عادل رفيق
نشرت مجلة الإيكونوميست البريطانية في 1 سبتمبر 2021 مقالاً لبول كينيدي، أستاذ التاريخ بجامعة ييل، حول ما إذا كان صعود الصين يعني سقوط أمريكا، صدّره بالتأكيد على أن التغييرات في السياسة العالمية، والقوة العسكرية، والقوة الاقتصادية، تشير إلى أنه قد أصبح للولايات المتحدة منافس جديد على السيادة، وهي الصين. وقد جاء المقال على النحو التالي:
لم يستنفد جهود مفكري السياسة الخارجية على مر السنين شي أكثر من مناقشة مسألة ما إذا كانت الولايات المتحدة، كقوة عالمية، في حالة تدهور لا رجعة فيه. وتُغذي الأحداث الأخيرة في أفغانستان بالتأكيد هذا الشعور، حيث تشير إلى تراجع أمريكي آخر من آسيا. لكن الصعود المطرد للقوة الصينية هي القضية التي تناولها صانعو السياسة الأمريكيين على مدى فترة أطول:
هل الصين على وشك تجاوز أمريكا؟ وما هي أفضل المعايير الاقتصادية والعسكرية لقياس مثل هذا التحول في الشؤون العالمية؟ أليست الصين مثقلة بالمشكلات الداخلية التي قد تتستر، بشكل جزئي فقط، خلف سلسلة من العلاقات العامة الذكية التي تديرها تلك الدولة الاستبدادية؟ أم أن عصر السلام الأمريكي قد انتهى ليحل محله القرن الآسيوي؟
ربما يكون من غير الحكمة التسرع في الإجابة بـ “نعم” على السؤال الأخير. فلا يزال الكثير بخصوص أمريكا والعالم كما كان إبّان الثمانينيات عندما كنت أؤلف كتاب “صعود وسقوط القوى العظمى” الذي نشرته “راندوم هاوس” بنيويورك عام 1987. ومن الصحيح أيضاً أنه جاءت فترات في الأعوام الأربعين الماضية كان الموقف النسبي لأمريكا يبدو وكأنه قد انتعش مرة أخرى – وذلك في منتصف التسعينيات بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وفي عام 2003 بعد سحق الزعيم العراقي صدام حسين. ومع ذلك، فإن مثل فترات التعافي هذه كانت دائماً قصيرة الأجل، مقارنة بالعديد من الأمور الكبيرة التي تغيرت – ولكن ليس لصالح الولايات المتحدة. حيث علينا التفكير في ثلاث تحولات مهمة وطويلة المدى، وهي: العلاقات الدولية، القوة العسكرية، والقوة الاقتصادية.
التحول الأول، وهو التحول في العلاقات الدولية، هو أن مجموعة القوى الاستراتيجية والسياسية قد تغيرت منذ عالم الحرب الباردة ثنائي القطبية الذي كان سائداً قبل نصف قرن من الآن عندما كانت الولايات المتحدة تواجه فقط الاتحاد السوفيتي المتلاشي. أما النظام الدولي فيتكون الآن من أربع أو ربما خمس دول كبيرة جداً. حيث لا تستطيع أي منهم، سواء من خلال القوة الخشنة أو القوة الناعمة، إجبار الآخرين على فعل ما لا يريدون القيام به.
لقد كان هناك بالفعل مؤشرات على هذا التحول نحو عالم متعدد الأقطاب عندما كنت أقوم بصياغة الفصل الأخير من “صعود وسقوط القوى العظمى” في منتصف الثمانينيات. ولكن الآن، ونحن في العقد الثالث من هذا القرن، يبدو المشهد العالمي أكثر تنوعاً، في ظل وجود العديد من الدول الكبيرة على القمة (الصين وأمريكا والهند وروسيا)، يليها الاتحاد الأوروبي واليابان، وحتى إندونيسيا و إيران.
حيث يمثل هذا الأمر إعادة توزيع شديدة الأهمية للقوة العالمية، لذلك فإنه لا يكفي ببساطة الادعاء، إذا كان ذلك صحيحاً، بأن أمريكا تظل في المرتبة الأولى: وحتى لو كانت هي أكبر غوريلا في الغابة، فهي في نهاية الأمر واحدة فقط من مجموعة من الغوريلات! وليس من المهم أن نقول إن موقف روسيا قد تقلّص بشكل أكبر من موقف أمريكا، عندما تكون كلتاهما قد فقدت الأرض نسبياً – وهو، في النهاية، ما تتناوله نظرية القوة العظمى الواقعية.
أما التحول الثاني، وهو التحول في القوة العسكرية، فقد أصبح حجم القوات المسلحة الأمريكية أصغر وأقدم بكثير مما كانت عليه في الثمانينيات. فإلى متى، حقاً، يمكن للقوات الجوية الاستمرار في إصلاح قاذفاتها الرائعة من طراز بي-52 التي يبلغ عمرها سبعين عاماً، والتي تُعد أقدم من جميع الضباط الذين هم على رأس الخدمة الآن؟ وكم من الوقت يمكن للبحرية أن تستمر في تجديد مدمرات أرلي بيرك التي يبلغ عمرها 30 عاماً؟ وحتى لو كان مجرد إرباك مؤقت أن يتم تجريد غرب المحيط الهادئ من حاملات الطائرات في مايو الماضي عندما كانت مجموعة يو إس إس أيزنهاور تغطي بدء الانسحاب من أفغانستان، فإن الحقيقة هي أن عدد حاملات الطائرات العاملة لدى البحرية الأمريكية اليوم أقل مما كانت عليه منذ أربعين عاماً.
ونظراً لأن البنتاجون ينشر سفنه بوتيرة منتظمة في مناطق مختلفة، فقد لا يكون لدى أمريكا بكل بساطة ما يكفي منها للوفاء بالتزاماتها العالمية العديدة. وبالنسبة لنظرة المؤرخ إذن، فإن أمريكا الآن تبدو إلى حد ما شبيهة بنموذج هابسبورج القديمة (أحد أهم العائلات المالكة في أوروبا قديماً من أصل ألماني)؛ فالولايات المتحدة تمتلك قوات مسلحة كبيرة، وإن كانت منهكة، منتشرة على امتداد مناطق كثيرة للغاية من العالم. حيث تُعتبر أيضاً هزيمة أمريكا في أفغانستان، وتركها لمعداتها العسكرية متناثرة في معظم أنحاء تلك الدولة، حلقة من حلقات المصير الذي آلت إليه مملكة هابسبورج القديمة.
في غضون ذلك، يبدو أن الصين تستعرض عضلاتها في كل مكان. حيث تكمن خلف مسألة حجم القوات المسلحة الأمريكية قضية أكبر: وهي ما إذا كان عصر الأسلحة الضخمة من قبيل الطائرات المأهولة والسفن الحربية الكبيرة لم ينتهي بعد، وأنه قد ينقضي زمانه بحلول عام 2040. يشعر المرء أنه في ظل الطائرات بدون طيار- التي تهيمن على ساحة المعركة أو المحيط الذي يخضع لسيطرة تلك النجوم النابضة، قد تتحول الاختلافات بين أمريكا وخصومها مثل الصين أو روسيا أو إيران، لأن ميزة الجنود الأفضل تدريباً التي كانت تتميز بها لن تكون هناك كما اعتادت من قبل. وبينما كانت الثورات العسكرية في الماضي تميل لأن تكون في صالح الولايات المتحدة، فإن الثورات العسكرية القادمة قد لا تكون كذلك.
هل تستطيع أمريكا أن تتحمل دفع ثمن البقاء في الطليعة؟ عليها أن تسأل نفسها بصراحة ما هي النسبة المئوية من ناتجها المحلي الإجمالي التي قد تحتاجها لامتلاك جيش يفي بالتزامات الدولة العديدة (حيث يتم إنفاق حوالي 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي كميزانية عسكرية حالياً). وحتى نسبة 4% من الناتج المحلي الإجمالي قد لا تكون كافية؛ وفي حين أن نسبة 6% قد تكون كافية، فإن هذا سيكون ثمناً باهظاً، لدرجة تجعل المرء يتصور صراخ الاقتصاديين وأعضاء الكونجرس اعتراضاً على ذلك.
ومع أنها قد تكون فكرة سيئة، نادراً ما تمت مناقشتها من قبل، لكن ما الذي يمكن أن تفعله أي إدارة أمريكية في المستقبل إذا قررت الصين أن تنفق الكثير والكثير على التسليح؟ ماذا لو قرر زعيمها الأوتوقراطي شي جين بينغ أن الوقت قد حان بالنسبة للصين لتخصيص 5% أو أكثر من ناتجها المحلي الإجمالي المتزايد لقواتها المسلحة؟ إن مثل هذا السيناريو لم يكن موجوداً قبل نصف قرن، ولا يبدو أن أحداً في واشنطن يريد التحدث عنه.
وهذا يقودنا إلى التحول الثالث وعامل القوة الحاسم: وهو التحول في القوة الاقتصادية النسبية. لقد كان أكبر تحول عالمي منذ الثمانينيات في الحجم الهائل للاقتصاد الصيني اليوم مقارنة بالاقتصاد الأمريكي. ومهما كانت الأسئلة التي قد تُطرح بشكل صحيح حول القوة الاقتصادية للصين، مثل إحصاءاتها غير الموثوقة، وتقلص القوى العاملة في المستقبل وما إلى ذلك، فإن الحقيقة هي أنها لا تزال تنمو بوتيرة أسرع، سواء قبل أو بعد كوفيد-19. فالاقتصاد الصيني، الذي يقاس من حيث الناتج المحلي الإجمالي المعدل حسب القوة الشرائية، هو بالفعل يماثل اقتصاد أمريكا حجماً.
هذه الإحصائية مذهلة وتشير إلى حالة لم تكن موجودة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، عندما كان الاقتصاد الأمريكي يتفوق على الاقتصاد البريطاني. وخلال القرن العشرين بأكمله، كان الاقتصاد الأمريكي يفوق، تقريباً، بمعدل مرتين إلى أربع مرات اقتصاد أي من القوى العظمى الأخرى. وكان اقتصاد أمريكا يفوق بعشر مرات تقريباً اقتصاد اليابان عندما تعرضت بيرل هاربور للهجوم وأكبر من اقتصاد ألمانيا بثلاث مرات، عندما أعلن هتلر الحرب بتهور.
لكن هذه الحالة الفريدة من نوعها تنتهي ويحدث انعكاس مذهل في الشؤون العالمية بسبب المزيج من الحجم الديموغرافي والازدهار المتزايد الذي تحوزه الصين. فعدد سكانها يبلغ 1.4 مليار نسمة مقارنة بـ 330 مليون نسمة في الولايات المتحدة، ويحتاج مواطنوها فقط إلى تحقيق نصف دخل المواطن الأمريكي العادي حتى يصل إجمالي اقتصادها إلى الضِّعف. ومن شأن ذلك أن يمنح الصين مبلغاً هائلاً من الأموال للإنفاق على شؤون الدفاع في المستقبل. ولا يمكن لأي رئيس ديمقراطي أو جمهوري أن يفعل الكثير حيال ذلك.
وهنا، ستكون هناك بقوة حلقة أخرى في “صعود وسقوط القوى العظمى”. ربما يكون كل ما يحتاجه الرئيس الصيني شي إلى القيام به، على غرار دنغ، هو تجنب الزلّات وتهيئة الظروف لنمو اقتصاد الصين وقدرتها العسكرية، عقداً بعد عقد من الزمان. وهذا من شأنه أن يمثل التحدي الأكبر الذي قد تواجهه أمريكا على الإطلاق: حيث تكون هناك على الساحة قوة أخرى تكافئها حجماً.
.
رابط المصدر: