“بوتين” في طهران: دلالات اللحظة

داليا يسري

 

يتوجه الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، اليوم 19 يوليو، في زيارة إلى العاصمة الإيرانية طهران. ووفقًا للمعلن عنه من قِبَل الكرملين، فإن الموضوعات الرئيسة للمحادثات بين روسيا وإيران وتركيا من المقرر أن تتعلق بأعلى مستوى من قضايا التعاون الثنائي مع هذه البُلدان. في غضون ذلك، تأتي هذه الجولة في توقيت مثير للجدل يسترعي مناقشته من نواحٍ عدة: أولها يتمثل في الحرب الجارية حاليًا بأوكرانيا والتي ترتب عليها أن شهد العالم تغيرات جيوسياسية عدة، ثانيهًا المزاعم الأمريكية المتكررة خلال الآونة الأخيرة بشأن اعتزام روسيا شراء طائرات إيرانية بدون طيار يصل عددها إلى نحو 300 طائرة، وفقًا لتصريحات صحف ومسؤولين أمريكيين. ثالثها يتمثل في حضور الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان ومشاركته في القمة، وكيف يلقي وجوده بظلاله على أجندة توزيع النفوذ الأجنبي في سوريا. علاوة على كل ذلك، دلالات القمة الروسية الإيرانية في أعقاب القمة العربية التي استضافت الرئيس الأمريكي، “جو بايدن” في جدة بـ 16 يوليو.

رابطة الأقوياء: ما الذي تريده موسكو من طهران فيما بعد الحرب!

لطالما كانت موسكو مهتمة بالانضمام إلى جماعات أقوياء العالم. وتشتمل تلك القاعدة على حلف الناتو الذي تعده روسيا اليوم عدوها الأول والمصدر الرئيس لتهديد أمنها القومي. وكانت العلاقات قد تأسست بين حلف شمال الأطلسي ودولة الاتحاد الروسي، عام 1991، في إطار مجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية. وانضمت روسيا، لاحقًا في العام 1994، إلى برنامج الشراكة من أجل السلام، ووقع حلف شمال الأطلسي وروسيا منذ ذلك الحين عدة اتفاقيات مهمة فيما يخص التعاون بينهما. وحتى أن الرئيس الروسي، “فلاديمير بوتين”، بنفسه طرح فكرة انضمام روسيا إلى الحلف على الرئيس الأمريكي، “بيل كلينتون” في العام 2000 أثناء زيارته إلى موسكو. ونحن في غنى عن ذكر ما آلت إليه تطورات العلاقة التي وصلت إلى حد وصفها بكلمة “عداء” بين روسيا والحلف في الوقت الراهن.

وعند هذه النقطة، يُطرح سؤال حول دلالات هذه الزيارة الآن وكيفية ارتباطها برغبة موسكو السابقة في الانضمام للناتو قبل تدهور الأوضاع إلى ما وصلت إليه حاليًا؟! وهل من الممكن أن يتم النظر إلى هذه الزيارة بوصفها رد فعل على زيارة الرئيس الأمريكي، “جو بايدن” إلى السعودية أم لا؟!

أولًا: موسكو تسعى إلى تأسيس نادي أقوياء العالم يكون بديلًا موازيًا للناتو. وفي هذه الحالة -أي فيما بعد الحرب- أصبحت رغبتها تمس بشكل أكبر ما يمكن إطلاق عليه “نادي أقوياء معزولين العالم”. دليل على ذلك، تصريحات “بيسكوف” لوسائل إعلام إيرانية أصدرها عشية زيارة “بوتين” لطهران، والتي قال فيها “إن القيود هي الثمن الذي تدفعه روسيا وإيران مقابل السيادة”. نفهم من ذلك أن روسيا تحاول من خلال التعاون مع إيران إرسال رسالة واضحة للولايات المتحدة وشركائها الغربيين، يكون مفادها النهائي؛ هو أن هناك تحالفات أخرى في العالم تتشكل من دول قوية، والأمر لا يقتصر فقط على التحالف الأمريكي مع حلف الناتو.

ثانيًا: ومن ناحية أخرى، لم تقتصر الأسباب التي دفعت “بايدن” إلى الذهاب إلى الشرق الأوسط فقط على الحاجة إلى إقناع الدول المصدرة للنفط بزيادة إنتاجها اليومي بغرض التنكيل بصادرات الطاقة الروسية من الناحية الأخرى. وهو غرض لم تحقق الولايات المتحدة فيه النجاح المرجو حتى الآن على كل حال. ولم يكن فشلها جديدًا، أو مقتصرًا على نتائج زيارة بايدن المخيبة للآمال فحسب. بل كان هذا الفشل جليًا في عيون صانع القرار الروسي خاصة منذ أن ظهر الموقف الخليجي بوضوح في اللحظات الأولى التي أعقبت الحرب الروسية على أوكرانيا، ورفض كُل من ولي عهد السعودية، الأمير محمد بن سلمان، وولي عهد أبو ظبي، الشيخ محمد بن زايد، طلب الولايات المتحدة للرد على مكالمة هاتفية من الرئيس الأمريكي، بتاريخ 9 مارس، حيث كانت واشنطن تربو إلى الحصول على مساعدة الخليج في احتواء أسعار النفط العالمية بعد الحرب.

