السفير د. علاء الحديدي
لم يتوقع الكثير من المراقبين إقدام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على غزو أوكرانيا رغم التحذيرات الأمريكية والبريطانية تحديدا في هذا الشأن، الأمر الذي دفع البعض إلى القول إن واشنطن كانت تستفز بوتين عن عمد لجره إلى مصيدة علي غرار أفغانستان التي إستنزفت الكثير من موارد الإتحاد السوفيتي السابق وكانت أحد أهم أسباب سقوطه وإنهياره في نهاية عام ١٩٩١.
ولا شك أن القيادة السوفيتية الحالية بقيادة بوتين لم يخف عنها هذا الأمر، خاصة لما هو معروف عنها من قيامها بدراسة أسباب إنهيار الإتحاد السوفيتي السابق وكذلك الدروس المستفادة من تجربتها السابقة في أفغانستان، ( والتي يبدو أن الولايات المتحدة لم تتعظ منها عندما قامت هي بدورها بالتدخل العسكري فيها ) الأمر الذي وضح في التدخل العسكري الروسي في جورجيا في أغسطس ٢٠٠٨ دعما لإنفصال إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية ثم بعد ذلك أثناء ضم شبه جزيرة القرم ” الأوكرانية ” في مارس ٢٠١٤ والتدخل غير مباشر لدعم الإنفصاليين فيما يعرف بإسم جمهوريتي لوهانسك ودونتيسك بإقليم الدونباس داخل الأراضي الأوكرانية.
إلا أن الأمور إختلفت هذه المرة، وإختلف شكل التدخل الروسي عن سابقيه في جورجيا وشبه جزيرة القرم إلى شكل من أشكال الغزو الشامل للأراضي الأوكرانية من الشمال من بيلاروسيا وفي الشرق من روسيا ذاتها وأخيرا من الجنوب من شبه جزيرة القرم مع عمليات إنزال برمائية على الشواطئ الأوكرانية بالقرب من ميناء ماريوبول على ساحل بحر أزوف وما هو متوقع حول ميناء أوديسا علي البحر الإسود. وعليه، فإن الحدود الوحيدة التي سلمت من الغزو الروسي كانت الحدود الأوكرانية في الغرب مع بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا وهي جميعا من دول حلف الأطلسي، فضلا عن مولدوفا. الخريطة كاشفة والنيات أصبحت واضحة وتتسق مع المطالب الروسية المعلنة بنزع سلاح أوكرانيا وتحويلها إلى دولة محايدة، فضلا عن تطهير البلاد من العناصر النازية الجديدة، وهو ما يعني تغيير القيادة السياسية الأوكرانية الحالية بقيادة زيلينسكي وإستبداله بقيادة جديدة تكون أكثر قبولا لموسكو.
هذا وقد تجاوزت الأحداث الحالية مطالب موسكو السابقة بالاعتراف بضم شبه جزيرة القرم لروسيا أو العودة إلى إتفاق مينسك الأول لعام ٢٠١٤ وإتفاق مينسك الثاني لعام ٢٠١٥، وهو ما سبق أن عرضه كل من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولف شولتز أثناء زيارتهما لموسكو ولقائهما مع الرئيس بوتين في النصف الأول من شهر فبراير الماضي في محاولة للتخفيف من حدة الأزمة وعدم تصاعدها. الأمر الذي عده بوتين مراوغة من الجانب الغربي في التعامل مع المطالب الروسية الأوسع والتي تتضمن ثلاث نقاط رئيسية: الأولى هي وقف تمدد “الناتو” ناحية الشرق. والثانية هي رفض الحلف نشر أنظمة أسلحة ضاربة على الحدود الروسية، والثالثة والأخيرة عودة الإمكانات العسكرية لـ “الناتو” والبنية التحتية في أوروبا إلى وضع عام ١٩٩٧عندما تم التوقيع على الوثيقة التأسيسية بين روسيا و“الناتو“، وبما يستجيب للمخاوف الأمنية الروسية عن طريق وضع ترتيبات أمنية جديدة في شرق أوروبا. فكان القرار بالحرب بعد أن نفذ صبر موسكو، خاصة مع القراءة الروسية لمجمل المشهد العالمي وخاصة وضع الولايات المتحدة. فلا شك أن موسكو كانت تتابع عن كثب الإنسحاب الأمريكي من أفغانستان والتصريحات الأمريكية بشأن أهمية التركيز على التصدي للصين، وهو ما كان يفهم منه من الجانب الروسي أن الإهتمام الأمريكي قد توزع أو تشتت ما بينموسكو وبكين. هذا فضلا عما تشهده الساحة الداخلية الأمريكية من إنقسامات حادة حالت دون صدور موقف قوي وموحد من الحزبين الجمهوري والديمقراطي في الكونجرس إزاء التهديدات الروسيةفي ذلك الوقت أيضا، ناهيك عن موقف بعض أقطاب الحزب الجمهوري وعلى رأسهم الرئيس السابق دولاند ترامب من تفهم للمطالب الروسية وإبداء الإعجاب بشخص الرئيس بوتين، في سابقة لم تعرف من قبل. يضاف لما سبق أيضا الإنقسام الأوروبي حول كيفية التعامل مع روسيا وخاصة من أكبر قوتين بالإتحاد الأوروبي وهما ألمانيا وفرنسا. ويذكر في هذا الصدد أيضا موقف كل من المجر وسلوفاكيا الداعمتان بشكل واضح لتقوية العلاقات مع الكريملين قبل الغزو الروسي. ولهذه الأسباب من ناحية، ومن ناحية أخرى العلاقات الوثيقة مع الصين والتي ظهرت بوضوح في البيان المشترك الصادر عن زيارة بوتين للصين في ٤ فبراير الماضي بمناسبة إفتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية والذي تحدث عن ” الصداقة غير المحدودة ” بين الجانبين الصيني والروسي، والذي وصفه المراقبون بأنه يمثل حقبة جديدة في العلاقة بين البلدين ترقى إلى مستوى التحالف بين هاتين الدولتين. لذلك كانت القراءة الروسية بأهمية إغتنام فرصة ما يعانيه الغرب من إنقسامات مع وجود ما يفترض أنه دعم صيني، لفرض المطالب الروسية بالقوة، خاصة وأن الرئيس الأمريكي جون بايدن قد أكد أكثر من مرة، وأيضا لأسباب داخلية، أن الولايات المتحدة الأمريكية لن ترسل جنديا واحدا للدفاع عن أوكرانيا.
السؤال المطروح الآن هو أين يقف التدخل أو الغزو الروسي لأوكرانيا وردة الفعل الغربية؟
الشاهد بناء على المعطيات السابقة أن بوتين قد عقد العزم على المضي قدما في تحقيق أهدافه مهما كلفه ذلك من أمر، وإعتبار أوكرانيا خطوة أولي نحو إعادة هندسة أو تغيير المعادلة الأمنية والإستراتيجية في أوروبا. وهو ما يعني أن القوات الروسية لن تقف أمام أي مقاومة أوكرانية، حتى لو امتدت العمليات العسكرية لمدي زمني أطول عما هو مقرر، أو تعثرت بعض العمليات هنا أو هناك نتيجة مشاكل لوجيستيكية أو غيرها. وقد يكتفي بوتين بحصار كييف دون دخولها أو إقتحامها بهدف إسقاط الحكومة الأوكرانية الحالية بقيادة فولوديمير زيلينسكي. وفي حالة عدم تحقيق هذا الهدف، فلا مناص من إقتحام المدينة والتوغل داخل الأراضي الأوكرانية وصولا إلى نهر الدنيبر الذي يقسم البلاد من الشمال إلى الجنوب والسيطرة على جميع الأراضي شرق هذا النهر. وفي سيناريو إضافي تقوم القوات الروسية بالتقدم على طول الساحل الأوكراني علي بحر أزوف شرق شبه جزيرة القرم ثم غربها على البحر الإسود وصولا إلى إقليم ترانسنيستريا المنفصل عن جمهورية مولدوفا والمتواجد به قوات روسية رسمية، وبما يحرم أوكرانيا من أي منفذ على البحر الأسود وخاصة ميناء أوديسا الشهير. ويحقق هذا السيناريو إستعادة ما يراه بوتين من أرض روسيا التاريخية وضم المناطق الناطقة بالروسية في الشرق والجنوب، وترك الجزء الشمالي الغربي المتاخم للحدود البولندية والناطق بالأوكرانية وخارج أرض روسيا التاريخية.
هذا، ومن الواضح أن الغرب قد قرر مواجهة روسيا على الجبهتين الاقتصادية والتكنولوجية دون الدخول في مواجهة عسكرية معها، تاركا هذا الأمر لكفاح الشعب الأوكراني في مواجهة الإحتلال الروسي القادم وبهدف تكرار سيناريو أفغانستان، ولكن على أرض أوروبية هذه المرة. وتذهب بعض التقديرات إلى أن العقوبات الإقتصادية الغربية من أخراج معظم البنوك الروسية من نظام سويفت swift والعقوبات الأخرى (ليس هنا المجال لتعدادها) ستؤدي إلى إنكماش الإقتصاد الروسي بنسبة تتراوح ما بين ٥٪ إلى ١٠٪، وتصل بعض التقديرات حتى إلى ٢٠٪. ولكن الأهم من هذه الحرب الاقتصادية هو العمل على حرمان روسيا من التكنولوجيا الغربية عن طريق فرض حصار تكنولوجي عليها أشد ضراوة وقسوة وإحكاما من الحصار الإقتصادي. وشرح ذلك ما ذكرته رئيسة المفوضية الأوروبية أرسولا فون دير لاين من أن الطيران المدني الروسي يعتمد في ثلاثة إرباع أسطوله على التكنولوجيا الغربية، وآن صناعة إستخراج النفط وخاصة في الحقول البحرية تعتمد على التكنولوجيا الغربية. وأن العقوبات الغربية هذه وبالطريقة التي تم وضعها ستحرم روسيا من جني ثمار عائدات ما تصدره من نفط وغاز. جاء ذلك قبل الإعلان الأمريكي عن وقف إستيراد النفط والغاز الروسي، وما هو منتظر من مزيد من العقوبات الغربية وذلك بهدف تعجيز وشل الإقتصاد الروسي.
وعليه، فمن الصعب التنبؤ بمسار الأحداث خلال الفترة القصيرة القادمة، ومتي ستنتهي الحرب الروسية الأوكرانية، بعد إسبوعين أو ثلاثة أو شهر أو أكثر، والأهم أين ستقف القوات الروسية، على نهر الدنيبر أو بعد ذلك أو حتى قبل ذلك. فأحد مراكز الفكر الأمريكية” Scowcroft Center” وبعض الباحثين في “Atlantic Council” طرحوا سيناريو” المعجزة ” ضمن سيناريوهات عديدة أخرى، والذي يذهب إلى تعثر الغزو الروسي وفشله في تحقيق أهدافه وتوقفه عند الخطوط القتالية الحالية أو بعدها بقليل. ولكن الأرجح أن هذه الحرب ستستمر لفترة قادمة، حيث يرى البعض أن القوات الروسية تتعمد التقدم ببطئ لإعطاء الوقت الكافي لسكان المدن للنزوح منها قبل محاصرتها ثم إقتحامها، وذلك لتفادي سقوط ضحايا أكثر من المدنيين. أيا كان الأمر، فإن تطور الأحداث وتلاحقها حتي لحظة كتابة هذا المقال من إعلان الرئيس بوتين التأهب النووي أو عزم الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي علي فرض مزيد من العقوبات أو الإعلان عن عزم بولندا تزويد أوكرانيا بما تمتلكه من مقاتلات ”ميج ٢٩ ” التي تمتلكها، تشى جميعا أننا مازلنا في بداية الحرب وليس قرب نهايتها.
.
رابط المصدر: