مقدمة
في مقالة في أواخر سبتمبر/أيلول 2022(1)، طرح الدكتور زياد بهاء الدين، نائب رئيس وزراء مصر الأسبق، عدة مآخذ على برنامج بيع الأصول الذي تبنَّته الحكومة المصرية منذ عدة أعوام، رغم تأييده لمجمل البرنامج، كجزء من محاولات تشجيع وجذب الاستثمار الوطني والأجنبي، الضروريين لزيادة الإنتاج والتشغيل والتصدير كأسس حتمية للتنمية.
وقد أشار الدكتور زياد إلى ثلاثة مآخذ رئيسية، أولها: توقيت البيع المتزامن مع، والمدفوع بـ، أزمة اقتصادية خانقة؛ تجبرنا على البيع بأسعار منخفضة غير عادلة، فيما ثانيها: غياب التنظيم الموحد والشفافية عن عمليات البيع، بما تخلف حتى عن برامج الخصخصة السابقة فترة مبارك، أما ثالثها فهو عدم تشجيع مشاركة القطاع العائلي المصري(2) بشراء هذه الأصول، بل التوجه بالأساس إلى المستثمرين الأجانب.
ورغم أهمية المآخذ الثلاثة المطروحة ضمن أفق اقتصادي تقليدي مؤيد للخط العام للسلطة الحاكمة، فإنها تظل مآخذ عرضية على هامش المشكلة؛ بالنسبة إلى كامل السياق الذي تجري ضمنه عملية بيع الأصول، بما يشمله من دوافع وتصورات، والواقع أن مسألة “بيع الأصول” تمثل نقطة التقاء وتقاطع معقدة بين العديد من الإشكالات والأطراف.
فمن جهة، تبرز إشكالات الأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة التي تعانيها مصر منذ عدة سنوات، بروافعها الهيكلية والمؤسسية، وما يتساوق ويترادف معها، من جهة ثانية، من برامج وإملاءات يفرضها صندوق النقد الدولي، بما وراءه من قوى دولية وأجندات اقتصادية وأيديولوجية، استغلالًا لسياق -وبدعوى معالجة- الوضع الاقتصادي المأزوم لبلد مدين، فيما يشتبك معهما من جهة ثالثة المصالح الاقتصادية والسياسية للأطراف الإقليمية والدولية -وحتى المحلية- التي تتعامل معها الحكومة المصرية.
يظهر الجانب الأخير خصوصًا في هيمنة بعض دول الخليج، تحديدًا السعودية والإمارات حليفتي وداعمتي النظام المصري منذ 30 يونيو/حزيران 2013، على أغلب مشتريات الأصول المصرية(3)، ما يلتقي فيه، من جهة، الدعم السياسي(4) للأخير كما ظهر بوضوح في حجم وتوقيت صفقة رأس الحكمة التي اشترتها الإمارات (فيما يشبه لحظة إنقاذ سينمائية!)، وما يشاع عن صفقة مماثلة مع السعودية تخص منطقة رأس جميلة، كما يظهر من جهة أخرى في المصالح الاقتصادية والتجارية لهذه الدول، أولًا: بالحصول السهل على أفضل الأصول الرابحة(5) بأسعار استثنائية بخسة(6) في ظل وضع التأزم المالي وتدهور قيمة الجنيه(7)، وثانيًا: بالسيطرة على شركات وقطاعات حيوية(8) وتعزيز حصصها السوقية فرصها الاحتكارية بمصر(9)، كما قيل عن صفقات قطاع الأسمدة بالخصوص(10)، وكما ظهر فيما أُجري خصيصًا من تعديلات قانونية لتسهيل نقل الأصول التاريخية والأراضي الصحراوية وغيرها(11).
والحق أنه لا لوم على المساعي المشروعة لأي مستثمر في سعيه وراء مصالحه الربحية، بما تقتضيه من محاولاته تعزيز حصصه السوقية في القطاعات المختلفة والحصول على أثمن الأصول بأقل الأسعار وأفضل الشروط، بل يقع اللوم كله على صاحب الشأن الذي تبنى من السياسات وارتكب من الأخطاء ما أدى به إلى هذه الورطة؛ ثم لجأ بسببها إلى حلول تعمِّق ورطته الأصلية لا تحلها؛ لمجرد تأجيل الأزمة التي خلقها، أو فاقمها على الأقل، وشراء بعض الوقت حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا!
ولا تنشغل الورقة الحالية بما تتضمنه عملية بيع الأصول من مآخذ إجرائية أو إشكالات تنفيذية، رغم اتصالها المعتبر بمجمل السياق الذي أدى إليها؛ لذلك تبدأ بتحليل السياق الذي أدى بمصر إلى بيع أصولها، بما يشمله من تداخل ما بين الملابسات والأخطاء الداخلية والدوافع والقوى الخارجية، وكيف تتموضع ضمن برامج الاستعباد المالي والهيمنة الخارجية التي يقودها صندوق النقد الدولي، وعلاقتها بالجوانب الأخرى الأساسية بهذه البرامج، ثم مناقشة لاقتصاديات بيع الأصول، من جهة المكاسب من البيع مقابل الخسائر الناتجة عنه، لتنتهي بوضع المسألة في سياقها الأشمل من لقاء مصالح ما بين صندوق النقد الدولي، وكيل الدائنين والرأسمالية المالية العالمية، ورأسماليات المحاسيب العالمثالثية بأنماط تراكمها البدائي وميولها الاحتكارية.
أصول اقتصاد مصر: سياق الأزمة وبيع المضطر
لم تصل مصر إلى وضع “بيع المضطر” الذي تعانيه حاليًّا تجاه أصولها في يوم وليلة، بل هو نتيجة طبيعية لوضع اقتصادي متزايد التأزم بسبب مجموعة متنوعة من الأسباب والسياسات يمكن جمعها تحت عنوانين عريضين يمثلان جذر وسياق الأزمة، هما: الميراث الهيكلي غير التصنيعي لنموذج الانفتاح الساداتي الذي تبنَّته مصر منذ أواسط سبعينات القرن الماضي، والبنية المؤسسية للنموذج التنمو-سياسي الذي اتخذته مصر طوال العقد الأخير، بما اتسم به من تناقضات اللبرلة الاحتكارية المحاسيبية بقيادة بيروقراطية سلطوية.
ولئلا نعيد الإسهاب فيما سبق وتناولناه مرارًا في مواضع سابقة عن الأزمة الهيكلية للاقتصاد المصري عمومًا(12)، وملابسات تفاقمها وتعقدها المتزايد بالأزمة المؤسسية في العقد الأخير خصوصًا(13)؛ نكتفي هنا بالإشارة الموجزة العاجلة للملامح والنتائج الرئيسية للعنوانين المذكورين مما له صلة بموضوع الورقة، من تأزم للتوازن الخارجي والوضع المالي بما أجبر البلد على اللجوء إلى صندوق النقد ابتداء، والخضوع لإملاءاته ومن بينها بيع أصولها انتهاء.
فأما عن الأزمة الهيكلية لنموذج الانفتاح الساداتي، فهى في عجزه الخارجي المزمن بتجاوز وارداته الأزلي لصادراته، بما تراوح ما بين الضعفين إلى ثلاثة أضعاف متوسطًا عامًّا طوال خمسة العقود الأخيرة؛ نتيجة ركود الصناعة التحويلية وتخلف التنويع الاقتصادي؛ الأمر الذي تعزز بإصابة الاقتصاد بالمرض الهولندي بفعل تدفقات النقد الأجنبي الريعية من تحويلات عاملين بالخارج وصادرات نفطية ومساعدات وقروض ..إلخ؛ بما مال بالاقتصاد أكثر إلى جانب الأنشطة الريعية على حساب القطاعات الإنتاجية؛ فأضعف قدرته التصديرية بدرجة أكبر؛ وجعله أكثر اعتمادًا في سد عجزه الخارجي على تلك التدفقات الريعية الهشة والمتقلبة، بل والمتراجعة كاتجاه عام في الأجل الطويل (مقارنة بالحاجات المتزايدة والنمو الطبيعي لحجم السكان والاقتصاد)(14)؛ بما يفسر جزءًا من تفاقم التأزم الخارجي والمالي؛ ومن ثم التدهور المزمن للجنيه المصري(15).
أما الأزمة المؤسسية، فتتمثل في النموذج التنمو-سياسي الذي تبنَّته الإدارة المصرية طوال العقد الأخير، والذي سرَّع وتيرة التأزم والتدهور بدرجة غير مسبوقة (لم تكن حتمية أو ضرورية بأية حال)، بلجوئه للاقتراض المفرط والاستهلاك غير الرشيد للقروض الخارجية والموارد المحلية في مشروعات قومية وبنية تحتية ضخمة محدودة وبعيدة المردود الاقتصادي(16)، وعلى رأسها، ودُرَّة تاجها، العاصمة الإدارية الجديدة التي كلفت 60 مليار دولار معلنة فقط -ودون أي عائد واضح- حتى الآن؛ بما كان ثمنه ركود معدلات النمو الحقيقية والتضخم الهائل في عجز الموازنة العامة، فضلًا عن التراجع الشديد في سعر صرف الجنيه والقوة الشرائية للمواطنين ومستوى معيشتهم خلال ثماني سنوات فقط.
وما زاد الطين بلة، وكجزء من الديناميات التقليدية لتغذية الضعف لذاته، يؤدي هذا العجز المزمن، مع الاقتراض والإدارة غير الرشيدين، إلى اللجوء إلى “وكيل الدَّيَّانة العالمي”، صندوق النقد الدولي؛ ليعطي البلد قروضًا ليست حقيقية؛ فقروضه بحدِّ ذاتها محدودة الحجم وموزعة على دفعات صغيرة لا تقدم ولا تؤخر، بل تكمن أهميتها فيما تتضمنه من شهادة اعتماد عند المستثمرين والدائنين ومؤسسات الائتمان الدولية، وإن كان بثمن نوعي من سياسات البلد، ضمن مشروطيته الشهيرة، التي يأتي على رأسها إجراءات كتحرير أسعار الصرف والفائدة والسلع المختلفة (بما يؤدي لارتهان السياسة النقدية للخارج)، وتخفيض كافة أشكال الدعم والإنفاق الاجتماعي (بما يضعف قوة العمل ورأس المال البشري)، وإتاحة الأصول الوطنية للبيع (بما يسمح بالهيمنة الخارجية على قطاعات الاقتصاد الوطني وتغول رأس المال المالي العالمي عليه)؛ بما يعزز بمجموعه حالة التبعية للخارج، والتي تزداد أهميتها بشكل خاص في حالات البلدان المهمة إستراتيجيًّا كمصر.
وهكذا يتكامل الداخلي والخارجي لقيادة الاقتصاد إلى وضع يزداد تعثرًا؛ ويزداد معه البلد اضطرارًا للتنازلات، لكن يظل الداخل هو نقطة البدء في هذه التفاعلات بالتأكيد، ففي ظل الأزمتين، الهيكلية والمؤسسية، المذكورتين، أولًا: فشل التصنيع والانحراف الريعي المقيدين للإنتاج والضرائب والتصدير من جهة، وثانيًا: المحاسيبية البيروقراطية بما أنتجته من نموذج تنمو-سياسي يقوم على توليد الريوع من الموازنة العامة وتحويل الموارد عبر المشروعات القومية بدعم من جباية عامة غير طوعية من جهة أخرى؛ يصبح النمو الإنتاجي والاقتصادي بعمومه أضعف فأضعف، وتوليد الموارد المالية والنقد الأجنبي بالقدرات المحلية أقل فأقل، كما يصبح جذب الاستثمار الأجنبي أصعب فأصعب.
وفي هذا السياق، يبدو بيع الأصول الحل الوحيد العاجل لجذب الاستثمار والنقد الأجنبي، لكنه خلافًا لخسائره المباشرة المعروفة، فضلًا عن عدم عدالة عوائده أغلب الوقت بحكم البيع الاضطراري في سياق تعثر مالي، فإنه في سياق كالسياق المصري خصوصًا غالبًا ما يجذب فقط نوعين خاصين جدًّا من الاستثمار الأجنبي، هما: الاستثمار المسيس و/أو الاستثمار الانتهازي؛ باعتبارهما النوعين الأكثر قدرة على التكيف مع السياق المؤسسي الاحتكاري الذي يكرسه تحالف المحاسيبية البيروقراطية الذي لا يرغب في التنازل عن امتيازاته الاقتصادية وأولوياته الاستقرارية التي تسبب نفور الاستثمار العادي، أجنبيًّا أو حتى محليًّا(17).
والفارق بينهما أنه بينما يمكن للثاني، العادي، غير المسيس ولا الانتهازي، بميله للمناخ الاقتصادي العادل القائم على حكم القانون وباستقدامه أصولًا جديدة وتنميته للقطاع الإنتاجي الوسيط، المساهمة ببناء اقتصاد حقيقي قادر على الإنتاج والتشغيل والتصدير، يعجز الأول باقتصاره الاحتكاري على الاستيلاء على رؤوس القطاعات الناجحة بالفعل عن تحقيق نفس النتيجة، خصوصًا أنه نادرًا ما يضيف أي أصول جوهرية جديدة للاقتصاد(18)؛ فلا يعدو صافي أثره الخصم الآجل -وليس الآجل كثيرًا على أية حال(19)- من تدفقات النقد الأجنبي المستمرة التي كانت البلد تحققها من صادرات هذه القطاعات لصالح الملاك الجدد -أو لحصة منها على الأقل-، لأجل تدفقات نقدية عاجلة لمرة واحدة مستنزفة مسبقًا في سداد أقساط الديون التي لم يكن هناك داع حقيقي لها، ولم توضع في أفضل استخداماتها الاستثمارية من الأساس، ناهيك عن أن تحقق تدفقات نقد أجنبي بديلة تعوض ما خسرته البلد ببيع أصولها التصديرية المربحة.
مصيدة الديون: بيع الأصول كمحطة ضمن برامج الاستعباد المالي
كانت نتيجة كل ذلك دخول مصر في حلقة مديونية خبيثة تجبرها على الاستمرار بالاقتراض الخارجي والداخلي معًا؛ ومن ثم اللجوء المتكرر إلى صندوق النقد الدولي، باشتراطاته وإملاءاته النيوليبرالية المحفوظة، فضلًا عن الخضوع الحتمي لمطالب ومطامع الدائنين وفاء لاستحقاقاتهم، ومع العجز عن السداد؛ كان بيع واستبدال الأصول الحل السحري لإنقاذ الموقف قبل انهيار كامل الثقة في الاقتصاد، وربما الاضطرار لإعلان العجز عن السداد في أسوأ السيناريوهات احتمالًا؛ الأمر الذي برزت بوادره إبان فترة الصعود السريع لسعر صرف الدولار مقابل الجنيه بالسوق السوداء إلى أكثر من ضعف نظيره الرسمي بالبنوك أوائل العام الحالي، ولم يوقفه سوى أخبار صفقة رأس الحكمة الضخمة.
ومع هذه الحلقة المفرغة، أصبح البلد ليس فقط بحاجة لاقتراض مستمر لتلبية حاجاته، بل أصبحت القروض والمديونية تغذي نفسها بنفسها، بما يُعرف بـ”مصيدة الديون”؛ حيث يأتي قدر من القروض الجديدة ليذهب فورًا لسداد أقساط قروض أخرى قائمة بالفعل، أو تتزامن دفعات القروض الجديدة مع أقساط سداد القديمة بصاف صفري أو حتى سلبي بالكامل، كالدفعة التي دفعتها مصر لصندوق النقد بمبلغ 845.3 مليون دولار خلال شهر مايو/أيار الماضي(20)، بينما كانت تنتظر في ذات الوقت استلام دفعة 820 مليون دولار من القرض الجديد -البالغ ثمانية مليارات دولار- مع الصندوق خلال شهر يونيو/حزيران الماضي(21)، والتي تأجلت بتأجيل المراجعة الثالثة للصندوق إلى نهاية يوليو/تموز الجاري (إحدى آلياته للضغط على الحكومات للالتزام بمطالبه)(22)، وبشكل عام ستسدد مصر لصندوق النقد (6.08 مليارات دولار) ما يجاوز ضعف ما ستتلقاه منه (2.94 مليار دولار) خلال كامل عام 2024(23).
وهذه الحلقة المفرغة ليست شيئًا مما يحدث على سبيل الصدفة، فبخلاف سوء الإدارة المالية لحكومة “الدروس المستفادة”، بينما تكرر أخطاءها بثبات لا يثير الإعجاب، كذا بخلاف العقبات الهيكلية والمؤسسية سالفة الذكر، فإن برامج الصندوق ذاتها بما تتضمنه من إجراءات نقدية ومالية، لا تلائم واقع الاقتصادات العالمثالثية عمومًا، ولا تنطلق أساسًا من أولوياتها الحقيقية؛ لا تقدم حلولًا أو نتائج جادة على صعيد ما تدَّعي استهدافه، والتجارب والخبرات العالمثالثية في ذلك المجال أكثر من أن تُحصى.
بل إن كثيرًا من الآراء تميل لاعتبار صندوق النقد وما شابهه مجرد تنظيمات هيمنة أقرب للتآمر العمدي منها للمساعدة القاصرة -لكن- حسنة النية(24)، ما تدعمه ملاحظة آرنست فولف(25) من منح الصندوق قروضًا عالية المخاطر لبلدان يعلم جيدًا مدى سوء أوضاعها المالية والاقتصادية وعدم قدرتها المزمنة على سداد التزاماتها؛ ليس عن دوافع خيرية بالتأكيد، بل لاستدراجها لفخ المديونية؛ لتمكين الرأسمالية المالية الدولية من الحصول على تنازلات منها ما كانت ستقدمها أبدًا في الظروف العادية، وما بيع مصر المتصاعد لأصولها المالية وأراضيها الوطنية سوى أحد تجليات هذه الممارسات التقليدية للصندوق، الذي كان يصل لحد التنازل عن قروضه لهذه البلدان إذا ما ضمن التزامها باشتراطاته على أصعدة السياسات الاقتصادية -وغير الاقتصادية- المختلفة.
لا عجب مع هذه الحلقة المفرغة من استمرار وتكرار الأزمات رغم البرامج المتتالية التي عقدتها مصر مع الصندوق خلال عقد واحد، حتى إن مجلة الإيكونوميست البريطانية قد سجَّلت في خلاصة تقرير لها عن الاقتصاد المصري أوائل العام الماضي 2023(26)، أن مصر عادت لتقف حيثما كانت عام 2016، عندما توصلت لاتفاق مع صندوق النقد بمبلغ 12 مليار دولار، وبعدما طبقت بعض الإصلاحات النقدية كتعويم العملة، والمالية كخفض الدعم وتطبيق ضريبة القيمة المضافة، وغيرها من إجراءات، فيما تجاهلت -بالطبع- التغييرات الهيكلية الضرورية لجعل الاقتصاد أكثر تنافسية، وجدت نفسها، أوائل عام 2022، تعود إلى نفس وضع الأزمة ونضوب الاحتياطيات الأجنبية واضطراب سعر الصرف وغيره؛ مع هروب الأموال الساخنة، التي كان قدومها -بأسعار فائدة مرتفعة- أحد “نجاحات” برنامج صندوق النقد في جعل الاقتصاد أكثر جاذبية للاستثمار الأجنبي، والتي كانت تتفاخر بها الحكومة كإنجاز يدل على ارتفاع درجة الثقة بالاقتصاد المصري.
أما جوهر الأمر، على مستوى منطق البرامج نفسها، فهو تضمن التطبيق الفعلي لبرامج الصندوق في السياقات العالمثالثية لخليط نقدي متفجر، يجعلها برامج للتأزم النقدي والمالي المتزايدين؛ ومن ثم اللجوء المتكرر له بقروض وشروط جديدة؛ بما يعزز حالة الحلقة الخبيثة للمديونية والمفرغة لخفض العملة ورفع أسعار الفائدة والضرائب وتحرير الأسعار وخفض الدعم وبيع الأصول الوطنية ..إلخ.
ويبدأ هذا الخليط من “الثلاثية المستحيلة” الشهيرة، التي يفرضها الإجبار على تحرير حركة رؤوس الأموال (كأحد أركان الأيديولوجية النيوليبرالية وهيمنة رأس المال المالي العالمية التي يقودها صندوق النقد الدولي)؛ حيث لا يمكن الجمع بينه وبين سعر صرف مستقر وسياسة نقدية مستقلة في ذات الوقت، بل يشترط الأمر التضحية بأحد الثلاثة لأجل الاثنين الآخرين.
وهكذا، فمع تثبيت حرية حركة رأس المال، وحتمية حفاظ البلد على نطاق معين على الأقل لسعر الصرف؛ لما لذلك من ضرورة لاستقرار المعاملات وجذب الاستثمارات…إلخ؛ فإنها تضطر للتضحية باستقلال سياستها النقدية، والإبقاء على أسعار فائدتها المحلية مرتفعة لجذب رؤوس الأموال أو على الأقل منعها من الخروج من البلد؛ ما تكون نتيجته ليس فقط تثبيط الاستثمار الإنتاجي نتيجة ارتفاع تكلفة رأس المال، بل كذلك جذب الأموال الساخنة التي ترفع درجة الهشاشة الاقتصادية للبلد(27)، بتحركاتها وتقلباتها السريعة، مع محدودية فائدتها الاقتصادية كاستثمار غير إنتاجي الطابع بالأساس.
من جهة أخرى، تجبر تدفقات النقد الأجنبي هذه الحكومة(28) على إصدار نقد محلي مقابلها؛ ما يزيد المعروض من السيولة المحلية ويرفع معدلات التضخم، التي تسهم بدورها في إضعاف تنافسية الاقتصاد وقدرته التصديرية، كما تخلق حال ضخامتها، كما حدث مع موجات المساعدات والقروض الضخمة طوال العقد الأخير، بعض أعراض المرض الهولندي من تشوه الأسعار النسبية وتخصيص الاستثمارات وتقلص التصنيع وتعطل الطاقات الإنتاجية وانكماش نشاط القطاع الخاص؛ بما يفاقم بمجموعه مشكلة العجز التجاري والخارجي ويعقِّد إمكانات معالجتها، المستهدفة ببرامج الصندوق ابتداء، بل ويضيِّع في النهاية، نتاجًا لكل ما سبق، خصوصًا ارتفاع التضخم، المزايا القليلة لخفض العملة السابق؛ برفعه سعر الصرف الفعلي الحقيقي(29)، فتعود البلد إلى وضع يتطلب برنامجًا جديدًا مع صندوق النقد، بخفض جديد لسعر الصرف الاسمي وبمزيد من خفض للإنفاق الاجتماعي وبيع لمزيد من الأصول؛ لمعالجة أوضاع عدم التوازن الخارجي والداخلي.
رباط غير مقدس: انهيار العملة وبخس الأصول
في هذه الحلقة الخبيثة من المديونية المتزايدة وخفض سعر الصرف وبيع الأصول المستثمرين، يتبدى رباط غير مقدس جوهره ما يؤدي إليه الخفض المستمر للعملة الوطنية من بخس متزايد لقيم الأصول المحلية (وحتى قيمة قوة العمل والإنسان بعمومه، لكنه ليس موضوعنا هنا على أية حال)؛ ومن ثم جعلها أرخص للأجانب حائزي العملات الأكثر قوة، التي تضاعفت قوتها الشرائية داخل الاقتصاد المحلي بين ليلة وضحاها؛ لا عجب في إلحاح الصندوق المتكرر على التعويم الكامل للجنيه دون أي قيود(30)، رغم إقراره في إصدارات سابقة له هو نفسه -في صحوة ضمير استثنائية على ما يبدو- بصعوبة وعدم توافر مقومات وشروط التعويم الكامل في، وخطورته على، الاقتصادات النامية أو بالأحرى أغلب اقتصادات العالم، بل وذكر مصر على وجه التحديد كإحدى حالات التراجع الاضطراري عنه، عام 2003، عندما كانت في وضع أفضل كثيرًا مما هي عليه اليوم(31).
هذا الرباط هو مما يسهِّل الهيمنة الخارجية على الاقتصاد الوطني بأقل التكاليف وأيسر الأعباء، كما يزيد من القناعة بعدم براءة برامج صندوق النقد الذي يقود الضغوط على مصر لبيع الأصول وتصفية أي دور اقتصادي للدولة (الذي ليس كله شرًّا كما يُصوَّر الأمر بالأدبيات الليبرالية)؛ كجزء من برامجه النيوليبرالية التي لا تبالي بالاستقلال الاقتصادي، بل تعمد في حقيقة الأمر لانتهاكه بكل السبل لأجل تعميم وتعميق هيمنة رؤوس الأموال السائلة والجائلة حول العالم على الاقتصادات المختلفة؛ بما يعمِّق تبعيتها ويسهِّل نزح فوائض القيمة منها إلى المراكز الرأسمالية، كما هو مقدر ومقرر خصوصًا للبلدان الطرفية -كمصر- في النظام العالمي.
وبالطبع ليس أفضل ولا أقرب في الحالة المصرية من رؤوس الأموال الخليجية، التي تتداخل في حركتها بمصر الاعتبارات السياسية كما الدوافع الاقتصادية، فضلًا عن الجوانب الإستراتيجية من أواصر أخوة ووحدة مصير، بمعنييها الإيجابي (المصالح الإقليمية لشعب عربي واحد موزع بين وحدات سياسية مختلفة) والسلبي (كتحالف استقرار استبدادي بين الأنظمة العربية المحافظة)، وإن ظل التحفظ قائمًا على الميل الاحتكاري نتاج تركز أغلب تلك الاستثمارات ما بين دولتين فقط، الإمارات والسعودية؛ الأمر الذي لا ينفصل عن الطبيعة المسيسة لهذه الاستثمارات، وخلفية بعضها كودائع لم تستطع مصر ردها في وقتها؛ ومن ثم خطورتها على القرارين، الاقتصادي والسياسي، المصري، فضلًا عن عدم استدامتها أو استقرارها بارتفاع المكون السياسي في منطق تحركاتها وبنية قراراتها.
ومن الجدير بالذكر، أنه لا يُستبعد استغلال بعض الجهات والفئات المصرية(32) النافذة لهذه الفرص الاستثنائية، بالمشاركة غير العلنية عبر واجهات ظاهرية وشراكات خفية في شراء هذه الأصول الثمينة، في ظل ستار السرية وعدم الشفافية المضروب على أغلب صفقات البيع؛ بما يتضمنه ذلك من تضارب مصالح وأبواب إضافية للفساد، ربما تجاوزت ما شاب صفقات الخصخصة القديمة فترة مبارك؛ والأسوأ، بما يشمله من جعل بعض القوى والفئات المحلية النافذة شريكًا أصيلًا، وحليفًا للقوى الخارجية، ذا مصلحة مباشرة في استمرار هذا الرباط غير المقدس؛ للاستفادة مما يتيجه من فرص تحويل الأصول العامة المملوكة للشعب إلى ثروات خاصة بأبخس الأثمان.
الاقتصاديات غير الرشيدة لبيع الأصول: موارد مالية عابرة مقابل رهن مقدرات إستراتيجي
على صعيد المكاسب والخسائر من بيع الأصول، لا يبدو الأمر مبشرًا ولا منطقيًّا، فمبنطق تنموي بحت، وبعيدًا عن أي مواقف أيديولوجية، ليبرالية كانت أو اشتراكية، لا تمتلك الدول العالمثالثية ذات الرأسماليات المتأخرة كمصر رفاهية الاعتماد الحصري على القطاع الخاص، في القطاعات الإستراتيجية والصناعات الأكثر ثقلًا وتقدمًا فنيًّا خصوصًا؛ فهذا لم يحدث حتى في أعتى الرأسماليات الغربية في بواكير نشوئها، بل كانت الدولة دومًا داعمًا مهمًّا ومشاركًا مباشرًا في دعم صناعاتها الناشئة، حتى في أكثر أشكالها ليبرالية(33)، ويزداد الأمر أهمية في السياق التاريخي الحالي حيث يحتاج الاقتصاد الوطني لدور قوي للدولة لإرساء رؤوسه القطاعية الإستراتيجية لضمان صموده في وجه المنافسة العالمية الحادة، ولضمان حدٍّ أدنى من أساسيات إعادة إنتاج الاقتصاد الوطني، حتى يشتد عوده ويكون قادرًا على إنتاج السلع الإستراتيجية الضرورية لهذا الغرض، ولا يغير من هذه الحقيقة الانحرافات المؤسسية التي تعانيها مصر حاليًّا من تغول البيروقراطية على الاقتصاد بكافة أشكال المحاسيبية والريعية والفساد؛ فهذا انحراف عابر يمكن -ويجب حتمًا- مواجهته ومعالجته، لكن قيادة الدولة لبعض القطاعات الإستراتيجية لاقتصادها الذي لا يزال عاجزًا -بقطاعه الخاص الضعيف القائم- عن التطور والنمو المستقل تمثل حتمية لا مفر منها.
وهكذا، فبيع هذه الأصول الإستراتيجية، خصوصًا الشركات المهمة في قطاعات أساسية كالأسمدة والمعادن وما شابه، ناهيك عن خسارة أرباحها التي ستُحوَّل إلى الخارج، يمثل خسارة نوعية للبلد من جهة انتقال الهيمنة على حصص مهمة من هذه القطاعات الإستراتيجية إلى أيد أجنبية، ستكون أولويتها الربحية الضيقة أسبق من المصلحة الاقتصادية الوطنية حتى في أوقات الأزمات، فضلًا عن ضررها المحتمل -بتأثيرها في القرارات- على القطاعات والفئات ذات العلاقات والتشابكات الأمامية والخلفية معها(34)، ويصبح الأمر أخطر بكثير عندما ينتقل من نطاق الشركات المهمة إلى المرافق الإستراتيجية كالموانئ والمطارات وما شابه.
هذا على صعيد الخسائر، التي نراها كلها خسائر إستراتيجية مستمرة، كما هو واضح، أما على صعيد المكاسب، فكلها لا تعدو بعض الموارد المالية العاجلة لمرة واحدة، ستتبخر في الثقب الأسود للمالية العامة المصرية، بديونها وإنفاقها الجاري وحتى مشروعاتها القومية، شأنها شأن تريليونات الجنيهات ومليارات الدولارات التي استنزفتها الحكومة المصرية في العقد الأخير وحده، منهية إياه بكشف حساب سلبي -رغم ذلك- من تضاعف للديون والضرائب والأسعار، وانخفاض للدعم والإنفاق الاجتماعي وسعر الصرف، مع أزمة اقتصادية متزايدة الحدة؛ وهكذا فذروة انعدام المنطق هي استخدام بيع الأصول كآلية لتوليد موارد مالية للإنفاق الجاري وسداد الدين العام؛ لمجرد شراء بعض الوقت لتأجيل الأزمة.
لهذا لا توحي مقارنة مكاسب بيع الأصول بخسائرها بأية رشادة، بل إن التعاطي بكلمات كالرشادة والجدوى في هذا السياق ليس سوى حسن نية يبلغ مرتبة البلاهة، فحتى بالاكتفاء بحسابات المكاسب والخسائر الكمية البحتة، لا يعقل -على سبيل المثال لا الحصر- أن مبلغ الـ 25 مليار جنيه أو أقل من نصف مليار دولار عوائد سنوية مستهدفة من بيع الأصول المملوكة للدولة، المعلن عنها ببرنامج “لجنة تصفية الأصول” المصدر قرار بتشكيلها شهر يوليو الجاري(35)، يمكن أن يسهم بأي شكل معنوي في خفض الدين العام لدولة يعادل دينها العام المحلي وحده 6.86 تريليونات جنيه في الربع الأول من العام الماضي 2023(36)، وبلغت موازنتها العامة الأخيرة للعام المالي 2024/2025 حوالي 6.4 تريليونات جنيه أو ما يعادل 135.39 مليار دولار(37)، وعليها التزامات بديون خارجية تجاوز الـ 150 مليار دولار (بعد الانخفاضات الكبيرة الأخيرة بأكثر من 14 مليار دولار)؛ فتفاهة المبلغ المذكور مقارنة بالهدف المعلن، تؤكد أن عوائد بيع الأصول، وخفض الدين العام بالطبع، ليست الأهداف الحقيقية هنا، بل نقل ملكية الأصول نفسها؛ ما يعيدنا إلى فرضية سوء النية والفئات المستفيدة سالفة الذكر.
وبشكل ما، يشبه الأمر جرعات الخصخصة السابقة، التي جرى فيها تعمد دفع أغلب شركات القطاع العام للخسارة تبريرًا لبيعها، ثم بيع أفضل الشركات وأكثرها ربحية عند التنفيذ. الفارق هذه المرة، أولًا: أن المبررات لا علاقة لها بأداء الأصول نفسها على الإطلاق؛ بل لعلاج أزمات تسببت بها سياسات الحكومة نفسها، وثانيًا، والذي يفسر أولا، الفضفاضية غير المحدودة في تعريف الأصول، بدرجة تكاد تتسع لتشمل كل شيء تقريبًا حتى الموانئ والمطارات والمعالم الآثرية، بل وصل الأمر بالكثيرين إلى القلق بشأن قناة السويس نفسها(38)، وهو القلق المشروع بالنظر لحجم الديون الخارجية والأعباء المالية التي لن تحلها سوى صفقات أصول بنفس مقياس رأس الحكمة أو ما يقاربها؛ الأمر الذي يفسر تلك الفضفاضية في تحديد مفهوم الأصول.
خاتمة: “لقاء اللئام” بين صندوق النقد ورأسماليات المحاسيب العالمثالثية
بجمع أطراف الصورة، نجد أن بيع الأصول ليس سوى الحلقة الأخيرة في مسلسلين متكاملين، يمثلان مستويين متراتبين وزوايتين مختلفين للواقع الاقتصادي المصري، هما:
أولًا: في مستوى الاقتصاد البحت: تتجلى أزمة الاقتصاد المصري التنموية كاقتصاد متخلف تصنيعيًّا ومتضخم خدميًّا ومنحرف ريعيًّا؛ ومن ثم عاجز عن التصدير ويعاني من عجز تجاري ومالي مزمن؛ يتعزز بسوء إدارة مالية واقتصادية، تؤدي مجتمعة لتأزم مالي واختلال خارجي مستمر يجبر البلد حاليًّا على قبول اشتراطات الدائنين بقيادة صندوق النقد، والتخلي عن بعض أصوله لسداد جزء من ديونه، ضمن برنامج أشمل لتحرير -أو بالأحرى استتباع- الاقتصاد.
ثانيًا: في مستوى الاقتصاد السياسي: يتجلى “لقاء اللئام” ما بين رأس المال المالي، مجسَّدًا في صندوق النقد الدولي ومن ورائه الدائنون ومستثمرو الأزمات من ناحية، ومنظومة المحاسيبية البيروقراطية المصرية من ناحية أخرى، بأنماط تراكمهما المختلفة، الأمولة الرأسمالية والتراكم البدائي، ليجتمعا سويًّا -كل بطريقته- على استخلاص مكامن الثروة من البلد الفريسة محدودة منافذ التراكم (للأسباب الهيكلية المتجذزة في المستوى الأول)(39)، فبينما تستغل الثانية المالية العامة للدولة والقروض الخارجية لتوليد الريوع وتحويل الموارد العامة إلى مكاسب خاصة لدوائر المحاسيبية عبر قناة المشروعات القومية محدودة الجدوى، ضمن نموذج تنمو-سياسي فصَّلناه في موضع سابق(40)، يأتي الأول على وقع وأثر الأزمات الناتجة عن ذلك النمط غير المستدام؛ لفرض إملاءات تعمِّق الهيمنة المالية وتسهل الاستيلاء المباشر على مفاصل ومقدرات الاقتصاد، وما الإجبار على بيع أصول البلد الثمينة بأبخس الأثمان سوى أحد وجوه وقنوات نقل الثروة الوطنية إلى رعاته وأتباعه بفائض قيمة -كامن- مجز.
ويعني ما سبق أن بيع الأصول ليس فقط بابًا لنهب جانب من الثروة الوطنية والهيمنة الأجنبية على مفاصل الاقتصاد المصري، بل هو كذلك، بما يولده من عوائد، وسيلة لشراء الوقت لنمط اقتصادي/تنمو-سياسي غير مستدام من الأساس(41)؛ ليستمر لوقت أطول دون تغيير في جوهره أو حلول حقيقية للأزمات؛ بما تدفع ثمنه الأجيال القادمة مرتين، مرة بغمطها حقها في تلك الأصول، ومرة أخرى باستمرار أضرار ذلك النمط ونهب مستغليه لوقت أطول.
من جهة أخرى، على مستوى أكثر قيمية وتجريدًا، تمثل خسارة الأصول هذه -فالأمر بسياقه كسداد ديون أقرب لخسارة رهن لا بيع حقيقي- درسًا تاريخيًّا عمليًّا لمصر، حكومة وشعبًا، وبالطبع “حكومة” قبل “شعبًا”، في أهمية احترام المنطق العلمي ودراسات الجدوى، فمخالفة أصول الاقتصاد النظرية تؤدي بك إلى خسارة أصوله الحقيقية.
المصدر : https://studies.aljazeera.net/ar/article/5991