- يُتوقَّع أن تحاول الحكومة البنغلاديشية المؤقتة، برئاسة محمد يونس، إجراء إصلاح دستوري كبير، إما من طريق صياغة دستور جديد للبلاد أو تعديل الدستور الحالي. والقرار الحاسم الآخر الذي يواجه النظام المؤقت في دكا هو تحديد موعد إجراء الانتخابات المقبلة.
- تستبعِد المعطيات والمؤشرات الأولية سيطرة الجيش البنغلاديشي على السلطة السياسية في الظروف الراهنة، على الرغم من أن الهواجس بشأن ذلك ستظل قائمة. وفي المقابل، تبدو الساحة السياسية مهيأة بقوة لظهور أحزاب وقوى جديدة، لاسيما في ظل تهافت الأحزاب التقليدية وضعفها.
- ثمة مخاوف من أن تستغل الأحزاب الدينية في بنغلاديش، لاسيما “الجماعة الإسلامية”، فراغ السلطة والانتقال السياسي القائم لتأجيج الانقسام في البلاد، وانتهاك حقوق الأقليات الدينية والعرقية.
- من المرجح أن يؤثر طول عدم الاستقرار السياسي في بنغلاديش على ديناميكيات الأمن الإقليمي والاستقرار الاقتصادي في جنوب آسيا، لاسيما في ظل خشية الهند من احتمالية تشكيل حكومة مُعادية لها في دكا، تتحالف بشكل أوثق مع غريمتيها، الصين وباكستان.
بعد أسابيع من الاحتجاجات العنيفة، التي بدأت في 11 يوليو الماضي وشملت العديد من مدن بنغلاديش، وأسفرت عن مقتل أكثر من 600 شخص وإصابة أكثر من 20 ألف شخص، استقالت رئيسة الوزراء الشيخة حسينة واجد، زعيمة حزب “رابطة عوامي”، وفَرَّت إلى الهند في 5 أغسطس الجاري، مُنهيةً بذلك 15 عاماً من الحكم المستمر للبلاد (تولت منصب رئاسة الوزراء لأول مرة بين عامي 1996 و2001، واستمرت ولايتها الثانية في نفس المنصب من عام 2009 إلى 2024).
وعلى أثر رحيل حسينة، حُلَّ البرلمان البنغلاديشي، وأُطلِقَ سراح العديد من المعارضين السياسيين، بمن فيهم زعيمة الحزب الوطني البنغلاديشي خالدة ضياء. وفي 8 أغسطس أدى الاقتصادي المخضرم والحائز جائزة نوبل للسلام، محمد يونس، اليمين لقيادة الحكومة المؤقتة، التي تضم أيضاً نشطاء حقوقيين وأساتذة ومحامين ومسؤولين حكوميين سابقين وأعضاء بارزين في المجتمع المدني في بنغلاديش. كما أنها ضَمَّت اثنين من قادة الحركة الطلابية، وهما ناهد إسلام وآصف محمود.
سياق الأزمة السياسية في بنغلاديش ومُحرِّكاتها
بدأت الأزمة السياسية في بنغلاديش باحتجاجات قادها الطلاب في 12 يوليو 2024، والتي اندلعت في المقام الأول اعتراضاً على نظام الحصص المقيدة للوظائف الحكومية، فبموجب القانون قامت الحكومة بتخصيص مقاعد في نظام التوظيف لديها بنسبة 10% للأشخاص من المناطق المحرومة، و10% للنساء، و5% للأقليات، و1% للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى 30% للمناضلين من أجل الحرية (قدامى المحاربين المشاركين في حرب الاستقلال عام 1971 ضد باكستان) وأحفادهم. وعلى الرغم من أن حصة الوظائف التي استأثرت بها الفئة الأخيرة لم تكن مثيرة للجدل في البداية، إلا أن هذه الحصة تحديداً شكلت ركيزة منظومة المحسوبية السياسية لصالح حزب “رابطة عوامي” الحاكم.
وكانت الشيخة حسينة (ابنة الشيخ مجيب الرحمن) قد ألغت نظام الحصص بعد احتجاجات طلابية عنيفة عام 2018، وهو ما ساهم في انهاء تلك الاحتجاجات. وبعد أن أعادت المحكمة العليا في بنغلاديش العمل بنظام الحصص في يونيو 2024، اندلعت الاحتجاجات مُجدداً وسرعان ما تحولت إلى أعمال عنف. وكان رد رئيسة الوزراء حسينة العنيف على المتظاهرين، ووصفهم بـ “الرازاكار Razakar” [وهو مُسمَّى ازدرائي أُطلِقَ على قوة من المتعاونين الذين استخدمتهم باكستان لمحاولة سحق الحركة من أجل استقلال بنغلاديش في عام 1971] والإرهابيين، سبباً في تأجيج الاحتجاجات المناهضة للشيخة وحكومتها. وفي نهاية المطاف، أَجبَرت شدة الاحتجاجات ونطاقها الجيش على التدخل، مما أدى إلى استقالة حسينة وهروبها إلى الهند في 5 أغسطس الجاري.
ولا يمكن قراءة الاحتجاجات الأخيرة بمعزل عن التطورات السياسية الأكبر في بنغلاديش تحت حكم حسينة. ففي أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، كانت حسينة تعد بمثابة أمل للديمقراطية في بنغلاديش، لكن بعد توليها السلطة عام 2009 وُصِفَت بأنها زعيمة “مُستبِدَّة”، حيث أجرت حكومة حسينة ثلاث انتخابات في خلال فترة ولايتها، اتَّسمَت كلها بالتزوير والتلاعب والقمع، وهُمِّشَت المعارضة بشكل منهجي، حيث واجه المعارضون عمليات قتل خارج نطاق القضاء وعمليات إخفاء قسري ومضايقات قضائية وقانونية.
من ناحية ثانية، أدى البُعد الاقتصادي لحكم حسينة دوراً حاسماً في سقوطها. ففي حين شهدت بنغلاديش نمواً مذهلاً في الناتج المحلي الإجمالي خلال فترة ولايتها، إذ تضاعف دخل الفرد ثلاث مرات في العقد الماضي، واُنتُشِلَ أكثر من 25 مليون شخص من براثن الفقر في السنوات العشرين الماضية، لكن فوائد هذا النمو كانت موزعة على نحوٍ غير متساو، وصَبَّت في صالح الأغنياء، الذين يميلون إلى دعم رابطة عوامي. ويسيطر أغنى 10% من السكان على 41% من دخل الأمة في بنغلاديش، في حين يحصل أفقر 10% على 1.3% فقط. وقد أدى ارتفاع التضخم، الذي بلغ ما يقرب من 10%، وزيادة نفقات المعيشة إلى تفاقم هذه الصعوبات. وارتفعت تكاليف المرافق مع رفع الحكومة لأسعار الكهرباء والغاز ثلاث مرات في عام واحد.
التحديات الداخلية في مرحلة الانتقال السياسي
تواجه الحكومة المؤقتة التي تشكلت في بنغلاديش بقيادة محمد يونس، الحائز جائزة نوبل للسلام، تحديات معقدة، سياسية واقتصادية وأمنية، يتمثَّل أبرزها في الآتي:
1. مواجهة عدم الاستقرار السياسي: في خضم عملية الانتقال السياسي الراهنة، تجد بنغلاديش نفسها تكافح في مواجهة حالة عدم استقرار سياسي واقتصادي كبيرة. وقد طالب الحزب الوطني البنغلاديشي، وهو حزب المعارضة الرئيس، بإجراء انتخابات في غضون ثلاثة أشهر، ما قد يؤدي إلى التوتر واحتدام الخلاف. ومن المرجح أن تحاول الحكومة المؤقتة إجراء إصلاح دستوري كبير، إما من طريق صياغة دستور جديد أو تعديل الدستور الحالي. ولكن وجود حكومة مؤقتة، ناهيك بممارسة السلطة لتعديل الدستور، يعدان في حد ذاتهما أمرين غير دستوريين. فبعد التعديل الدستوري الخامس عشر الذي صدر في عام 2011، لم يعد الدستور الحالي ينص على حكومات مؤقتة، وهذا يخلق مفارقة قانونية، على الرغم من أن دور الحكومة المؤقتة في معالجة الأزمة الحالية يُنظَر إليه على نطاق واسع باعتباره ضرورياً.
إن القرار الحاسم الآخر الذي يواجه النظام المؤقت في بنغلاديش هو تحديد موعد إجراء الانتخابات. وينص الدستور على مهلة ثلاثة أشهر، ولكن إذا سارعت الحكومة المؤقتة إلى إجراء انتخابات، فمن غير المرجح أن تبدأ في حل أي من القضايا الأساسية التي أدت إلى الاحتجاجات. وقد أوصى الخبراء القانونيون بتأجيل الانتخابات للسماح بمزيد من الوقت للإصلاحات السياسية الأساسية. وتتمثل إحدى المهام الأكثر حيوية في استعادة استقلال المؤسسات الحيوية، بما في ذلك لجنة الانتخابات.
2. معالجة الأزمة الاقتصادية: أثرت الأحداث الأخيرة في بنغلاديش سلباً في اقتصاد البلاد، وقُدِّرَت الخسائر الأولية بأكثر من 10 مليارات دولار في شهر واحد. ومن المتوقع أن تكون الخسارة الأكبر في قطاع الملابس في بنغلاديش، حيث ظلت مصانع الملابس مغلقة لفترات طويلة بسبب الاحتجاجات. وسيتعين بالتالي على السلطات الجديدة العمل على طمأنة القطاع المكون من 3500 مشغل، تمثل حوالي 84% من أصل 55 مليار دولار من الصادرات السنوية في بلد يعد ثاني أكبر مصدر للملابس في العالم من حيث القيمة الإجمالية بعد الصين.
ومن ناحية ثانية، فقد استنزفت جائحة كورونا الاحتياطيات الأجنبية مما أدى إلى انخفاض كبير في قيمة العملة البنغلاديشية التاكا (BDT). وفي السنة المالية 2024، انخفضت قيمة التاكا بأكثر من 25% مقابل الدولار الأمريكي. ويبلغ معدل التضخم الحالي في بنغلاديش 9.7%. ويوجد الآن احتياطي صافٍ يبلغ 16.57 مليار دولار أمريكي، لكن هذا لا يكفي لتغطية ثلاثة أشهر من الواردات. ووفقاً لمنظمة العمل الدولية، بلغ معدل البطالة بين الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عاماً 15.7% في عام 2023. وما يقرب من نصف سكان بنغلاديش البالغ عددهم 170 مليون نسمة هم دون سن الثلاثين.
3. هواجس عودة الجيش للسلطة: في أعقاب إطاحة حسينة، شرع قائد الجيش في بنغلاديش، الجنرال وقر الزمان، في إجراء محادثات مع الأحزاب السياسية والطلاب لتشكيل حكومة انتقالية لاستعادة النظام والإشراف على انتقال السلطة. وفي حين لاقت هذه الإجراءات ترحيباً، لاحظ بعض المحللين أن بنغلاديش عادت إلى الوراء دورة كاملة؛ فإذا كانت الحشود قد احتفلت بالإطاحة بالشيخة حسينة، فإن العسكريين هُم الذين حسموا الأمر. وبعدها خضع الجيش لإعادة ترتيب قيادته العليا، مما دفع الطلاب المحتجين إلى المطالبة بإدارة يقودها مدنيون.
وفي الواقع تظل مشاركة الجيش في هذه المرحلة الانتقالية مصدر قلق بالغ الأهمية، حيث تظل إمكانية تشكيل حكومة مدعومة من الجيش في المستقبل احتمالاً ملموساً، وإن بقي قيد الاختبار. وهناك مخاوف مُسوَّغة، بالنظر للتجارب التاريخية، من أن يؤدي تورط الجيش في الحكم إلى فترة طويلة من عدم الاستقرار أو حتى العودة إلى الحكم العسكري، وهو السيناريو الذي شهدته بنغلاديش في الماضي.
4- تفاقُم المشكلة الأمنية: في خلال الاحتجاجات التي استمرت عدة أسابيع قُتل أكثر من 600 شخص من المتظاهرين وقوات الأمن. ونددت الشرطة عقب فرار الشيخة حسينة بأعمال انتقامية استهدفت عناصرها وحلفاءها. وأعربت منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان والدبلوماسيون العاملون في بنغلاديش عن قلقهم حيال الهجمات على الأقليات، لاسيما الأقلية الهندوسية (التي تشكل 8% من السكان)، إذ يَعُدَّها البعض مناصرة بشدة لرابطة عوامي، حزب رئيسة الوزراء السابقة. ومع تسييس كل مؤسسة حكومية تقريباً من قِبَل رابطة عوامي، فإن انعدام الثقة في الأجهزة الأمنية والجيش والمحاكم والخدمة المدنية يمتد عميقاً عبر المجتمع، الأمر الذي يعزز من البيئة الملائمة للانتقام بعد سنوات من القمع الشديد.
ومن ناحية أخرى، هناك مخاوف من أن الأحزاب الدينية في بنغلاديش، لاسيما “الجماعة الإسلامية”، قد تستغل فراغ السلطة لتأجيج الانقسام وانتهاك حقوق الأقليات الدينية والعرقية. لقد تزايدت المشاعر المعادية للعلمانية بسبب خيبة الأمل في إدارة رابطة عوامي للحكم. واكتسبت الجماعات المتطرفة نفوذاً من طريق التحالف مع الأصوليين الدينيين في معارضة العلمانية المزعومة لبنغلاديش في ظل حكومة حسينة.
التداعيات والتحديات الإقليمية
تُكافِح الدول المجاورة لبنغلاديش للتعامل مع الاضطرابات غير المتوقعة في بلد عَرَفَ، في خلال معظم سنوات حكم الشيخة حسينة، نوعاً من الاستقرار السياسي قبل موجة الاحتجاجات العنيفة الأخيرة. ومن المؤكد أن التغيير الحاصل في بنغلاديش سيكون له تداعيات كبيرة على جيرانها، وخاصة الهند وميانمار والصين وباكستان.
1. الهند وميانمار: على رغم الحدود المشتركة والروابط العرقية والثقافية بين الهند وبنغلاديش، فإن استقالة حليفة نيودلهي، الشيخة حسينة، جعلت الهند تواجه “انتكاسة استراتيجية” قد تكون لها عواقب وخيمة على المديين القصير والطويل. إن احتمالية تشكيل حكومة مُعادية للهند بقيادة الحزب الوطني البنغلاديشي، وتتحالف بشكل أوثق مع باكستان والصين، تزيد من مخاوف نيودلهي. وقد يؤدي هذا التحول الجيوسياسي إلى زعزعة استقرار المنطقة بشكل كبير، خاصة وأن بنغلاديش تتنقل في علاقات متوترة مع الدول المجاورة المؤيدة للصين. ونظراً للقمع الشديد الذي مارسته حكومة رابطة عوامي، فمن غير المرجح أن يتمكن هذا الحزب من العودة عندما تُعقَد الانتخابات في نهاية المطاف. وبين إمكانية عودة الحزب الوطني البنغلاديشي وبعض حلفائه الإسلاميين إلى السلطة، وتدخل الصين لملء الفراغ، فإن قوة العلاقات بين الهند وبنغلاديش باتت مُعلَّقة في الميزان، وفق تعبير أحد المراقبين. وعلى وقع التطورات الأخيرة، حذَّر المسؤولون الهنود من حزب الجماعة الإسلامية وإمكانية عودته إلى الحكم، في وقت نشرت الصحف الهندية زيادة في الهجمات ضد الهندوس في بنغلاديش. وعليه، فإن نيودلهي ستظل تُراقب عن كثب تطورات الانتقال السياسي في بنغلاديش، والتأثيرات اللاحقة على أمن الحدود، وعلاقة الحكومة الجديدة ببيجين.
وضمن هذا السياق، قد يُشكِّل استمرار وجود حسينة في الهند منذ فرارها من دكا، عبئاً على العلاقات المستقبلية للهند مع بنغلاديش. وفي مقابلة مع قناة تلفزيونية هندية، قال رئيس الحكومة البنغلاديشية الانتقالية محمد يونس إن وجود حسينة في الهند قد لا يكون فكرة جيدة، مُشيراً إلى أن هذا قد يكون خطاً أحمر بالنسبة لدكا. كما أعرب الحزب الوطني البنغلاديشي المعارض عن عدم موافقته على إيواء حسينة في الهند. ومن المرجح أن يؤدي ذلك إلى توسيع فجوة الثقة بين نيودلهي ودكا في الأمد القريب على الأقل.
بالنسبة لميانمار، فإن الاضطرابات السياسية في بنغلاديش لها أيضاً آثار على علاقتهما، لاسيما فيما يتعلق بأزمة لاجئي الروهينغا. وعلى الرغم من تعهُّد رئيس الحكومة الانتقالية في بنغلاديش، محمد يونس، بأن بلاده “ستواصل دعم أكثر من مليون شخص من الروهينغا الذين لجأوا إلى بنغلاديش”، حتى “إعادتهم في نهاية المطاف إلى وطنهم ميانمار بأمان وكرامة وبكامل الحقوق”، إلا أن عدم الاستقرار في بنغلاديش قد يؤثر في قدرتها على إدارة وضع اللاجئين، وانخراطها الدبلوماسي مع ميانمار بشأن إعادة لاجئيها إلى الوطن، وغيرها من القضايا ذات الصلة.
2. الصين وباكستان: مع أن بنغلاديش لا تجاور الصين مباشرة، فإن البلدين تربطهما علاقة وثيقة، وكان التركيز على الاستقرار بمثابة الشغل الشاغل للصين. فبيجين لا تريد اضطرابات سياسية في جوارها، إذ تعني عدم الاستقرار، وهو أمر لا ترغب الصين في رؤيته، فضلاً عن أنَّه يجلب المزيد من عدم اليقين والتقلبات إلى المشاريع الصينية في البلاد.
أما باكستان، فقد ظلت العلاقة بين إسلام آباد ودكا في ظل حكم حسينة رسمية إلى حد كبير، إذ اعتبرت إسلام أباد أن العلاقات الوثيقة بين دكا ونيودلهي تُقوِّض مصالحها. ومع تولي الحكومة الجديدة السلطة في دكا، من المتوقع أن تحاول باكستان الاستفادة من تغيير النظام في بنغلاديش وإحياء علاقاتها الثنائية مع دكا، وربما إعادة التموضع في المنطقة للرد على نفوذ الهند. وقد تهدأ الرواية المناهضة لباكستان التي غَذَّتها حكومة حسينة في بنغلاديش الآن، مما يُوفِّر فرصة لباكستان لتحسين علاقتها بالحكومة البنغلاديشية الجديدة من طريق الترويج لإقامة علاقات ثنائية مثمرة وتحقيق فرص نمو متبادلة.
على مُفترَق طرق: فرص واحتمالات ما بعد حسينة
من المؤكد أن المرحلة المقبلة في بنغلاديش ستشهد عدة تطورات قد تكون مواتية في معظمها، وتشكل فرصة لتفادي الأوضاع الداخلية الصعبة في هذا البلد:
1. دور الجيش وموقعه في السلطة: مع أن تاريخ جيش بنغلاديش في ممارسة السلطة التنفيذية، في شكل مباشر وغير مباشر، بين عامي 1975 و1991، ليس جديداً، فإن بعض المعطيات تُشير إلى أن الجيش قد لا يكون لديه أطماع في السلطة هذه المرة، إذ أخذ في الاعتبار بعض الدروس الصعبة التي تعلَّمها من حوالي 29 انقلاباً، نجح بعضها وفشل البعض الآخر. وقد اُستُحضِر دور الجيش أخيراً إثر تفجُّر الاحتجاجات في 12 يوليو 2024، حيث دعا العديد من الساسة وأعضاء المجتمع المدني الشيخة حسينة إلى التنحي وتسليم السلطة للجيش، لكن قيادة الجيش لم تُبد استعداداً لتولي السلطة. وبعد ساعات من استقالة حسينة، تشاور الجيش مع الحزب الوطني البنغلاديشي، والجماعة الإسلامية، وحزب جاتيا. وفي نفس اليوم، التقى الجنرال وقر الزمان، إلى جانب رؤساء الفروع العسكرية الأخرى، والرئيس محمد شهاب الدين، بقادة الحركة الطلابية الاحتجاجية المناهضة لنظام الحصص وأعضاء المجتمع المدني. ويشير كلا الحدثين إلى اعتماد الجيش نهج بناء حوار مفتوح مع أصحاب المصلحة المعنيين للتخطيط للمستقبل السياسي لبنغلاديش، والاستعداد لإجراء عملية سياسية شاملة.
وقبل هذا وذاك، هناك عدة اعتبارات موضوعية تستبعد انخراط الجيش في السلطة، على الأقل في الظروف الحالية:
فمن ناحية أولى، لم يَعُد الجيش في بنغلاديش من بين الخيارات المفضلة للشباب المتعلمين الذين يهتمون أكثر بالوظائف المدنية والقطاع الخاص ذات الأجر الجيد. وفي حال لم تكن المهنة في الجيش أفضل أو الوظيفة الوحيدة المحترمة في البلاد، فإن احتمالات وقوع هذا البلد تحت الحكم العسكري تقل.
من ناحية ثانية، بذلت الشيخة حسينة والجيش جهوداً كبيرة لإبقاء كل منهما بعيداً عن الآخر قدر الإمكان. ففي حين اختار الجيش أن يكون بعيداً عن التأثير على سياساتها، اعتمدت حسينة على الشرطة شبه العسكرية أكثر من اعتمادها على الجيش للسيطرة على خصومها السياسيين والاضطرابات المدنية الأخرى.
ومن ناحية ثالثة، تُعَد عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة عاملاً مهماً وراء إحجام جيش بنغلاديش عن التدخل في السياسة في السنوات الأخيرة؛ فإذا كان كبار القادة العسكريين يستفيدون من انخراط الجيش في السياسة، لكن الضباط من المستوى المتوسط والجنود يرون أنه من الأفضل جني المال من طريق الحصول على وظائف مربحة في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الخارج، ويُقدَّر أنهم يكسبون منها حوالي 300 مليون دولار أمريكي سنوياً. ومن شأن بقاء الجيش في السلطة أن يُقلِّل من مثل هذه الاحتمالات. وبالتالي، لا يوجد حافز لدى الضباط من المستوى الأدنى لدعم استمرار الجيش في السلطة الذي من شأنه أن يُعرِّض الجيش البنغلاديشي للعزلة الدولية بصفة عامة، ومن الأمم المتحدة بصفة خاصة.
وبالنظر إلى كل هذه الاعتبارات، يمكن القول إن بنغلاديش لا تتجه نحو حكم عسكري طويل الأمد ما لم يصبح الوضع متطرفاً بالطبع في البلاد.
2. صعود قوى حزبية جديدة: في حين دعا كلٌّ من الحزب الوطني البنغلاديشي والجماعة الإسلامية الحكومة المؤقتة إلى عقد الانتخابات العامة المقبلة في غضون ثلاثة أشهر، يدعو رئيس الحكومة المؤقتة محمد يونس إلى بقاء حكومته في السلطة لمدة ثلاث سنوات على الأقل. ولكن إذا أعطت الحكومة المؤقتة بقيادة يونس الأولوية لاستعادة القانون والنظام في بنغلاديش وركزت على إجراء التعديلات الدستورية اللازمة بدلاً من عقد انتخابات متسرعة لاستعادة الديمقراطية، فإن هذا من شأنه أن يسمح للطلاب المحتجين وغيرهم من القوى الناشئة بتوحيد صفوفهم وتشكيل حزب سياسي جديد، وهو تطور -إن حصل- قد يوفر بديلاً قابلاً للتطبيق لكلٍّ من الحزب الوطني البنغلاديشي والجماعة الإسلامية، إن لم يكن على الفور، فبالتأكيد في غضون العامين المقبلين. والطريقة الوحيدة لمنع الحزب الوطني البنغلاديشي والجماعة الإسلامية من الوصول إلى السلطة هي ضمان بقاء يونس في منصبه رئيساً للحكومة المؤقتة طالما كان ذلك ضرورياً.
3. التغيُّرات في سياسة بنغلاديش الخارجية: من المحتمل ألا تشهد توجهات بنغلاديش الخارجية تغيرات ملموسة وجذرية، سواء في علاقاتها الإقليمية أو الدولية. فمن ناحية أولى، تفرض جغرافية بنغلاديش المحشورة بين التنين الصيني والفيل الهندي على البلاد أن تكون حريصة على انتهاج “استراتيجية توازن” بين القوتين الآسيويتين الكبيرتين؛ ففي خلال الحرب الباردة كانت بنغلاديش عضواً نشطاً في حركة عدم الانحياز، ومساهماً رئيساً في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. ومنذ عام 1988، خدم الجنود البنغلاديشيون بصفتهم قوات حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في 43 منطقة مضطربة حول العالم.
من ناحية ثانية، من المرجح أن ترغب الأحزاب القادمة إلى السلطة في بنغلاديش في تجنُّب إعطاء الانطباع بأنها مدعومة من دولة أو أخرى، حيث كانت الاحتجاجات الأخيرة في بنغلاديش مدفوعة في المقام الأول بعوامل داخلية وليس تأثيرات خارجية. ومن ناحية ثالثة، تُعطي المقابلات الأخيرة مع رئيس الحكومة المؤقتة محمد يونس تلميحات حول موقفه من السياسة الخارجية. وتدعو رؤيته لبنغلاديش إلى تجاوز التوازن بين القوى الإقليمية (الهند والصين)، وترك بصماتها على الساحة العالمية بوصفها دولة رائدة في مجال تغير المناخ، ومكافحة التفاوت في الدخل والفقر. ويشير تفكير الدكتور يونس إلى الاستعداد للعمل مع مجموعة واسعة من الشركاء الدوليين.
4. انفتاح الهند على حكومة يونس: من الواضح أن الهند تُعيد النظر الآن في نهجها للحفاظ على نفوذها في بنغلاديش، بهدف تحقيق التوازن بين تأكيد وجودها وتجنُّب تصور التجاوز الذي تسبَّب سابقاً بحالة استياء بين البنغلاديشيين. وقد يكون يونس خياراً مُفضَّلاً للهند، على الأقل على المدى القصير؛ فهو شخصية تحظى بالاحترام والتقدير على مستوى العالم، وخاصة في الغرب، كما يتمتع بشعبية كبيرة في بنغلاديش في الوقت الحالي. وفي هذا السياق، بعث رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي رسالة تهنئة إلى يونس بمناسبة توليه منصبه الجديد، وحضر المفوض السامي الهندي في دكا، براناي فيرما، مراسم أداء يونس اليمين الدستورية بعد إعلان تشكيل الحكومة المؤقتة في 8 أغسطس الجاري. ومن المحتمل أن يلتقي مودي مع يونس عندما يحضر الاثنان قمة دول خليج البنغال الإقليمية (BIMSTEC) في تايلاند، في سبتمبر 2024. وسيكون هذا الاجتماع منصة جيدة للهند لتقديم يد المساعدة الاقتصادية لبنغلاديش.
من ناحية أخرى، يبدو أن قائد الجيش البنغلاديشي الجنرال وقر الزمان يتمتع بعلاقات جيدة مع الهند على عكس أسلافه. وقد مكَّنه هذا من ضمان إجلاء رئيسة الوزراء السابقة الشيخة حسينة إلى الهند بسرعة وسلاسة، وترك بنغلاديش في سلام. وفي العام الماضي، التقى رئيس الجيش الهندي آنذاك، مانوج باندي، بنظيره البنغلاديشي، في خلال زيارة رسمية. وتقوم السفن الهندية بزيارات منتظمة للموانئ في بنغلاديش.
الخلاصة والاستنتاجات
تُشير معطيات أولية واعتبارات موضوعية إلى استبعاد سيطرة الجيش في بنغلاديش على السلطة السياسية على الأقل في الظروف الراهنة. وفي المقابل، تبدو الساحة السياسية في بنغلاديش مهيأة بقوة لظهور أحزاب وقوى سياسية جديدة، لاسيما في ظل تهافت وضعف الأحزاب التقليدية. ومن المتوقع أن يُشكِّل انعدام الثقة في الأجهزة الأمنية والقضاء والخدمة المدنية عقبة كبيرة أمام تحقيق الاستقرار السياسي والأمني في بنغلاديش على المدى القصير. وتتمثل إحدى المهام الأكثر حيوية لحكومة محمد يونس المؤقتة في استعادة استقلال المؤسسات الحيوية على رأسها القضاء والشرطة والخدمة المدنية.
وقد يكون لتعيين محمد يونس رئيساً للحكومة المؤقتة أهمية اقتصادية وجيوسياسية لمستقبل بنغلاديش، إذ إن تصريحات يونس تشير بقوة لانتهاجها “استراتيجية توازن” في سياستها الخارجية. مع هذا، من المرجح أن يؤثر طول عدم الاستقرار السياسي في بنغلاديش على ديناميكيات الأمن الإقليمي والاستقرار الاقتصادي في جنوب آسيا. ففي حين شكَّل سقوط نظام الشيخة حسينة فرصة مواتية لباكستان، وربما الصين أيضاً، لتعزيز موقعيهما ودوريهما أو استعادتهما في بنغلاديش، فإن انتهاء حكم حسينة مَثَّل في الوقت نفسه معضلة جيوسياسية للهند بالدرجة الأولى، والتي تواجه احتمالية توسُّع فجوة الثقة بينها وبين دكا في الأمد القريب، بسبب احتضانها لرئيسة الوزراء السابقة. مع أن هناك أيضاً، في المقابل، مؤشرات على إمكانية انتهاج الهند مقاربة سياسية أكثر انفتاحاً على حكومة يونس في حال ثبت لها أنها قوة تعزز الاعتدال في بنغلاديش، وقد تَمُدُّ نيودلهي يدها لاحقاً لدعم حكومة يونس اقتصادياً، باعتبارها تحوز ثقة المجتمع الدولي، وتحظى بدعم الجيش.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/featured/bangladesh-ma-baed-hasina