بوتين وروسيا فى الإعلام الغربى

د. حسن أبو طالب

 

لا شك فى أن الإعلام الغربى هو إحدى أدوات القوة الناعمة للتحالف الغربى بقيادة الولايات المتحدة. لديه صوت مسموع عالميا وشريك فى صياغة وتحقيق الأهداف الغربية الكبرى ضد المناوئين والمنافسين للهيمنة الغربية. وحين يتناول الإعلام الغربى حدثا ما، أو قضية فكرية أو أزمة سياسية أو عسكرية، يقدم روايته استنادا إلى الأفكار الرئيسية التى تحكم الفكر الغربى، وليس استنادا إلى واقع وملابسات الحدث محل التناول، سواء كان فى الشرق أو فى جنوب العالم. هذه المقدمة فقط للتذكير بأن حيادية الإعلام الغربى ليست حقيقية، بل هى أسطورة يفضحها العديد من الممارسات والتغطيات الإعلامية الغربية لقضايا مثل السلوك الإسرائيلى الاحتلالى الاستيطانى فى فلسطين المحتلة، وقضية تايوان التى تمس مباشرة وحدة الصين، والوضع فى سوريا لاسيما التغاضى عن الوجود العسكرى الأمريكى غير الشرعى فى الشمال السورى. وكثيرا ما قدمت التغطيات الاعلامية الغربية رؤساء وقادة فى مناطق ودول مختلفة بأسلوب موجه عكس الرغبات الدفينة والتوجهات غير المعلنة لمراكز صنع القرار الغربية من حيث الرغبة فى الإطاحة بهؤلاء القادة الذين يختلفون مع بعض توجهات الغرب أو يمارسون سلوكا استقلاليا لا تفضله الدوائر الغربية الحاكمة. وهنا يمارس الإعلام الغربى عملية تشويه منظمة لهؤلاء القادة، بغية التقليل من شأنهم أمام شعوبهم وأمام العالم الخارجى معا، والتأثير سلبا على حظوظهم الانتخابية.

ولا يهتم الإعلام الغربى أو لنقل غالبيته العظمى، بمبدأ حرية الاعتقاد الدينى واحترام مقدسات الآخرين، من المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات، وعادة ما يدعم الإعلام الغربى مواقف القادة والسياسيين الأوروبيين المتطرفين المناهضين للاسلام، وتبرير مواقفهم كحرية تعبير أكثر قداسة من مبدأ احترام عقائد الغير. وليس بعيدا تلك المواقف الإعلامية الرمادية لحادثة حرق المصحف الشريف بواسطة أحد الحمقى فى السويد برعاية الشرطة، والتى تم التعامل معها كحدث عادى ومقبول، لا يستحق اى قدر من الرفض أو الإدانة. والسوابق فى هذا السياق كثيرة ومتكررة وتعكس النمط ذاته. هذا السياق العام الحاكم للإعلام الغربى وفقدانه الحيادية، يبدو أكثر وضوحا فى الأزمة الأوكرانية، ومنذ اندلاع العمليات العسكرية الروسية، لأسباب خاصة بمفهوم الدولة الروسية لحماية أمنها القومى وردع المسببات المحتملة والمُحملة بمخاطر مستقبلية على وحدة روسيا ووجودها، انشغل الاعلام الغربى بتصوير قرار الرئيس بوتين، باعتباره قرارا لا يخلو من الجنون وسوء التقدير، والتخبط الاستراتيجى، ولكون الرئيس بوتين مستبدا ومُحاطا بأقلية فاسدة لديها نوازع قومية متعصبة، واتجاهات معادية للغرب ونمط حياته. وقد انهمكت كبريات الصحف والدوريات التى تعرف بكونها رصينة، فى رسم صورة الرئيس بوتين كرئيس ذى خلفية استخبارية يتخبط فى قراراته التى ستقوده إلى الهزيمة.وكثيرا ما صورت تقارير وتحليلات كبريات المجلات الأوروبية والأمريكية الرئيس بوتين باعتباره خاضعا لنوازع دينية تدفعه إلى اتخاذ مواقف مرفوضة غربيا، مثل رفض التوجهات المثلية التى يعتبرها القانون الروسى جرما يستحق العقاب، لكن الغرب يفخر بها، ويروج لها الإعلام الغربى بزهو وقداسة. ونظرا للموقف الرافض لهذه التوجهات الشاذة لدى الرئيس بوتين، فقد نال الكثير من التقريع والتشويه والإدانة المعنوية. افتقاد الحيادية والمنطق الإعلامى والسياسى المتناسق، بدا واضحا فى معالجة الاعلام الغربى، لتمرد منظمة فاجنر الفاشل، ولرئيس المنظمة يفجينى بريجوجين. فقبل تمرد فاجنر كان رئيسها مجرد طباخ الرئيس بوتين، والمشارك فى هوسه العسكرى ومغامراته فى أوكرانيا والعديد من الدول والمناطق، وهو المجرم الذى يستحق العقاب وفرض العقوبات عليه وعلى منظمته الإجرامية. مع كثرة الانتقادات التى كان يوجهها يفجينى للقيادة العسكرية الروسية طوال ما يقرب من شهرين، أظهرت التغطيات الإعلامية الغربية الرجل باعتباره قائدا مستقلا يجب الاستماع لانتقاداته، مع الإشادة بها والترويج لها، لما تسببه من تأثيرات معنوية سلبية على الجيش الروسى وعلى الرئيس بوتين معا، وهنا اختفت نسبيا الصفات السلبية لرئيس فاجنر، وبدا الأمر وكأنه هدية من السماء سوف تساعد الهجوم المضاد الأوكرانى على النيل من القوات الروسية بأسرع وتيرة ممكنة. قبل التمرد الفاشل، ظهرت التحليلات الغربية وكأن فاجنر هى القوة الروسية الوحيدة التى تقاتل فى أوكرانيا، وأنها تمارس التكتيكات العسكرية لكفاءة بعيدا عن الخطط الشاملة للقوات الروسية، ونال مقاتلوها صفات الجرأة والقسوة والقدرة على تحقيق تقدم عسكرى بالرغم من كل الصعوبات. وفى يوم التمرد، انقلبت صورة الرجل إلى زعيم منتظر سوف يقود ثورة تطيح بالرئيس وبالنظام والمؤسسات، وربما يعتقل كل القيادات العسكرية العليا التى اتهمها من قبل بسوء الأداء والتسبب بخسائر كبرى للجيش الروسى، وبدا الترحيب الحذر بما سيحدث فى روسيا إطارا كليا للكثير من المعالجات الإعلامية الغربية ليوم واحد فقط.

الشماتة فى الرئيس بوتين كانت السمة الرئيسية فى معالجة التمرد، وحتى بعد احتوائه بطريقة أثبتت قدرة الرئاسة الروسية على حسم الأمر فى أقل مدى زمنى وبدون خسائر بشرية، ظلت النظرة السائدة ترسخ صورة الرئيس المهزوم والمعزول والمُهدد فى سلطاته، والقريب من النهاية المفجعة. الأكثر من ذلك يروج محللون غربيون لنظرة متناقضة، فثمة تمن باختفاء الرئيس بوتين من المشهد السياسى المحلى والعالمى، ومع ذلك هناك قلق أن يكون البديل فوضى عارمة فى روسيا، تأتى بزعيم متطرف قوميا يتعامل مع القدرات النووية الروسية بلا مسئولية، ما يمثل تهديدا لأوروبا أولا وللغرب كله ثانيا، ما يفرض البحث فى سيناريوهات مواجهة هذا الخطر المحتمل. هذا النوع من التحليلات يظهر الرغبة الغربية الدفينة فى انهيار روسيا وتقزم دورها، فى الوقت نفسه الخشية من اختفاء بوتين، الذى على الأقل يعتقدون بقدراته السياسية حتى ولو كانت مرفوضة غربيا.

نقلا عن الأهرام

 

.

رابط المصدر:

 

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M