بل باءت زيارة بايدن بالفشل دون الخروج بأي تصريحات مشجعة بشأن القضية الإيرانية كذلك. وفشل الرئيس الأمريكي في تقريب المسافات بين السعودية وإسرائيل بشأن الخروج باتفاق حول معارضة مشتركة لنظام آية الله الخميني. ولم يصبح في الإمكان كذلك الاتفاق على تأسيس “ناتو عربي” لمواجهة النفوذ الإيراني.

إذًا، وقياسًا على ما سبق، من الممكن القول إن زيارة بوتين لطهران، يُرجى من ورائها، توحيد الصفوف ليس فقط بين الدول المعزولة في العالم فحسب. بل أيضًا بين الدول التي لا تتوقف عن إثارة القلق لواشنطن وحلفائها ومصالحهم الاستراتيجية. بجانب أن تعزيز الصفوف بين موسكو وطهران، سيتسبب الآن بإثارة القلق لإسرائيل ونشاطاتها في سوريا التي ترتبط في المقام الأول بموافقة موسكو بالنظر إلى أنها الطرف المسيطر الآن. وكل ذلك، يمثل أشياء ترى موسكو أنها جديرة بالتنفيذ ردًا على السلوكيات المناوئة لروسيا التي تنتهجها واشنطن بوضوح صارخ.

ثالثًا: إن رغبة موسكو في إنشاء تحالفات وثيقة مع الدول أعضاء نادي معزولين العالم، لا تقتصر فقط على هذه الزيارة فحسب، بل من الأجدر القول إنها رغبة كان مُخطط لها سلفًا في العام 2021، بالاقتران مع مخططات شن حملة عسكرية على أوكرانيا، بدليل الجهود التي بذلتها موسكو لعرقلة مفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع إيران الذي كان سيقترن برفع العقوبات عنها وتوسعة إنتاجها من النفط. بالشكل الذي، لو كان تم تنفيذه، لكانت سطوة روسيا في العالم بحكم وجودها كدولة مصدرة للطاقة ستتأثر وتتضرر بشكل كبير.

علاوة على ذلك، لا نغفل أن موسكو كانت بالفعل تضع في حُسبانها مسألة تصعيد العقوبات الغربية ضدها ردًا على تنفيذ الغزو. لكن الأرجح أنها لم تكن تتصور أن هذه العقوبات ستبلغ من الشدة هذا الحد الذي وصلت معه الأمور إلى وقوع كل ما يتصل بروسيا رهن مقاطعة غربية حادة، بدءًا من مصادر الطاقة التي أعلن الرئيس الأمريكي، “جو بايدن”، الثلاثاء 8 مارس، عن فرض حظر أمريكي على واردات روسيا منها بما يشتمل على النفط والغاز، وصولًا إلى مقاطعات شبه شاملة طالت الشعب الروسي نفسه، واشتملت على المطاعم الغربية، وشركات الكروت الائتمانية “فيزا” و”ماستر كارد”، وما إلى آخره.

لذلك، وجدت موسكو أنها تحتاج إلى إيران في حالتها القائمة كـ “دولة معزولة”؛ بغرض تيسير أوضاع روسيا من خلال عقد شراكات جديدة وعميقة مع الدول التي تحاربها واشنطن وحلفائها بأشكال شتى، حتى تعمل هذه الشراكات على مساعداتها في الصمود أمام المُقاطعات الغربية المكثفة.

رابعًا: وردًا على سؤال حول هل من الممكن أن يكون “بوتين” ذاهبًا إلى إيران لتوقيع وإنهاء صفقة شراء عدد يتراوح ما بين 100- 300 طائرة إيرانية بدون طيار حسبما أوردت صحف غربية أم لا؟! يشار هنا إلى أن مستشار الأمن القومي الأمريكي، “جيك سوليفان”، كان قد أعلن في 12 يوليو، إنه يوجد لدى الولايات المتحدة الأمريكية معلومات تشير إلى أن إيران تستعد لتزويد روسيا بعدد يصل إلى مئات من الطائرات بدون طيار، وتستعد كذلك للقيام بتدريب الجنود الروس على استخدام هذه الطائرات.

وبتاريخ 13 يوليو، رفض المتحدث الرسمي باسم الكرملين التعليق بالتأكيد أو بالنفي على وجود هذه الصفقة من عدمه، لكنه نفى أيضًا اعتزام الرئيس الروسي مناقشتها خلال الزيارة المزمعة لإيران. وبتاريخ 16 يوليو، أدلى “سوليفان” مرة أخرى بتصريحات حول الصفقة، وقال إن وفدًا روسيًا زار مطار كاشان الإيراني مرتين على الأقل في الشهر الماضي لدراسة طائرتين قتاليتين من دون طيار من طراز شاهد-191 وشاهد 129، والتي يمكن أن تحمل صواريخ دقيقة.

وأضاف المسؤول الأمريكي إن تعزيز الشراكة بين روسيا وإيران هو مثال دامغ على سبب حاجة الولايات المتحدة للحفاظ على وجودها ونفوذها في الشرق الأوسط. وبتاريخ 17 يوليو، نشرت صحيفة “نيويورك تايمز”، تقريرًا قالت من خلاله إن إيران تستعد لتزويد روسيا بعدد يصل إلى 300 طائرة، وأوجزت أهمية هذه الطائرات بأنها ستملأ الفجوة الحرجة للقوات الروسية في أوكرانيا، وقالت الصحيفة إن هذه الطائرات تستطيع أداء عمليات قتالية ضد منظومة “إم.إل.آر.إس” الأمريكية.

نخلص من كل ما سبق إلى أن روسيا لم تؤكد الصفقة بشكل رسمي ولم تنفها، مما يعني أنها صفقة منطقية وقائمة بالفعل. وهو ما يقود بالتبيعة إلى استنتاج إلى أنه لا يوجد سبب فعلي يمنع موسكو من إعلان نواياها بمناقشة هذه الصفقة خلال الزيارة، لو كانت بالفعل خططت لهذا الأمر من قبل، سوى أن المسؤولين الأمريكيين استبقوا الأمر وأعلنوا عنها قبل أن تفعل موسكو.

ويُلاحظ في هذا السياق أن الرئيس الروسي وإدارته عكفوا منذ بداية الحرب على معاكسة كل التوقعات المعلنة من قبل الغرب بشأن تحركاتهم القادمة. ونخلص من كل ذلك، إلى أنه ربما كانت موسكو تنوي بالفعل الإعلان عن نواياها بشأن مناقشة الصفقة خلال الزيارة، لكن ربما تغيرت الخطط وانتقلت الآن للتداول في تفاصيلها وراء الأبواب المغلقة. حتى تثبت موسكو أن توقعات الغرب والمعلومات التي تصل إلى أجهزتهم الأمنية بشكل مسبق حول الخطوات المستقبلية لروسيا ستكون دائما خاطئة.

خامسًا: وردًا على سؤال حول ما الذي قد ترغب به طهران من موسكو خلال الزيارة؟ يحتمل أن يكون لدى طهران طلبات تتوجه بها لموسكو خلال هذه الزيارة. وهذه الطلبات تنحصر في احتمالين؛ الأول: قد يطلب الإيرانيون من روسيا الحد من أنشطة سلاح الجو الإسرائيلي في سوريا والتي عادة ما توجه أهدافها ضد الوجود الإيراني هناك. الثاني: من المحتمل أيضًا أن تطلب إيران من روسيا تقديم الدعم المفتوح لحزب الله اللبناني، وهو الأمر الذي يشكل تهديدًا خطيرًا لإسرائيل.

انتهاز جوائز اللحظة: كيف يسعى أردوغان إليه من وراء الزيارة؟

يذهب الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، إلى إيران للمشاركة في الاجتماعات بغرض هدفين؛ أولاً: الحصول على موافقة الرئيس الروسي على الاتفاق الذي توصلت إليه مفاوضات الحبوب التي انعقدت في العاصمة التركية إسطنبول بتاريخ 13 يوليو. ووفقًا لخطة المقترحة؛ تقوم أوكرانيا بمقتضى هذه الخطة، بإزالة الألغام بشكل جزئي من موانئها. فيما تمتنع روسيا عن إطلاق النار على سفن القمح، وتقوم تركيا بمساعدة الأمم المتحدة بأداء مهام تفتيش السفن.

ثانيًا: من الصعب أن يغيب الملف السوري عن طاولة اجتماعات الأذرع الثلاثة للقوى المتدخلة في ساحة الحرب السورية. فقد لعبت كل من موسكو وطهران وإسطنبول دورًا نافذًا في هذا النزاع منذ اندلاعه في 2011. وفيما اتخذت طهران وموسكو جانب النظام السوري في الحرب، ذهبت تركيا إلى تأييد ودعم الطرف الآخر. وكان الكرملين قد صرح بالفعل، خلال الإعلان عن القمة في أوائل الشهر الجاري، عن نيته لمناقشة الملف السوري في اللقاء.

وربما لا يغيب عن الأذهان، أن تركيا عكفت خلال الشهرين الماضيين على التهديد بشن عملية عسكرية خاصة ضد المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية –الأكراد- على امتداد المسافة الفاصلة ما بين الحدود التركية ومنطقتي منبج وتل رفعت في ريف محافظة حلب بشمال سوريا. وهو الشيء الذي لا يمكن لأردوغان الإقبال عليه دون الحصول على الضوء الأخضر من “بوتين”. وترغب تركيا كذلك في أن تُمكنها روسيا من استخدام المجال الجوي بحرية. علاوة على ذلك، لا نغفل عن وجود إيراني على شكل جماعات شيعية مسلحة في المنطقة التي ترغب تركيا بتنفيذ عمليتها فيها. مما يرجح احتمالية أن ترغب إسطنبول في موافقة إيرانية كذلك.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/71510/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M