حسب معلومات متقاطعة، سربتها جهات سياسية وعسكرية عراقية وأميركية، فإن مسودة الاتفاق الثنائي بين بغداد وواشنطن، الخاص بانسحاب ما بقي من قوات أميركية في العراق، تنص على أن يحدث ذلك على مرحلتين، أولى تنسحب فيها القوات الأميركية من كل مناطق العراق باستثناء إقليم كردستان، وأخرى من كردستان نفسها، وأن يُنفذ ذلك خلال عامين، بحيث تُنجز كل مرحلة خلال عام.
حدث ذلك بعدما رفض العراق تمديد بقاء القوات الأميركية لثلاث سنوات، مثلما طالبت الولايات المتحدة، وبأن يكون الانسحاب مراعيا لشروط ومناخات ملف محاربة الإرهاب، تحديدا في سوريا، حيث تتمركز قوات أميركية في شمالها الشرقي، وتتلقى دعما ورعاية لوجستية من القواعد الأميركية في العراق.
وقبل شهر من التوصل إلى هذه المسودة، ردت المحكمة الاتحادية العراقية الدعوى المقامة أمامها، المطالبة بـ”إجبار” رئيسي الوزراء والجمهورية على إخراج القوات الأميركية من العراق مباشرة، وتصفية القواعد العسكرية الأميركية على الأراضي العراقية والمطالبة بتعويضات عن استغلال المنشآت العراقية وقالت المحكمة إنه ليس في مجال اختصاصها.
بعد قرار المحكمة بساعات قليلة فحسب، استهدف قصف صاروخي قاعدة “عين الأسد”، في محافظة الأنبار غربي العراق
بعد قرار المحكمة بساعات قليلة فحسب، استهدف قصف صاروخي قاعدة “عين الأسد”، في محافظة الأنبار غربي العراق، حيث تتمركز القوات الأميركية، ما أسفر عن جرح ما لا يقل عن 7 جنود أميركيين. وأعلنت قيادة العمليات المشتركة في العراق بعد الهجوم بساعات قليلة عن “ضبط سيارة محملة بثمانية صواريخ من أصل 10، كانت مُعدة للإطلاق بالقرب من القاعدة”، وتعهدت بملاحقة الفاعلين.
ويدل هذا الاحتقان على التعقيدات التي تلف مسألة الوجود والقواعد العسكرية الأميركية في العراق. فالهجوم الأخير كان واحدا من أصل 170 هجوما شنته جهة “مجهولة” تطلق على نفسها اسم “المقاومة الإسلامية في العراق” على مقار القوات الأميركية في كل من العراق وسوريا والأردن خلال الشهور العشرة الأخيرة، دون أن تتمكن الحكومة العراقية من كشف الجهة الحقيقية تلك أو تقديم المرتكبين للقضاء، فيما تتهم وزارة الدفاع الأميركية من تسميهم “أذرع إيران في العراق” بارتكاب ذلك، وفي المقابل فإن القوى السياسية العراقية المركزية “الشيعية” المقربة من إيران والمُشكلة والداعمة للحكومة العراقية الحالية برئاسة محمد شياع السوداني تضغط من أجل إخراج هذه القوات من العراق.
صعوبات وصراع داخلي
تُقدر أعداد الجنود الأميركيين في العراق بحوالي 2500 عسكري، مستقرين في قاعدتين أساسيتين، هُما “عين الأسد” في محافظة الأنبار غربي العراق، و”حرير” في محافظة أربيل بإقليم كردستان. وثمة حضور عسكري أميركي في عدد من مراكز الإسناد والدعم اللوجستي، فيما يشبه المراكز الأمنية الموسعة، بالقرب من مطاري بغداد وأربيل المدنيين وقاعد “K4” في محافظة كركوك.
الوجود العسكري الأميركي الراهن هو جزء من الجهد الحربي الأميركي لمواجهة تنظيم “داعش” في منطقة الشرق الأوسط، الذي بدأ في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2014، تحت اسم “قوة المهام المشتركة– عملية العزم الصلب”، في كُل من سوريا والعراق.
قلعة أربيل
وبعد أن كانت الولايات المتحدة قد انسحبت من العراق عسكريا أواخر عام 2011، حسب “اتفاقية سحب القوات” التي وقعتها الولايات المتحدة مع العراق في نوفمبر/تشرين الثاني من عام 2008. وتوسع تنظيم “داعش” في كل من سوريا والعراق، تحديدا بعد احتلاله لمدينة الموصل ومساحات شاسعة من غرب العراق، في صيف عام 2014، عاد العراق وطلب تدخلا عسكريا أميركيا، وحسب ذلك استقر قرابة 2500 جندي أميركي في الأراضي العراقية، وقادوا الجهد الجوي والدعم اللوجستي لهزيمة تنظيم “داعش”.
وقد تعرضت مختلف الحكومات العراقية، منذ عام 2017، بعد انتهاء المواجهات العسكرية المباشرة مع تنظيم “داعش”، لضغوط سياسية وبرلمانية وعسكرية، تطالبها بإخراج القوات الأميركية من العراق. لكنها تكثفت في عهد حكومة محمد شياع السوداني، لأسباب مركبة، تتعلق من طرف بالمزاحمة السياسية بين السوادني وقادة وتيارات تحالف “الإطار التنسيقي” المقرب من إيران، التي تشعر بـ”الخطر” من زيادة شعبية السوداني ونفوذه. كذلك لأن الجهات الضاغطة تسعى للإيحاء بأنها جزء من “الرد” على إسرائيل والولايات المتحدة، بعد اندلاع المواجهة في غزة.
وقد استجابت حكومة السوداني نسبيا لتلك الضغوط، فأنشأت “اللجنة العسكرية العليا الأميركية-العراقية” منذ يناير/كانون الثاني 2024، وحددت مهامها بالسعي لـ”الانتقال إلى شراكة أمنية ثنائية دائمة بين العراق والولايات المتحدة”، أي ما يفترض أنها مرحلة جديدة بعد سحب القوات الأميركية، لكن الأخيرة تنفي رسميا وجود مثل تلك النية راهنا.
استجابت حكومة السوداني للضغوط، وأنشأت “اللجنة العسكرية العليا الأميركية-العراقية” منذ يناير 2024، وحددت مهامها بالسعي لـ”الانتقال إلى شراكة أمنية ثنائية دائمة بين العراق والولايات المتحدة”
تحاول “قوى الضغط العراقية” الإيحاء بأنها تمثل مختلف الطيف الأهلي والسياسي العراقي، مستندة إلى السلطة الحكومية والأغلبية البرلمانية، وتمارس مزيجا من الضغوط النفسية والدعائية ضد الجهات الرافضة، ولا تتوانى الجهة الغامضة المسماة “المقاومة الإسلامية في العراق” عن ممارسة العنف ضد مصالح الجهات العراقية التي تعتبرها رافضة لـ”إخراج القوات الأميركية من العراق”.
وقد بدأ التوتر الداخلي بشأن إخراج القوات الأميركية أوائل عام 2020، حينما قاطعت الكتل البرلمانية السُنية والكردية جلسة البرلمان التي خُصصت لتشريع قانون خاص بذلك الشأن. وتضاعف التوتر بالتقادم، حتى إنه وصل إلى درجة إطلاق اتهامات بـ”الخيانة”، و”التفريط في السيادة الوطنية”.
ليس مطلبا شعبيا أو سياسيا
يبدو أن هناك اختلافا شديدا في قراءة القوى السياسية العراقية لهذه المسألة، المتأتية بالأساس من فقدان الثقة بين مكونات الشعب العراقي الرئيسة، بعد عقدين من “سياسات الهوية” والتخلي عن مبدأ التوافق وتفضيل “منطق الغلبة”.
ويقول مصدر سياسي رفيع المستوى، كان يشغل منصبا سياسيا كبيرا وفضل عدم الإفصاح عن هويته ليتحدث بحرية: “صراحة، السُنة العراقيون حاليا- برؤيتهم السياسية وتطلعاتهم المستقبلية- ليسوا كما كانوا خلال سنوات طويلة بعد عام 2003. فهم يعرفون جيدا أن وجود الولايات المتحدة العسكري في العراق ليس فاعلا ماسا بمصالحهم ولا يثير هواجسهم بشأن استقرار مناطقهم أو حضورهم ضمن مؤسسات وأجهزة الحكم. بل يكاد أن يكون الصحيح هو العكس تماما، وثمة أصوات شجاعة ضمن الأوساط السياسية السُنية تُعبر عن ذلك صراحة، خصوصا ضمن الأجواء المغلقة، تجنبا لابتزاز سياسي وشعبي قد يتعرضون له من قِبل النواة الحاكمة وأجنحتها الإعلامية والدعائية في حال قوله في الفضاء العام المفتوح. فالسُنة يُدركون تماما أن أسوأ مراحلهم كانت خلال الأعوام 2011-2014، حينما خرجت الولايات المتحدة عسكريا من الملف العراقي، وتركت الشأن للمعادلات والتوازنات الداخلية، فتلاقت الهيمنة السلطوية المركزية، المشبعة بنزعة طائفية، مع تدفق مريع للجماعات والتنظيمات المتطرفة، على الرغم من التناقض الظاهر بينهما، وهو ما دفع جغرافيا ومجتمعات الفضاء السُني العراقي ثمنا بالغا له. ولولا تدخل الولايات المتحدة عسكريا من جديد، لربما بقيت المناطق السُنية حتى الآن تحت هيمنة تنظيم (داعش)، وهو أمر قد يُستعاد في لحظة ما، لو كان العراق خاليا من التغطية الأمنية الأميركية”.
وقد يتجاوز الكُرد، بكل قواهم السياسية، نظراءهم السُنة في ذلك. فالعقل السياسي الجمعي للكُرد متأكد من أن كيانية إقليم كردستان بالأساس، منذ ثُلث قرن وحتى الآن، مرهونة تماما بالتغطية والحضور السياسي الغربي في العراق.
ويضيف المصدر: “القوى السياسية العراقية، بأغلبيتها المطلقة، ذات نزعة متناهية المركزية، ولا تؤمن بالفيدرالية والمساواة القومية بين العرب والكرد في العراق، وهي لا تخفي وتعمل دوما على تفكيك أسس الفيدرالية الكردية دون مواربة. ويمكن كشف كل ذلك عبر خط بياني لمحاولات المركز التمدد والهيمنة على المؤسسات والنظام الفيدرالي في البلاد، المتناسبة طردا مع تلاشي النفوذ العسكري والسياسي الأميركي في العراق. القادة الأكراد لا يخشون ولا يخفون رأيهم ذاك في اجتماعاتهم مع نظرائهم العراقيين، مضيفين أن الكُرد يملكون أيضا هواجس من الاندفاع الإقليمي تجاههم في حال صار العراق دون تغطية أميركية”.
مماطلة أميركية
حسب سياقات الحياة السياسية الداخلية الأميركية، من المتوقع أن تتعرض الإدارة الأميركية لضغوط متزايدة خلال الشهور القادمة، بحكم الحملة الانتخابية، واضطرار المرشحين لتقديم رؤى ووعود وتعهدات واضحة بشأن الملفات الأمنية، تحديدا فيما خص منطقة الشرق الأوسط، حيث تأتي عملية “العزم الصلب” ومستقبلها على رأس النقاشات الدائرة بشأنها.
ويتوقع المراقبون أن تكون المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس مصرة على إبقاء القوات الأميركية في كامل المنطقة. فالإدارة الديمقراطية ما تزال متأثرة بالانتقادات الشديدة التي توجه إليها جراء الانسحاب السريع و”غير المحسوب” من أفغانستان في صيف عام 2021، وما أنتجه ذلك من سيطرة حركة طالبان المتطرفة على أفغانستان بعد عقدين كاملين من هزيمتها العسكرية.
جنود أميركيون في مركبة برادلي القتالية أثناء قيامهم بدوريات في ريف الرميلان في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، بالقرب من الحدود مع تركيا، في 4 ديسمبر 2022
“الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترمب، في حال وصوله لسُدة الحكم، ستكون مستعدة أكثر لإبرام صفقة واضحة، سواء مع الحكومة العراقية أو مع إيران نفسها
طوال السنوات الأربع من حُكمها، كانت الإدارة الديمقراطية قد تركت ملف وجود القوات الأميركية في كُل من سوريا والعراق للمؤسسات والأجهزة الأميركية الأمنية والعسكرية، كما يشرح الباحث شفان رسول في حديث مع “المجلة”، مضيفا: “تؤمن الإدارة الديمقراطية وتختلف عن نظيرتها الجمهورية في أمرين رئيسين فيما خص ملف الانتشار العسكري الأميركي عبر العالم، تحديدا في المناطق القلقة، مثل جنوب آسيا والشرق الأوسط. فهي من طرف تريد الحفاظ على الوجود العسكري التقليدي غير المكلف، ماديا وسياسيا، لأنه الأكثر قدرة على تأمين المصالح وأشكال النفوذ الأميركي عبر العالم، وطبعا تزيد من ثقة الحلفاء بالدور والهيمنة الأميركية. وتترك الإدارة الديمقراطية المسألة العسكرية والأمنية للأجهزة الاختصاصية، لأنها ملفات وشؤون بعيدة المدى، لا يمكن لها التعرض للتذبذبات السياسية. يضاف ذلك إلى تجاوز الإدارة الديمقراطية لـ(عُقدة) الانعزالية المحافظة، التي بدأت منذ أوائل عهد حُكم الرئيس أوباما، وصارت راهنا أكثر (موضوعية) في شأن الانتشار العسكري عبر العالم، لما تسميه الدور/الضرورة”.
ويتابع رسول في حديثه: “الإدارة الأميركية برئاسة دونالد ترمب، في حال وصوله لسُدة الحكم، ستكون مستعدة أكثر لإبرام صفقة واضحة، سواء مع الحكومة العراقية أو مع إيران نفسها، تتضمن انسحاب القوات الأميركية من العراق، ولو جزئيا. لكن ذلك قد لا يكون متوفرا بسهولة، وإن قدمت الإدارة الأميركية وعودا خلال الحملة الانتخابية. فالرئيس ترمب جرب في عام 2019 الانسحاب العسكري الكامل من سوريا، بدعوى (إنجاز المهمة) وهزيمة تنظيم (داعش)، لكن ضغوط الكونغرس والمؤسسات الأمنية والعسكرية الأميركية أجبرته على التراجع عن قراره، وهو أمر قد يتكرر بشأن العراق. فالمسألة بالنسبة للولايات المتحدة ليست مجرد حضور عسكري لمحاربة الإرهاب، بل واحدة من أدوات الحضور والنفوذ عبر العالم، والعراق واحد من أهم وأكثر مناطق العالم حساسية بالنسبة للولايات المتحدة”.
وتأتي مناقشة إمكانية الانسحاب العسكري الأميركي من العراق في وقت تشير فيه التقارير الأميركية إلى توسع وانتظام استثنائي لعمليات “داعش” في كل من سوريا والعراق، وفي أكثر لحظات التوتر العسكري الإقليمي حرجا، فالمنطقة أقرب من أي وقت آخر لإمكانية اندلاع حرب شاملة.