بوتين يكتب: الدروس الحقيقية للذكرى الخامسة والسبعين للحرب العالمية الثانية

كيوبوست – ترجمات

فلاديمير بوتين

 

في هذه المقالة يقدم الرئيس الروسي تقييماً شاملاً لإرث الحرب العالمية الثانية، معتبراً أن الساسة الأوروبيين، والقادة البولنديين على وجه الخصوص، يرغبون في محو خيانة ميونخ من الذاكرة. وقد أظهرت خيانة ميونخ للاتحاد السوفييتي أن الدول الغربية ستتعامل مع القضايا الأمنية دون أخذ مصالحها في الاعتبار..

لقد انقضت خمسة وسبعون عاماً منذ نهاية الحرب الوطنية العظمى، وخلال هذه السنوات نشأت وترعرعت عدة أجيال، وتغيرت الخريطة السياسية لكوكب الأرض. وانتهى الاتحاد السوفييتي الذي حقق نصراً ملحمياً ساحقاً على النازية، وأنقذ العالم بأسره. وإلى جانب ذلك، فإن أحداث تلك الحرب أصبحت منذ فترة طويلة ذكرى بعيدة، حتى بالنسبة إلى المشاركين فيها. فلماذا إذن تحتفل روسيا بذكرى التاسع من مايو باعتباره عطلة وطنية كبرى؟ ولماذا تكاد الحياة تتوقف في الثاني والعشرين من يونيو؟ ولماذا يشعر المرء بغصة في الحلق مع هذه الذكرى؟

اقرأ أيضاً: 100 عام على الحرب العالمية.. ما الذي يحمي العالم من واحدة مدمرة جديدة؟

يقولون عادةً إن الحرب تركت بصمة عميقة في تاريخ كل عائلة. ووراء هذه الكلمات، هناك مصائر الملايين من الناس، ومعاناتهم وآلام خسارتهم. وراء هذه الكلمات، هناك أيضاً الفخر والحقيقة والذاكرة. فبالنسبة إلى والدي، كانت الحرب تعني المحن الرهيبة لحصار لينينغراد؛ حيث توفي أخي فيتيا البالغ من العمر عامين. وكان المكان الذي تمكنت فيه أمي بأعجوبة من البقاء على قيد الحياة. وقد تطوع والدي للدفاع عن مسقط رأسه، على الرغم من إعفائه من الخدمة الفعلية؛ فقد اتخذ القرار نفسه الذي اتخذه الملايين من المواطنين السوفييت، وحارب في رأس جسر نيفسكي بياتاتشوك، وأصيب بجروح بالغة.

وكلما مرت سنوات أكثر، شعرت بالحاجة إلى التحدث إلى والدَي ومعرفة المزيد عن فترة الحرب في حياتهما. ولكن، لم تعد لديَّ الفرصة لأفعل ذلك. وهذا هو السبب الذي يجعلني أحتفظ في قلبي بتلك المحادثات مع أبي وأمي حول هذا الموضوع وعواطفهما المقتضبة تجاهه.

وزير الخارجية النازي يواكيم فون ريبنتروب (يسار)- ووكيل وزارة الخارجية الألمانية فريدريش جوس ورئيس الدولة السوفييتي جوزيف ستالين ووزير خارجيته فياتشيسلاف مولوتوف (يمين).. في الكرملين بعد توقيع ميثاق عدم الاعتداء أغسطس 1939- أرشيف

أعتقد أنا ومَن هم في مثل عمري، أنه من المهم أن يفهم أطفالنا وأحفادنا وأبناء أحفادنا العذاب والمعاناة التي كان على أسلافهم تحملها. إنهم بحاجة إلى فهم كيف تمكن أسلافهم من المثابرة والفوز. ومن أين أتوا بعزيمتهم الفولاذية التي أدهشت وأذهلت العالم بأسره؟ بالتأكيد، كانوا يدافعون عن ديارهم وأطفالهم وأقربائهم وأسرهم؛ ولكن ما جمعهم هو حب بلادهم، حب الوطن. إن هذا الشعور الحميم والعميق انعكس بالكامل في جوهر أمتنا، وأصبح أحد العوامل الحاسمة في كفاحها البطولي، وتضحياتها ضد النازيين.

اقرأ أيضاً: لماذا أرسل ستالين الجيش الأحمر لغزو أفغانستان؟

وكثيراً ما أتساءل: ماذا سيفعل جيل اليوم؟ كيف سيتصرف عندما يواجه أزمة؟ فيتراءى أمام عيني الأطباء الشبان والممرضات وأحياناً خريجون جدد يذهبون إلى “المنطقة الحمراء” لإنقاذ الأرواح. وأرى جنودنا الذين يحاربون الإرهاب الدولي في شمال القوقاز، ويقاتلون حتى النهاية في سوريا. إنهم شباب يافعون للغاية كما كان عدد كبير من الجنود الذين كانوا جزءاً من سرية المظليين السادسة الخالدة والأسطورية وتراوحت أعمارهم بين 19 و20 عاماً. ولكن جميعهم أثبتوا أنهم يستحقون أن يرثوا إنجاز محاربي وطننا الذين دافعوا عنه خلال الحرب الوطنية العظمى.

ولهذا السبب، فإنني على ثقة بأن إحدى السمات المميزة لشعوب روسيا هي القيام بواجبها، دون الشعور بالأسى على نفسها، عندما تقتضي الظروف ذلك. ولا تزال قيم مثل نكران الذات والوطنية وحب مسقط الرأس والأسرة والوطن، أساسية ولا تتجزأ من المجتمع الروسي حتى يومنا هذا. وتشكل هذه القيم، إلى حد كبير، العمود الفقري لسيادة بلدنا.

العائلات اليهودية الفارة من بولندا تعبر تشيكوسلوفاكيا إلى معسكرات اللاجئين لنقلهم إلى فيينا – أرشيف

واليوم، أصبح لدينا تقاليد جديدة أوجدها الشعب؛ مثل “الفوج الخالد”، وهي مسيرة الذكرى المعبرة عن امتناننا وصلة الدم الحية بين الأجيال. فيخرج ملايين الناس إلى الشوارع حاملين صور أقاربهم الذين دافعوا عن وطنهم الأم وهزموا النازيين. وهذا يعني أن حياتهم ومحنهم وتضحياتهم، فضلاً عن النصر الذي تركوه لنا، أشياء لن تُنسى أبداً.

أما نحن، فإن المسؤولية تقع على عاتقنا تجاه ماضينا ومستقبلنا، لنفعل كل ما بوسعنا لمنع تكرار تلك المآسي الرهيبة مرة أخرى. ومن ثمَّ، وجدتُ أنه من واجبي أن أقدم هذه المقالة عن الحرب العالمية الثانية والحرب الوطنية العظمى. وقد ناقشتُ هذه الفكرة في مناسباتٍ عديدة مع قادة العالم، وأظهروا دعمهم.

ففي قمة قادة رابطة الدول المستقلة التي عقدت نهاية العام الماضي، اتفقنا جميعاً على شيء واحد: أنه من الضروري أن ننقل إلى الأجيال المقبلة ذكرى أن النازيين هُزموا أولاً وقبل كل شيء على يد الشعب السوفييتي، وأن ممثلي جميع جمهوريات الاتحاد السوفييتي حاربوا جنباً إلى جنب في تلك المعركة البطولية، سواء على الخطوط الأمامية أو في العمق.

وخلال تلك القمة، تحدثت أيضاً مع نظرائي عن الفترة الصعبة التي سبقت الحرب.

المستشار الألماني أدولف هتلر يحيي القوات النازية خلال استعراض عسكري في ألمانيا.. 1937- أرشيف

وقد أثارت تلك المحادثة ضجة في أوروبا والعالم. وهذا يعني أن الوقت قد حان بالفعل لإعادة النظر في دروس الماضي. وفي الوقت نفسه، كان هناك العديد من الانفجارات العاطفية، وانعدام الأمان المقنع بشكل سيئ، والاتهامات الصاخبة التي تلت ذلك. وكالعادة، سارع بعض السياسيين إلى الادعاء بأن روسيا تحاول إعادة كتابة التاريخ. غير أنهم لم يفلحوا في دحض حقيقة واحدة أو في دحض حجة واحدة. والواقع أنه من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، المجادلة مع الوثائق الأصلية التي يمكن، بالمناسبة، العثور عليها ليس باللغة الروسية فحسب؛ ولكن أيضاً في الأرشيفات الأجنبية.

اقرأ أيضاً: 5 مناطق في العالم قد تكون شرارة الحرب العالمية الثالثة في 2019

وبالتالي، ثمة حاجة إلى مواصلة دراسة الأسباب التي أدت إلى الحرب العالمية والتأمل في أحداثها المعقدة ومآسيها وانتصاراتها، فضلاً عن الدروس المستفادة منها؛ سواء بالنسبة إلى بلدنا أو العالم بأسره. وكما قُلت، فمن الأهمية بمكان الاعتماد حصراً على وثائق الأرشيف والأدلة المعاصرة، مع تجنب أية تكهنات أيديولوجية أو مسيسة.

وأود أن أذكِّر مرة أخرى بالحقيقة الواضحة؛ وهي أن الأسباب الجذرية للحرب العالمية الثانية تنبع أساساً من القرارات التي اتُّخذَت بعد الحرب العالمية الأولى. فقد تحولت معاهدة فيرساي إلى رمزٍ للظلم الفادح الذي لحق بألمانيا. وكان ذلك يعني ضمناً أن البلاد ستُسلب، وتُجبر على دفع تعويضات هائلة للحلفاء الغربيين الذين استنزفوا اقتصادها. وقدم المارشال الفرنسي فرديناند فوش، الذي شغل منصب القائد الأعلى للقوات المتحالفة، وصفاً تنبؤياً لتلك المعاهدة، حين قال: “هذا ليس سلاماً، إنها هدنة لمدة عشرين عاماً”.

الجنود السوفييت في ستالينجراد خلال فترة راحة قصيرة بعد القتال.. 1944- أرشيف

إن الإذلال الوطني بالتحديد هو الذي هيَّأ أرضاً خصبة للمشاعر الانتقامية والراديكالية في ألمانيا، فلعب النازيون بمهارة على هذه العواطف، وبنوا عليها دعايتهم الواعدة بتخليص ألمانيا من “إرث فرساي”، وإعادة البلاد إلى قوتها السابقة، بينما قاموا في الواقع بدفع الشعب الألماني إلى حرب جديدة.

ومن المفارقات أن الدول الغربية؛ ولا سيما المملكة المتحدة والولايات المتحدة، قد أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في ذلك. فقد استثمرت شركاتها المالية والصناعية بنشاط في المصانع والمعامل الألمانية التي تصنع المنتجات العسكرية. وعلاوة على ذلك، فقد أيَّد العديد من الأرستقراطيين والمؤسسة السياسية الحركات الراديكالية واليمينية المتطرفة والقومية التي كانت في تصاعد في كل من ألمانيا وأوروبا.

اقرأ أيضاً: أكثر 7 حروب دموية بعد الحرب العالمية الثانية!

لقد تسبب “نظام فرساي العالمي” في العديد من الخلافات الضمنية والصراعات الواضحة، والتي كانت تدور حول حدود الدول الأوروبية الجديدة التي حددها المنتصرون بشكل عشوائي في الحرب العالمية الأولى. وأعقب ذلك ترسيم الحدود متبوعاً على الفور بالنزاعات الإقليمية والمطالبات المتبادلة التي تحولت إلى “قنابل موقوتة”. وقد كان من النتائج الرئيسة للحرب العالمية الأولى إنشاء عصبة الأمم. وكانت هناك توقعات كبيرة بأن تكفل تلك المنظمة الدولية السلام الدائم والأمن الجماعي. وكانت فكرة تقدمية يتوقع، إذا ما  تمت متابعتها باستمرار، أن تمنع في الواقع أهوال حرب عالمية من الحدوث مرة أخرى.

فرحة الجماهير والعسكريين بعد إعلان قبول استسلام ألمانيا غير المشروط ونهاية الحرب.. لندن 1945- أرشيف

إلا أن عصبة الأمم التي تهيمن عليها القوتان المنتصرتان، فرنسا والمملكة المتحدة، قد أثبتت عدم فاعليتها وانغمست في مناقشات لا طائل من ورائها. ولم تلتفت عصبة الأمم والقارة الأوروبية عموماً إلى الدعوات المتكررة للاتحاد السوفييتي لإنشاء نظام منصف للأمن الجماعي، والتوقيع على ميثاق أوروبا الشرقية وميثاق المحيط الهادئ لمنع العدوان. وقد تم تجاهل هذه المقترحات، كما فشلت عصبة الأمم في منع نشوب الصراعات في مختلف أنحاء العالم؛ مثل هجوم إيطاليا على إثيوبيا، والحرب الأهلية في إسبانيا، والعدوان الياباني على الصين، وضم النمسا إلى ألمانيا (ألمانيا العظمى).

اقرأ أيضاً: ناجون من هيروشيما يتحدثون عن رعب القنبلة بعد مرور 75 عاماً

وعلاوة على ذلك، وفي مؤامرة ميونخ التي شارك فيها بالإضافة إلى هتلر وموسوليني، قادة بريطانيون وفرنسيون، وبموافقة كاملة من عصبة الأمم، تم تقسيم تشيكوسلوفاكيا. وأود أن أشير في هذا الصدد إلى أن ستالين، خلافاً للعديد من القادة الأوروبيين الآخرين في ذلك الوقت، لم يلطخ نفسه بلقاء مباشر مع هتلر الذي كان معروفاً بين الدول الغربية بأنه سياسي حسن السمعة، وكان ضيفاً مرحباً به في العواصم الأوروبية.

كما شاركت بولندا في تقسيم تشيكوسلوفاكيا إلى جانب ألمانيا. وقد قررتا معاً مسبقاً مَن سيحصل على أية قطعة من الأراضي التشيكية. وفي 20 سبتمبر 1938، قدم السفير البولندي لدى ألمانيا جوزيف ليبسكي، تقريراً إلى وزير خارجية بولندا جوزيف بيك، عن التأكيدات التالية التي قدمها هتلر: “في حالة نشوب نزاع بين بولندا وتشيكوسلوفاكيا حول مصالحنا في تيشين، فإن الرايخ سيقف إلى جانب بولندا”؛ حتى إن الزعيم النازي قدم نصائح بألا تبدأ بولندا بأية ردة فعل “إلا بعد أن يحتل الألمان جبال السوديت”.

 

رابط المصدر:

https://www.qposts.com/%D8%A8%D9%88%D8%AA%D9%8A%D9%86-%D9%8A%D9%83%D8%AA%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%B1%D9%88%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%82%D9%8A%D9%82%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%B0%D9%83%D8%B1%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%AE/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M