عادل رفيق
نشرت مجلة بلومبيرج الأمريكية بتاريخ 11 فبراير 2020 مقالاً للرأي لتيموثي كالداس، وهو مستشار مستقل للمخاطر وزميل غير مقيم في معهد التحرير لسياسة الشرق الأوسط، بعنوان: “المصريون ليسوا أفضل حالاً عما كانوا عليه قبل الربيع العربي”، ويتناول الوضع الاقتصادي الراهن في مصر بعد مرور تسع سنوات على تنحي دكتاتور مصر السابق حسني مبارك بعد ثمانية عشر يوماً من اندلاع ثورة يناير 2011 في إطار ثورات الشعوب العربية ضد أنظمة الظلم والقهر والفساد، والتي عرفت بعد ذلك باسم “ثورات الربيع العربي”. وجاء في مقال بلومبيرج ما يلي:
تظل مطالب العيش والحرية والعدالة الاجتماعية بعيدة المنال بالنسبة لمعظم المصريين على الرغم من التحسن المعلن لمؤشرات الاقتصاد الكلي في البلاد
قبل تسع سنوات أطاح الشعب المصري بالرئيس السابق حسني مبارك، والذي حكم البلاد لمدة تقارب 30 عاماً. فسرعان ما استلهم المصريون النجاح الذي أسفرت عنه المظاهرات المناهضة للنظام الحاكم في تونس في اندلاع احتجاجات عارمة كانت في البداية ضد وحشية الشرطة في التعامل مع المواطنين، لكنها تصاعدت لتصبح مطالب بإسقاط الديكتاتورية. وكان من بين الهتافات الأكثر شعبية آنذاك سواءً في ميدان التحرير بالقاهرة أو في أماكن التظاهر الأخرى تلك التي طالبت بــ “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية”.
وبعد مرور ما يقارب عقداً من الزمان، فإن هذه المطالب لا تزال بعيدة المنال كما كانت دائماً، على الرغم من الحركة الإيجابية في العديد من مؤشرات الاقتصاد الكلي للبلاد.
وكان المصريون قد نعموا لبعض الوقت بقدر أكبر من الحرية في أعقاب سقوط حكم حسني مبارك مباشرة، حيث ازدهرت حرية التعبير، وتم تشكيل أحزاب سياسية جديدة ذات مشارب أيديولوجية متنوعة، وبدأت وسائل الإعلام الخاصة والمملوكة للدولة في نشر أخبار وتقارير تنتقد الحكومة بشكل مباشر. وأصبح المصريون يتابعون على أجهزة التليفزيون الخاصة بهم وضعاً غير مألوف بالنسبة لهم من أسلوب جديد في طريقة التعامل معهم، حيث كان الصحفيون والناشطون يظهرون على شاشات التلفاز وينتقدون المسؤولين والسياسيين بكل جرأة وصراحة.
لكن العيش والعدالة الاجتماعية ظلّا بعيدي المنال، أولاً في ظل الإدارة العسكرية التي استلمت الحكم من مبارك، ثم في ظل حكومة الحكومة المنتخبة بعد ذلك. فقد ورث الحكام الجدد في مصر مشاكل هيكلية ابتُلي بها الاقتصاد على مدى عقود. وشملت هذه المشاكل البنية التحتية السيئة، والمؤسسات العامة غير الفعالة، وقائمة شديدة الكُلفة من صنوف الدعم (المقدم للطبقات الفقيرة) بالإضافة إلى سلسلة من اللوائح المتراكمة على مدى عقود من الزمان.
وبينما كانت مصر قد سجلت في السنوات القليلة التي سبقت ثورة يناير بعض الأرقام الواعدة للاقتصاد الكلي، لكن المكاسب الناتجة عن ذلك لم تصل إلى معظم المصريين. وفي العقد الذي تلى الإطاحة بمبارك، سجل الناتج المحلي الإجمالي نمواً صحياً بشكل نسبي، حيث كسر حاجز الــ 7% على مدى عامين. وبلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في تلك السنوات أعلى مستوياته في التاريخ المصري الحديث. وبلغت احتياطيات العملة الصعبة أيضاً ذروتها، حيث بلغت 37 مليار دولار.
وعلى الرغم من ذلك، ارتفع معدل الفقر بشكل حاد على مدار عقد من الزمان، حيث ارتفع من 16.7% في عام 2000 إلى 21.6% في عام 2010. وسقط الملايين من المصريين في براثن الفقر في حين كانت النخبة هي المستفيد الأكبر من ذلك الوضع. حيث كان الكثير من نخبة رجال الأعمال أكثر براعة في الاستفادة من الارتباطات والامتيازات التي يتمتعون بها في القيام بأنشطة ريعية غير منتجة بدلاً من بناء مؤسسات إنتاجية فعالة – في ظل اقتصاد يعج بالفساد.
لقد تم إهمال البنية التحتية في مصر على مدى فترات طويلة، وتُركت المدن في حالة من الاضمحلال والتدهور بينما هربت النخب إلى مجمعات سكنية لها بوابات في ضواحي القاهرة وعلى طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. وتضخمت الاستثمارات في مشاريع التطوير العقاري الفاخرة التي اعتبرها الأثرياء ملاذاً آمناً لرؤوس أموالهم المتزايدة.
كان سقف التوقعات بعد الإطاحة بمبارك مرتفعاً للغاية. وأدت حالة حرية التعبير الجديدة إلى زيادة النشاط الصناعي وإلى ارتفاع سقف المطالب بزيادات في الأجور طال انتظارها. وعدت الإدارة العسكرية المؤقتة برفع الأجور، ولكن في ظل الركود الذي أصاب النشاط الاقتصادي وزيادة الإنفاق من أجل حماية الجنيه المصري أمام الدولار الأمريكي، تبخرت الكثير من احتياطيات مصر من النقد الأجنبي بسرعة. وكانت هناك مخاوف من أن العملة المحلية قد تتطلب تخفيضاً في القيمة بشكل رسمي، بعد أن كانت قد انخفضت فعلياً على أرض الواقع. وعندما تولت حكومة الإخوان المسلمين السلطة، ساهمت قلة خبرتها وفترة ولايتها القصيرة في عدم تمكنها من تلبية مطالب البلاد الاقتصادية بشكل عام.
وقد وضع الانقلاب في عام 2013 نهاية مفاجئة لحرية التعبير الذي كانت تتمتع به البلاد، وتعرض المعارضون لاستيلاء الجنرال عبد الفتاح السيسي على السلطة لإطلاق النار في الشوارع أو السجن بشكل جماعي، وتعرضت وسائل الإعلام عل بشكل فوري لبلطجة النظام الجديد التي أعادتها إلى زمن الذل والعبودية القديمة من جديد. ولكن السيسي الذي كان قد وعد بتوفير العيش والعدالة الاجتماعية طلب من المصريين أن يتحملوا بعض المصاعب أثناء إجراء بعض الإصلاحات الاقتصادية؛ ويبدو أنهم قد قبلوا على مضض بصفقة الأمن الاقتصادي في مقابل الحرية.
وبينما تتجه مؤشرات الاقتصاد الكلي في مصر مرة أخرى نحو التحسن، وتستجلب ثناء المستثمرين وصندوق النقد الدولي على إدارة السيسي الاقتصادية، إلا أن الأمر ظل كما كان من قبل، حيث تُخفي هذه القشرة الرقيقة من التحسن تحتها العديد من المشكلات.
وفي حين تسارع نمو الناتج المحلي الإجمالي، فقد ظل القطاع الخاص في البلاد، باستثناء قطاع النفط والغاز، في تقلص مستمر. وهبط مؤشر مديري المشتريات، باستثناء قطاع النفط والغاز، في شهر يناير إلى 46، وهو أدنى مستوى له منذ نحو ثلاث سنوات. وكما كان الحال من قبل، فإنه يبدو أن ثمار نمو الناتج المحلي الإجمالي ظلت محصورة في قلة قليلة من المقربين. وسقط ما يقرب من 5 ملايين مصري في براثن الفقر بين عامي 2015 و2018؛ وارتفع معدل الفقر في البلاد من 27.8% إلى 32.5%.
وبينما يكافح المصريون بشكل محموم من أجل تغطية احتياجاتهم من السلع الأساسية، يدافع السيسي علناً عن قيامه بتشييد قصور رئاسية فخمة ويعلن تصميمه على مواصلة القيام بذلك. ومع تراكم الديون بوتيرة مقلقة، تواصل الحكومة الدخول في مشروعات ضخمة غير ذات جدوى مثل العاصمة الإدارية الجديدة التي تبلغ تكلفتها 58 مليار دولار ومن المقرر أن تحتوي على أطول برج في أفريقيا.
تُرى هل سيحاسب المصريون حكامهم مرة أخرى كما فعلوا قبل تسع سنوات؟
فعلى الرغم من ندرة استطلاعات الرأي الموثوقة، إلا أن هناك الكثير من الدلائل التي تدل على انتشار حالة من عدم الرضا الشديد في مصر، بما في ذلك اندلاع احتجاجات غاضبة في سبتمبر الماضي، والتي أثارتها سلسلة من مقاطع الفيديو (نشرها الممثل والمقاول المصري محمد علي) على شبكة الإنترنت حول الفساد في العقود الحكومية.
وكان العديد من المحللين يرى أن العالم العربي قد فقد الثقة في قوة المظاهرات التي تندلع في الشوارع بعد فشل ثورات الربيع العربي. لكن عام 2019 أظهر في الجزائر والسودان أن سلطة الشعب لا تزال قادرة على الإطاحة بالأنظمة الوحشية. ولا يزال المتظاهرون في العراق ولبنان يواصلون المطالبة بالحرية والعيش والعدالة الاجتماعية.
وعلى الرغم من سجن عشرات الآلاف من السياسيين والناشطين المعارضين في مصر منذ عام 2013، فإن التهديد (لنظام السيسي) لا يزال قائماً والخوف من الانتفاضة عليه لا يزال موجوداً – لا سيما وأن المصريين الذين اضطروا إلى التضحية بالحرية من أجل الأمن الاقتصادي، لازال معظمهم لم يحصلوا على أي منهما حتى الآن.
رابط المصدر: