بوادر أزمة بين موسكو وصربيا وقصة “كرسي شارون ستون”

سامي عمارة

 

ما بين مفردات السياسة، وإيحاءات “الفن السابع” ومشاهد “الغريزة الأساسية”، دارت مشاهد دراما الموقف بين موسكو وصربيا خلال الأيام القليلة الماضية، على وقع خلاف بسبب صورة لنجمة السينما العالمية شارون ستون في فيلمها الشهير “غريزة أساسية”. وكان إصرار البيت الأبيض على تخصيص كرسي “متواضع” للضيف الصربي ألكسندر فوتشيتش أمام مكتب سيد البيت الأبيض دونالد ترمب، هو المشهد الأساسي، أو “ماستر سين” الذي دارت حوله أحداث تلك “الدراما” التي كادت تودي بما تراكم من علاقات أخوة وصداقة تاريخية بين البلدين السلافيي الأصل.

القصة تبدأ بمباحثات الرئيس الأميركي دونالد ترمب وضيفه الصربي ألكسندر فوتشيتش في المكتب البيضاوي بالبيت الأبيض. وكانت مراسم البيت الأبيض حرصت على وضع الكرسي الخاص بالرئيس الصربي الذي اُختير صغيراً، اعتبره البعض أنه لا يليق بمقام “رئيس دولة”، على مسافة بعيدة عن مكتب ترمب الضخم، بما بدا معه فوتشيتش في وضع أشبه بالتلميذ الذي جرى استدعاؤه للمثول أمام مدير المدرسة على حد قول مراقبين ومسؤولين في موسكو. وذلك ما دفع ماريا زاخاروفا الناطقة الرسمية باسم الخارجية الروسية، المعروفة بحدة تعليقاتها إلى نشر صورة فوتشيتش أمام ترمب على النحو المشار إليه عاليه، فيما ذيلتها بصورة شارون ستون في “تنورتها” القصيرة وهي تضع ساقاً فوق ساق، وهي الصورة الشهيرة لنجمة السينما الأميركية في فيلم “غريزة أساسية”، ومعها التعليق التالي، “في حال جرت دعوتكم إلى البيت الأبيض، وخصصوا لكم مقعداً تكونون معه، وكأنكم في وضع الاستجواب والمساءلة، فعليكم الجلوس كما في هذه الصورة… أياً كان وضعكم. صدقوني!

ذلك هو ما استفز الجانب الصربي، وبخاصة الشخصيات الرسمية منه، ودفعه إلى التعليق بشكل أكثر حدة. ففيما وصف الرئيس الصربي ما نشرته زاخاروفا على مواقع التواصل الاجتماعي بالسطحية والبدائية، “أعرب عن أسفه إزاء أن الناس في روسيا لا يقدرون مواقف صربيا تجاه روسيا الاتحادية. وأضاف ما نصه، ” أن اللاوعي يحدد جوهر الإنسان، وقد تحدثت ماريا عن نفسها بالدرجة الأولى، كما أن السطحية والبدائية تتحدثان قبل أي شيء آخر عن ذلك الذي نشر هذه الصورة”. واكتفى فوتشيتش بهذه الكلمات مؤكداً أنه “لن يتحدث عن ذلك، وأنه يترك الأمر ليبحثه آخرون”.

أما عن “الكرسي” وما جرى في البيت الأبيض من مشاهد كانت مثار تعليقات كثيرين في روسيا وخارجها، قال الرئيس الصربي، “إن دعوته إلى المكتب البيضاوي في البيت الأبيض كانت “شرفاً له وامتيازاً، كما أن المعاهدة التي وقعها، تشرف الشعب الصربي”. واستطرد ليقول “إنهم أجلسوني على هذا الكرسي، وجرى بيننا حديث يتسم بالصراحة، دافعت خلاله عن علاقاتنا مع الصين. فماذا كان علي أن أقوله لهم … “اسمع … لماذا لا توفرون مقعداً عالياً مثل ذلك الذي يجلس عليه رئيس أميركا؟ هل كان علي الانصراف لأن الكرسي لا يناسبني”؟. واختتم الرئيس فوتشيتش هذه الفقرة من حديثه بقوله، “إنه لا يحلم بأية مقاعد، ولا بأية “غريزة أساسية”، في إشارة إلى الفيلم السينمائي الذي يحمل هذا الاسم. وتحول بحديثه إلى الناطقة باسم الخارجية الروسية ليقول، “عليكم تقرير ما يتراءى لخيالكم من مشاكل، كما تريدون، أما أنا فقد جلست على هذا المقعد لأقرر مشاكل صربيا، ولأناضل من أجل مصالحها. ولو كان الأمر يحتاج، لكنت جلست أو وقفت أو أي شيء آخر كما يحلو لي. لست أدري بم يمكن الإجابة على أمثال هؤلاء الناس. إن المقاعد تتحدث عن الناس الذين يتحدثون عن الكراسي”.

وتحول فوتشيتش في حديثه الذي أدلى به إلى قناة RTV Pink في بروكسل يوم الأحد الماضي ليقول إنه “يُذَكر زاخاروفا بأن المباحثات كانت ناجحة، لكنه يعرب عن أسفه لكونه أيضاً دافع هناك عن علاقات بلاده مع روسيا، ورفض التوقيع على شراء الغاز بأسعار أغلى من الأسعار المحددة في الوثائق الأولى”. وأضاف قوله “إن هناك أناساً لا يقدرون أن صربيا هي الدولة الوحيدة التي لم تنضم إلى العقوبات ضد روسيا، ولا يقدرون أن صربيا دولة محايدة عسكرياً، وأنها لن تنضم إلى الناتو، وهي الدولة الوحيدة التي تشتري منهم الغاز والأسلحة”. واختتم حديثه بقوله إنه لن يشرح ما وصفه بـ”بدائية الآخرين”.

ولم يقتصر انتقاد زاخاروفا وما نشرته من تعليق يكاد يكون سبباً لاندلاع أزمة دبلوماسيين بين “البلدين الشقيقين”، على ما ذكره الرئيس الصربي من تعليقات، وتعدى الأمر مستوى الرئيس، الذي انبرى وزير دفاعه ألكسندر فولين وآخرون للدفاع عنه ودحضه وتفنيده وبمفردات أكثر قسوة، ما اضطرت زاخاروفا معه إلى سرعة الرد بما يشبه الاعتذار. قالت الناطقة باسم الخارجية الروسية على صفحتها في “الفيسبوك” “إنها تعتذر، وإن ما كتبته أُسيئ فهمه. ولم تكن تقصد سوى رفض العلاقة التي تتسم بالغطرسة من جانب “النخبويين”. ومضت تقول “إن خدع المراسم صارت واحدة من المحاولات التي طالما يلجأ إليها المسؤولون الأميركيون لخلق صورة غير طبيعية لكونهم نخبة لا مثيل لها، وذلك أمر غير مقبول”.

ولعل ما قالته زاخاروفا في “اعتذارها” حول حرص المسؤولين الأميركيين وضع أنفسهم في وضعية أفضل من الطرف الآخر، عاد ليتمثل في إحراج الرئيس الأميركي دونالد ترمب لضيفه الصربي فوتشيتش. فقد فاجأ ترمب الرئيس فوتشيتش والحاضرين بإعلانه عن أن صربيا “التزمت” نقل سفارتها إلى القدس مع حلول عام 2021، لتكون صربيا الدولة الثالثة في العالم بعد الولايات المتحدة وغواتيمالا، رغم كل ما يعنيه من حرج وحساسية أمام الأطراف العربية والبلدان الأخرى من “كتلة عدم الانحياز” التي حفظت ليوغوسلافيا السابقة وزعيمها التاريخي يوسف بروز تيتو فضل وقوفها إلى جوار القضايا العربية، وفلسطين على وجه الخصوص بكل ما تعنيه لها القدس من أهمية. وكان ذلك مثار ارتباك الرئيس الصربي الذي راح يتلمس الملاذ والسلوى في تقليب أوراق المعاهدة التي استقرت أمامه على المائدة، التي كان اختارها أيضاً “بروتوكول” البيت الأبيض “صغيرة” لضيفيه الصربي والكوسوفاري.

وفيما أخذ الرئيس فوتشيتش يتلفت يمنة ويسرة بحثاً عن “مُغِيث” أو ” منقذ” من الموقف الحرج الذي وضعه فيه ترمب، لعله يجد مخرجاً، عاد إلى الأوراق الموجودة على المائدة، وكأنما بحثاً عن البند الذي يتضمن اعترافه بذلك، ليعود ويدفن رأسه بين يديه في مشهد بالغ الدلالة عميق المضمون. ولم يكشف أحد من الجانب الصربي بعد، عما إذا كان الجانب الأميركي أضاف إلى هذه المعاهدة ذلك البند الخاص بنقل سفارة صربيا إلى القدس. وتؤكد المصادرالأميركية أن الرئيس ترمب سجل على صفحته في موقع “تويتر” “تهنئته للرئيس الصربي فوتشيتش، بإعلانه عن نقل سفارة صربيا إلى القدس، وقال، “إن ذلك خطوة تاريخية شجاعة”. ونشرت وكالة أنباء “انترفاكس” الروسية خبراً يقول إن بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية سارع من جانبه بإعلان “أنه يشكر “صديقه” رئيس صربيا فوتشيتش لاعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، إلى جانب شكره للرئيس الأميركي ترمب الذي وصفه بالصديق، لما أسهم به في مثل هذا الإنجاز.

وكان ترمب دعا إلى البيت الأبيض كلاً من فوتشيتش ورئيس حكومة كوسوفو عبد الله الحوتي في إطار مهمة وساطة، لم تسفر عن كل ما كان يبتغيه الرئيس الأميركي. ففيما كان ترمب يريد اعترافاً كاملاً من جانب الرئيس الصربي بكوسوفو، فاجأه ضيفه بإصراره على التمسك بموقفه من عدم الاعتراف، والاكتفاء بتوقيع اتفاقية التعاون الاقتصادي بين صربيا وكوسوفو، التي تقضي باستثمارات مشتركة قدرها 13 مليار دولار. ومن اللافت أن فوتشيتش سبق وأعلن أن الاتفاق حول تطبيع العلاقات مع كوسوفو لا يعني “الاعتراف” بها. وأضاف أن الاتفاقية الموقعة حول الاستثمارات المشتركة وقدرها 13 مليار دولار، اتفاقية ثنائية مع الولايات المتحدة، وليست ثلاثية تضم أيضاً كوسوفو باعتبارها “موضوعاً للقانون الدولي”، مؤكداً “أن صربيا وكوسوفو لم تصلا بعد إلى حلول لكل الخلافات القائمة بينهما، وأن الاتفاقية خطوة واسعة على الطريق إلى الأمام”.

ونقلت وكالة أنباء “تاس” عن وزارة الخارجية الروسية خبراً قالت فيه إن الرئيس الصربي سارع أمس الأحد بالاتصال بوزير الخارجية سيرجى لافروف لإبلاغه نتائج مباحثاته في البيت الأبيض، فيما ناقش معه القضايا المرتقب مناقشتها في بروكسل. وفيما أكد الجانبان تمسكهما بتطوير علاقات الشراكة الإستراتيجية والحوار السياسي بين البلدين، أعلن الجانب الروسي تمسكه بضرورة تسوية الأوضاع المتعلقة بكوسوفو على أساس القرار رقم 1244 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. ولم تذكر الوكالة الروسية الرسمية شيئاً عما إذا كان فوتشيتش تطرق في مكالمته الهاتفية مع وزير الخارجية الروسية إلى ما “ارتكبته” الناطقة الرسمية باسم الوزارة وما وصفه المسؤولون الرسميون في صربيا بالتجاوز. على أن هناك ما يشير أيضاً إلى أن الحديث تناول ضمناً ما قد يكون ضمن جدول أعمال الرئيس الصربي فوتشيتش في مباحثاته اليوم الاثنين 7 سبتمبر (أيلول) في بروكسل مع رئيس حكومة كوسوفو.

رابط المصدر:

https://www.independentarabia.com/node/149666/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9/%D8%AA%D8%AD%D9%84%DB%8C%D9%84/%D8%A8%D9%88%D8%A7%D8%AF%D8%B1-%D8%A3%D8%B2%D9%85%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%83%D9%88-%D9%88%D8%B5%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D9%82%D8%B5%D8%A9-%D9%83%D8%B1%D8%B3%D9%8A-%D8%B4%D8%A7%D8%B1%D9%88%D9%86-%D8%B3%D8%AA%D9%88%D9%86

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M