- ظهرت أولى مؤشرات التحسن النسبي في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في أكتوبر 2023 عندما زار وفد رفيع المستوى يضم ستة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي برئاسة السناتور تشك شومر بيجين.
- اكتسب اتجاه من التحسن المتواضع في العلاقات الثنائية الصينية-الأمريكية زخماً جوهرياً خلال شهر نوفمبر 2023 بعد لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن بنظيره الصيني شي جينبنغ في سان فرانسيسكو خلال لقاء قمة سبق اجتماعات “منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي” (أبيك).
- الرغبة الصينية في استقرار العلاقات مع الولايات المتحدة مدفوعة جزئياً بالصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد، ومن مصلحة بايدن أيضاً تجنُّب مواجهة متصاعدة مع بيجين بشأن تايوان، ويبدو أن شي جينبنغ يُفضّل التعامل مع بايدن بدلاً من ترمب المندفع للغاية وغير المُنتظم ومتقلّب المزاج.
تشهد العلاقات الأمريكية-الصينية بعض التقارب بعد فترة من التوتر الشديد حول تايوان والعلاقات التجارية خلال السنتين الماضيتين، وظهر هذا التقارب في اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي جو بايدن بالرئيس الصيني شي جينبنغ، على هامش قمة “أبيك” التي انعقدت في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية في أواسط نوفمبر 2023.
عوامل التوتر الأخيرة في العلاقات بين البلدين
تتمثل دوافع الإحباط الرئيسة بالنسبة لواشنطن في نشاطات الصين العسكرية حول تايوان، والتوسع المتسارع في ترسانة الصين النووية والبحرية، واستفزازاتها لدول الجوار المشاطئة لبحر الصين الجنوبي، ومعاملتها للمسلمين الإيغور في مقاطعة شنغيانغ. وتعترض الصين بالمقابل على نشاطات الولايات المتحدة العسكرية والدبلوماسية لحماية وتسليح تايوان، واستراتيجيات واشنطن لاحتواء بيجين من خلال إقامة شراكات عسكرية واستراتيجية في منطقة آسيا والهادي، والقيود التي تفرضها على الصادرات والتي تحد من وصول الصين إلى التكنولوجيا المتطورة، مثل الرقائق التي تُستَخدَم في الحوسبة الكمية والذكاء الاصطناعي.
وبلغ التوتر بين بيجين وواشنطن ذروته بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي آنذاك نانسي بيلوسي لتايوان، وإسقاط الولايات المتحدة منطاد تجسس صيني في وقت سابق من عام 2023. ورداً على ذلك قررت الصين تعليق الاتصالات العسكرية رفيعة المستوى، والحفاظ على العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى. وأدت كل هذه الديناميات السلبية إلى زيادة كبيرة في احتمال حدوث مواجهة عسكرية بين القوتين العظميين المصممتين على تقليص الترابط بينهما.
وبدأ انفراج حَذِر يحلّ بشكل بطيئ محلّ الاتجاه السلبي بين واشنطن وبيجين، حيث بدأ الطرفان الآن بقبول أنه يتعين عليهما إدارة الخلافات بينهما بشكل مسؤول في عالم يعتمد فيه السلم والاستقرار والتقدم على التعاون وتجزئة المشاكل. وظهرت أولى مؤشرات التحسن النسبي في العلاقات بين الصين والولايات المتحدة في أكتوبر 2023 عندما زار وفد رفيع المستوى يضم ستة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي برئاسة السناتور تشك شومر بيجين. وعمد الرئيس الصيني خلال استقباله للوفد الأمريكي إلى التقليل من شأن التوتر المتصاعد بين الدولتين ووصفه بأنه مجرد سحابة عابرة، وحثَّ القوتين العظميين على تجاوز “التنافس والمواجهة من خلال تبني روح التعاون”. ورَدَّ شومر بقوله إن من “الطبيعي” أن تتنافس القوتان العظميان في العالم في مجال التجارة والتكنولوجيا والدبلوماسية، غير أنه أكَّد أيضاً أنه “في الوقت الذي نرحب فيه بهذا التنافس، لكنَّنا لا نسعى إلى الصراع“.
ولم تخْلُ هذه الزيارة، التي جاءت بعد أيام فقط على الهجوم الذي شنته حركة “حماس” ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، من التوتر، غير أنها أدت إلى تحسين المناخ بين الطرفين. وعبّر شومر خلال اجتماعه بوزير الخارجية الصيني وانغ يي عن خيبة أمله الكبيرة تجاه رَدّ بيجين على الهجمات “الإرهابية” التي شنتها “حماس”، إذ إن بيجين “لم تُبدِ أي تعاطف “تجاه المئات من القتلى الإسرائيليين”. وطالب شومر بإدانة واضحة لـ “حماس”، في الوقت الذي طلب فيه أعضاء آخرون في الوفد الأمريكي من الصين استخدام نفوذها لدى إيران لتجنب تصعيد الحرب. وبالرغم من استمرار الصين في إلقاء اللوم على الاحتلال الإسرائيلي، غير أنه لوحِظَ أن وزارة الخارجية الصينية زادت إلى حدٍّ ما من حدّة موقفها تجاه “حماس” بعد هذه الزيارة، حيث شجبت بيجين الأفعال التي أضرَّت بالمدنيين الإسرائيليين.
تقارب حذر في سان فرانسيسكو
اكتسب اتجاه من التحسن المتواضع في العلاقات الثنائية الصينية-الأمريكية زخماً جوهرياً خلال شهر نوفمبر 2023 بعد لقاء الرئيس الأمريكي جو بايدن بنظيره الصيني شي جينبنغ في سان فرانسيسكو خلال لقاء قمة سبق اجتماعات “منظمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادي” (أبيك). وتُعَدُّ هذه المرة الثانية التي يلتقي فيها الزعيمان وجهاً لوجه منذ تولي بايدن للمنصب في 2021. وأكد بايدن خلال اللقاء أن من واجبهما ضمان عدم تَحَوُّل التنافس بين الدولتين إلى صراع، كما تبنى الرئيس الصيني نغمةً تصالحية بقوله إنه بالرغم من بعض المشاكل “الخطيرة” فإنه “يجب علينا أن نكون قادرين تماماً على التسامي فوق الخلافات، وأن الكرة الأرضية واسعة بما يكفي لنجاح الدولتين“.
وأعلنت بيجين وواشنطن بعد أربع ساعات من المحادثات أنهما اتفقتا على استئناف الاتصالات العسكرية، وأن تتضمن التفاعلات بين الطرفين نقاشات بين وزراء الدفاع وقادة الجيش والعمليات في الدولتين. كما يلاحظ بشكل واضح أن الطرفين قرّرا تبني خطوات بنّاءة حول تايوان، حيث انتقى الرئيس شي كلماته بحذر لنفي الشائعات حول وجود خطط وجدول زمني لغزو تايوان، الذي يُعَدُّ مصدر قلق متواصل في واشنطن. وبدلاً من ذلك أكَّدَ الرئيس الصيني عدم وجود مثل هذه الخطط، مشيراً إلى سعي بلاده إلى توحيد سلمي فقط.
وتفادى الرئيس بايدن الإجابة عن أسئلة حول إذا ما كان يتمسك بتصريحاته التي أطلقها في أربع مناسبات سابقة بأنه سيصدر أوامره إلى الجيش الأمريكي للدفاع عن تايوان ضد أي هجوم من جانب الصين. وبدلاً من ذلك أكَّد الرئيس الأمريكي أهمية “السلام والاستقرار” في مضيق تايوان، مشيراً إلى أن واشنطن ما زالت ملتزمة بسياسة “الصين الواحدة” التي تعترف بالحكومة في بيجين على أنها الحكومة الوحيدة في الصين، والاعتراف بمطالب بيجين بالسيادة على تايوان.
ويعتقد معظم المحللين بأن نتائج انتخابات تايوان مطلع عام 2024 ستشكل اختباراً حاسماً للعلاقات الصينية-الأمريكية، وبخاصة في حال أن جاءت هذه النتائج لمصلحة مزيد من الاستقلال لتايوان. وأشارت تقارير إلى أن الرئيس الصيني حذّر بايدن من مغبة تسليح تايوان، وحثه على عدم دعم نائب الرئيس التايواني لاي تشينغ-تي في مسعاه لخوض انتخابات الرئاسة في يناير 2024. وتَعتبر بيجين لاي وحزبه “الحزب التقدمي ا لديمقراطي” من دعاة استقلال تايوان. ويبدو أن إدارة بايدن ترغب في توخي الحذر قبيل الانتخابات في تايوان، لتجنب إثارة أي شعور بالتدخل في هذه الانتخابات قد يثير غضب بيجين.
وكانت هناك أيضاً مؤشّرات أخرى على التقدّم والانفراج في العلاقات بين الجانبين في سان فرانسيسكو. وبعبارات أكثر تحديداً، اتّفق الجانبان على إنشاء فريق عمل مَعني بمُكافحة المخدرات. وقالت بيجين إنها ستحد من تصدير المواد الكيميائية المُستخدمة في صناعة الفنتانيل، وهو مادة أفيونية اصطناعية نشرت وباء المُخدّرات القاتل في الولايات المتحدة. كما اتفق الجانبان على إنشاء مجموعات عمل حول الذكاء الاصطناعي والتعاون بشكل مُكثّف للتعامل مع أزمة المناخ. كما تم رصد بعض التقدّم المُعتدل على الجبهة الاقتصادية، حيث قدّم الرئيس شي جينبنغ عرضاً للاستثمار في الصين أمام عددٍ من كبار قادة الأعمال الأمريكيين، وحثّ على مُراجعة بعض القيود الأمريكية المفروضة على التصدير وفحص الاستثمارات والعقوبات المالية بروح الالتزام بقواعد التجارة الحرّة ضمن معايير منظمة التجارة العالمية. وقد أكّد بايدن أن واشنطن تريد تجنّب حرب تجارية، وأن إدارته لا تؤيد “الانفصال” عن الصين.
وفي نهاية المطاف، أثبتت القمة نجاحاً دبلوماسياً واضحاً، وعزّزت الشعور بالتقارب الحذر في العلاقات بين البلدين في أعقاب عامين مُثيرين للجدل.
لماذا الآن؟
يتّفق معظم المُحلّلين في واشنطن على أن الرغبة الصينية في استقرار العلاقات مع الولايات المتحدة مدفوعة جزئياً بالصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلاد؛ فالرئيس شي جينبنغ يقود اقتصاداً يمتاز بتباطؤ في النمو، وتزايد الديون، وارتفاع مُعدّلات البطالة بين الشباب، وتناقص الاستثمار الأجنبي المُباشر. ويعاني الاقتصاد الصيني مزيجاً من المشاكل القصيرة الأجل فضلاً عن التحدّيات البنيوية طويلة الأمد، والتي يبدو أن جميعها تقترب من ذروتها في الوقت نفسه. والعامل الحاسم بهذا الخصوص هو الاستثمارات السيّئة في قطاع العقارات، الذي كان مُحرّكاً رئيساً للنمو منذ الأزمة المالية لعام 2008. والآن بدأت سوق العقارات الصينية في الانهيار، ويرجع ذلك أساساً إلى تزايد أنشطة المُضاربة على مستوى الحكومات المحليّة التي تقترض بشكل غير مسؤول وعلى المستوى الجزئي، أي على المستوى الفردي للمستهلكين الصينيين الذين يتخلّفون الآن عن سداد رهنهم العقاري. وقد ارتفعت حالات التخلّف عن السداد من قبل المُقترضين الصينيين إلى مستوى قياسي – ما يقرب من 10 ملايين مواطن – منذ تفشي جائحة “كوفيد-19″، ما يكشف عمق الانكماش الاقتصادي في البلاد والعقبات التي تحُول دون التعافي الاقتصادي الكامل.
ويتفاقم خطر الانكماش وانخفاض النمو وارتفاع الدَّين العام والمحلّي في الصين بسبب التركيبة السكانية المثيرة للقلق مع ارتفاع شيخوخة السكان وتضاؤل مستويات الإنتاجية. وفي ظل غياب الاستثمار الأجنبي المباشر القوي، لن تتمكّن الصين من تحقيق النمو الاقتصادي بالحد الأدنى الضروري حتى بمُعدّل 4%.
هذه التوقّعات الاقتصادية السلبية مُجتمعةً تُساعِد على فهم سبب حرص القيادة الصينية على جذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية المُباشرة إلى الصين، من خلال خفض التوتّرات الجيوسياسية مع الغرب عموماً ومع واشنطن على وجه الخصوص. ربما تحاول الصين أيضاً الاستفادة من الانقسام داخل إدارة بايدن، بين التيار الذي تُمثّله شخصيات مثل وزيرة الخزانة، جانيت يلين، التي تُفضّل تحسين العلاقات المالية والتجارية مع الصين، ومعسكر جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي، الذي يُركّز أكثر على محاولة تشكيل البيئة الدولية حول بيجين بطرق من شأنها الضغط على النظام الصيني.
الاستنتاجات
يتعيّن تحليل التقارب الحذر الذي تشهده العلاقات الثنائية الصينية-الأمريكية في إطار المصالح المالية والاقتصادية الصينية، وتراجع التوقّعات الاقتصادية بالنسبة لبيجين. وتهدف بيجين إلى إرسال إشارات بناء الثقة إلى الأسواق، مع رسالة رئيسة مفادُها بأن التوتّرات الجيوسياسية تحت السيطرة وأنه لا يتعيّن على الشركات الأمريكية والأوروبية، والمستثمرين اليابانيين والأستراليين أيضاً، أن يقلقوا بشأن اشتعال حرب وشيكة حول تايوان من خلال تأجيل خطط أعمالهم مع الصين.
وسيُظهر الوقت فيما إذا كان هذا الانفراج في الاستراتيجية الصينية مع واشنطن سيؤتي ثماره. فالولايات المتحدة بصدد الدخول في عام الانتخابات، وسيكون من المُستحيل على بايدن تغيير مساره بشكل جذري بشأن الصين عندما يواجه ترمب؛ لذا ستواصل واشنطن تشديد ضوابط التصدير على أشباه الموصلات وغيرها من التقنيات إلى الصين، وإرسال السفن الحربية والطائرات العسكرية بالقرب من الأراضي الصينية، ومُعاملة بيجين بشكل عام على أنّها “مُنافسها الرئيس”.
ومع ذلك، وفي نهاية المطاف، فإن من مصلحة بايدن أيضاً تجنُّب مواجهة متصاعدة مع بيجين بشأن تايوان. ومع اشتعال العالم في أوروبا والشرق الأوسط، فإن آخر ما يحتاجه الرئيس الأمريكي هو جبهة جديدة من المواجهة العسكرية المحتملة في آسيا. فبايدن سيخوض مُنافسة قوية ضد ترمب، وليس لديه سجل ناجح في السياسة الخارجية؛ فالخروج الأمريكي الكارثي من أفغانستان، وغزو روسيا لأوكرانيا، واقتراب إيران من امتلاك الأسلحة النووية، وانخراط إسرائيل في حرب بلا مخرج؛ جميعها تطوّرات كارثية حدثت في ظل إدارة بايدن. وسيُذكِّر ترمب الشعب الأمريكي بأن العالم كان مكاناً أكثر أماناً في ظل رئاسته. وعندما يتعلّق الأمر بالاختيار بين ترمب وبايدن، لا يزال مُعظم المُحلّلين في واشنطن يعتقدون أن شي جينبنغ يُفضّل التعامل مع بايدن بدلاً من ترمب المندفع للغاية وغير المُنتظم ومتقلّب المزاج. وفي نهاية المطاف، قد يكون ذلك أيضاً عاملاً إضافياً وراء رغبة بيجين في الانخراط مع بايدن، ومساعدته في الادّعاء بأن منطقة آسيا والمحيط الهادي والعلاقات مع الصين مُستقرّة على الأقل، على عكس الاضطرابات الكبيرة في أوروبا والشرق الأوسط.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/bad-aamain-m-thir-in-lljadl-anfaraj-h-th-r-fi-alalaaqat-alamarikih-alsiniah