وربما يكون بعضهم قد قتلوا أو أجبرتهم القوات الإريترية على العودة إلى إريتريا، بينما فر بعض اللاجئين إلى مخيمات أخرى، لكن الآلاف في عداد المفقودين.
إلى جانب ذلك، فإن أزمة اللجوء لا تؤثر فقط على إثيوبيا وإنما يصل صداها إلى دول الجوار، وقد يؤدي طول أمد الحرب بين الفصائل المسلحة داخل إثيوبيا إلى إرسال مئات الآلاف من اللاجئين عبر الحدود، وتعطيل طرق التجارة، ولا يوجد مكان تتجلى فيه تهديدات عدم الاستقرار أكثر مما هي عليه في السودان المجاور، فمنذ بداية الأزمة عبر أكثر من 70000 شخص إلى السودان المجاور في الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، وعلى الرغم من عدم دقة الأرقام نتيجة تعتيم المعلومات المتعمد من حكومة إثيوبيا، ففي كل الأحوال هي خسائر ستؤثر بشكل مباشر على معدلات التنمية في البلاد.
استخدام العنف الجنسي كسلاح
تشير التقارير الدولية إلى التأثير غير المتناسب للصراع على النساء، ولكن في حالة تيجراي يزداد الأمر سوءًا، حيث يتم استخدام الاغتصاب كسلاح حرب، وفي هذا الإطار، أفادت تقارير عن منظمة العفو الدولية أن نساء في تيجراي تعرضن بشكل ممنهج للاغتصاب الجماعي على أيدي أفراد من الجيش الإثيوبي والقوات الإريترية المتحالفة مع حكومة آبي أحمد، وأشارت المنظمة إلى أن المرافق الصحية في تيجراي سجلت 1288 حالة عنف جنسي بين شهري فبراير وأبريل 2021، ووفقا لتقييم مشترك أجرته جامعة ميكيل ومكتب الصحة الإقليمي في تيجراي، منذ بداية الحرب تعرضت أكثر من 120 ألف امرأة وفتاة للاغتصاب، وأصيب 5 % من الضحايا بفيروس نقص المناعة البشرية / الإيدز.
الآثار الاقتصادية للحرب في تيجراي
أدت الحرب في تيجراي إلى قلب المكاسب الاجتماعية والاقتصادية التي حققتها إثيوبيا بشق الأنفس خلال العقود الماضية، حيث ارتفع معدل التضخم من 18% في أكتوبر 2020 إلى أعلى قيمة له منذ عشر سنوات عند 37.7% في مايو 2022، بينما تخطى معدل التضخم الغذائي حاجز الـ 40%، وانخفضت قيمة العملة المحلية من 33 بر مقابل 1 دولار قبل بداية الحرب في أكتوبر 2020، إلى 53 بر لكل دولار في أكتوبر 2022، بالإضافة لذلك، استنفدت الحرب ما يزيد عن مليار دولار من خزائن الدولة خلال السنة الأولى من الحرب، فضلًا عن ارتفاع نسبة الديون الحكومية إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى ما يزيد عن 60% في عام 2021، بينما تشير التقديرات إلى عدم قدرة إثيوبيا على سداد ديونها في حالة استمرار الحرب، خاصة في ظل انخفاض الاحتياطي من العملة الأجنبية، وانخفاض تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بنسبة 20%.
علاوة على ذلك، واجه الاقتصاد الإثيوبي ضربة جديدة بعد قرار الولايات المتحدة تعليق استفادة إثيوبيا من قانون النمو والفرص (أجوا) بدءًا من يناير 2022 ولمدة عام، وهو ما يؤدي إلى خسارة إثيوبيا لسوق ضخم لمنتجاتها التي كانت تتمتع فيه بإعفاء من الرسوم الجمركية بموجب قانون أجوا في السابق، وكانت تعول حكومة آبي أحمد على أجوا كمحفز أساسي لإستراتيجيتها التصنيعية، ما من شأنه أن يضر بالاستراتيجية الصناعية لإثيوبيا.
ولم يتوقف الأثر الاقتصادي عند حدود منطقة تيجراي التي تم إغلاق العديد من المصانع والمناجم فيها، وهرب الكثير من المستثمرين منها خوفا على أموالهم، وإنما امتد إلى مناطق أخرى في إثيوبيا حيث أغلقت العديد من الشركات العالمية أنشطتها في إثيوبيا، على سبيل المثال أغلقت شركة PVH Corp عملاقة الأزياء العالمية منشآتها التصنيعية في إثيوبيا.
وفي محاولة لوقف الصراع الدائر في شمال إثيوبيا، ودفع أطراف الصراع للحل السلمي، علقت العديد من الدول الغربية دعمها لإثيوبيا، حيث أوقفت الولايات المتحدة الأمريكية المساعدات الأمنية والتنموية لإثيوبيا والتي تبلغ قيمتها 272 مليون دولار، إلى جانب إعلان الاتحاد الأوروبي تعليق دعم الموازنة الإثيوبية بما قيمته 88 مليون يورو (107 ملايين دولار)، وهي عقوبات على أهميتها إلا أنها لا تزال ضعيفة وغير فعالة في الضغط على حكومة آبي أحمد لإنهاء الحرب.
مستقبل غير مؤكد
بالنسبة لقادة تجراي، فإن خسارة هذه المعركة ستكون بمثابة خسارة السلطة السياسية والعودة إلى الإيذاء والفقر والتهديد بالإبادة، بينما بالنسبة لحكومة آبي أحمد فإن الاستسلام يعني هزيمة سياسية ساحقة لآبي أحمد والرئيس الإريتري أسياس أفورقي، وفتح الباب أمام القوميات الأخرى في إثيوبيا لانتهاج أسلوب تيجراي، ومن ثم التهديد بتفكك الدولة الإثيوبية، ونظرًا لتاريخهم السياسي المعقد، فإن المصالحة بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم تيجراي تمثل تحديًا كبيرًا، ومن غير المرجح أن يؤدي أي اتفاق سلام بينهما إلى حل المشكلة، طالما ظلت الأطراف الأخرى (مثل الأمهرة والأورومو وأريتريا) خارج الاتفاق، ومن ثم ستستمر النزاعات.
بالإضافة لذلك، فإنه على الرغم من أن حكومته لم تعترف بعد بدورها في الحرب الإثيوبية، إلا أن الرئيس الإريتري أسياس أفورقي لديه فرصة للمطالبة بمناطق في شمال إثيوبيا ممنوحة لأسمرة بموجب قرار لجنة الحدود التابعة للأمم المتحدة لعام 2002 الذي رفضت أديس أبابا احترامه، علاوة على ذلك، لدى الزعيم الإريتري طموح طويل الأمد لتقليص حجم الجبهة الشعبية لتحرير تيجراي، التي ينظر إليهم على أنهم سبب الدمار الذي لحق بإريتريا في حرب 1998- 2000. ومن ثم فإن تراجع أفورقي الآن لن يكون بالأمر السهل.
من جهة أخرى، تدرك السلطات الإثيوبية أنها بحاجة ماسة إلى المساعدات والقروض الأجنبية، وإعادة وصول إثيوبيا إلى الأسواق الأمريكية بموجب قانون النمو والفرص الأفريقي (أجوا) لإنعاش اقتصاد البلاد المنهار، وفي ظل ضعف احتمالية انصياع آبي أحمد لمطالب تيجراي أو العكس، اتبع آبي نهجًا مزدوجًا للتحايل على الوضع، إذ ترسل السلطات الإثيوبية إشارات متناقضة في رسائلها العامة، ففي رسالتها للداخل الإثيوبي تؤكد على أنها لن تستسلم ولن تخضع لأي ضغوط، وأنها تصمم على إخضاع حكومة إقليم تيجراي باستخدام جميع الأدوات المتاحة لهم؛ بينما في رسالتها الخارجية، تسعى حكومة آبي أحمد إلى إرضاء المجتمع الدولي، وتؤكد على اهتمام الحكومة الفيدرالية بإنهاء الحرب عبر تسوية سلمية، في محاولة لكسب المجتمع الدولي لإزالة العقوبات وتيسير الدعم.
ويبدو أن بعض الفاعلين الخارجيين ينخدعون بسهولة بجهود السلام المزعومة هذه، على سبيل المثال، واصل البنك الدولي التعهد بتقديم الدعم المالي للحكومة الإثيوبية تحت مسمى إعادة تأهيل المنطقة التي مزقتها الحرب، وبدأ في إعداد تسعة مشاريع أخرى في إثيوبيا بقيمة 2.7 مليار دولار في عام 2022.
ختامًا، يبدو المشهد أكثر تعقيدا في شمال إثيوبيا بعد عامين من الحرب الأهلية، ومع اشتداد القتال مرة أخرى في أجزاء مختلفة من البلاد، سيحمل المشهد في طياته خطر تفاقم الوضع الإنساني المتردي بالفعل لأكثر الشعوب فقرًا في أفريقيا، وهو ما يهدد بكارثة إنسانية غير مسبوقة، وانهيار واسع في الاقتصاد الإثيوبي سيحتاج لسنوات طويلة لإعادة إنعاشه من جديد، خاصة في ظل تراجع الاهتمام الدولي بالمشاكل الأفريقية، والانشغال بقضايا أخرى على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية.
.
رابط المصدر: