- مع أن العديد من التقديرات الإيرانية تؤكد أن سياسة إيران الخارجية، بما في ذلك توجهاتها الإقليمية، لن تتأثر كثيراً بغياب رئيسي وعبداللهيان، إلا أن افتراض عدم حدوث أي تغيير على صعيد السياسة الخارجية الإيرانية، يظل تصوُّر اً يفتقر للواقعية.
- من المتوقع أن تشهد أولويّة “سياسة التجاور” في سياسة إيران الخارجية تجاه المنطقة العربية تراجُعاً، مع إبقاء التركيز على سياسة دعم الميليشيات والتنظيمات الموالية على الساحة الإقليمية، كما يتوقع تقليص صلاحيات وزارة الخارجية لصالح مؤسسات سيادية أخرى.
- التطورات المحتملة بشأن الملف النووي الإيراني، وموازنة العلاقات بين روسيا والصين، تبقى رهناً بتركيبة الفريق الحكومي الجديد، والذي سيُشير بدوره إلى تفضيلات النظام الجديدة.
أجمع المراقبون المحليُّون في إيران على أن حادث تحطُّم المروحية الرئاسية، التي أقلَّت الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته حسين عبد اللهيان ومسؤولين آخرين في 19 مايو، ترك فراغاً كبيراً في المشهد السياسي، بسبب إقصاء أحد أهم المنافسين في سباق خلافة المرشد الأعلى، واختلال التوازن الحَذِر بين القوى السياسية داخل بيت المحافظين. وبخلاف هذا الإجماع حول تداعيات الحادث على الداخل، اختلف المراقبون حول أثره في السياسة الخارجية الإيرانية. وتعود أسباب هذا الخلاف إلى طبيعة هذه السياسة، والمؤسسات المتعددة التي تؤدي دوراً في صناعتها، وتنفيذها.
أثر الحادث في السياسة الخارجية: تقديرات متباينة
إن حدوث خلل أو تغيير كبير في السياسة الخارجية الإيرانية نتيجة رحيل الرئيس الإيراني ووزير الخارجية، وفقاً للعديد من التقديرات الإيرانية، يظل أمراً غير واقعي، وذلك لعدة أسباب:
1. يؤكد البعض أن غياب وزير الخارجية الإيراني المفاجئ لن يترك أثراً ملحوظاً لأن إيران دولة مؤسسات، ولا تتغير سياساتها تغيراً جوهرياً بتغيير الأفراد، سواء على الصعيد الداخلي أو الخارجي. والدليل على ذلك، أن السياسات العامة التي يتبعها النظام الإيراني حيال الملفات الأساسية، مثل الملف النووي، والنفوذ الإقليمي، والتوجه نحو الشرق، وحتى البرنامج الصاروخي، لم تتغير بشكل جوهري ومؤثر نتيجة تغير توجهات الحكومات المتعاقبة، بل كانت الحكومات ملتزمة إلى حدٍّ كبير بالسياسات العامة للنظام في توجهاتها الدولية والإقليمية.
2. يشير كبار المسؤولين الإيرانيين إلى أن مطبخ القرار الخارجي الرئيس، ليس في وزارة الخارجية، وأن السياسة الخارجية، طبقاً للقائد الإيراني الأعلى علي خامنئي، هي مِن صنع المؤسسات السيادية، وأن وزارة الخارجية مخولة فقط بتنفيذ القرارات الصادرة عن تلك المؤسسات. أما فيما يتعلق بالتطبيق والممارسة، فتظهر التجربة أنّ عدداً كبير من المؤسسات المنفصلة عن وزارة الخارجية، هي التي تمارس السياسات الإقليمية والدولية، وعلى رأسها “الحرس الثوري”، والمؤسسات المرتبطة بمؤسسة “بيت القائد”.
3. من غير المحتمل أن يترك غياب عبداللهيان أثراً ملحوظاً في السياسة الخارجية الإيرانية، بسبب شخصيته المقربة من “الحرس الثوري”، وبيت القائد؛ ممّا يجعله مُناصراً لسياسات الدولة العميقة، ومُنصَهراً فيها إلى حدٍّ كبير. وقد أدى هذا الانصهار دوراً مهمّاً في تعزيز اندماج وزارة الخارجية في بقية المؤسسات السيادية، وتحولها إلى لاعب هامشي في خريطة المؤسسات المُمارسة للقرار الدبلوماسي الإيراني. ويؤكد المراقبون أن احتمال استمرار هيمنة المحافظين المقربين من الدولة العميقة على وزارة الخارجية في الحكومة القادمة يُقلل من احتمالات التغيير في السياسة الخارجية الإيرانية، ويعزز اندماجها في مؤسسات الميدان أو “الدولة العميقة”.
ولا تخطئ هذه التقديرات في تأكيدها أن السياسة الخارجية الإيرانية، بما في ذلك السياسات الإقليمية، ستظل مستمرة دون تأثر كبير بغياب عبداللهيان ورئيسي؛ إذ تدعم رؤيتها مجموعة من المؤشرات الميدانية، ومسار التطور التاريخي لمهام الخارجية الإيرانية. ومع ذلك، فإن افتراض عدم حدوث أي تغيير في حيثيات السياسة الخارجية، هو أيضاً تصور يفتقر للواقعية، لعدة أسباب، من بينها الآتي:
1. خبرة عبداللهيان في المجال العربي؛ حيث كان يُتقن اللغة العربية، وعمل مساعداً لوزير الخارجية للشؤون العربية، وكان تركيزه على الجوار العربي في أجندته المقترحة واضحاً، وهو ما انعكس في “سياسة التجاور” التي تم التأكيد عليها بوصفها برنامج عمل لحكومة رئيسي. وكان عبداللهيان أيضاً على تواصل واسع مع تنظيمات “محور المقاومة” التي تقوده طهران في المنطقة وقادتها، ممّا جعله ملماً بتفاصيل تلك التنظيمات وتوجهات قياداتها وآليات اشتغالها. وقد لا يتمتع بديله بنفس الخبرة والعلاقات التي كان يتمتع بها. ومن ثمَّ فإن البديل قد يكون قادراً على تعزيز العلاقات الدبلوماسية مع الصين أو روسيا أو الكتلة الغربية، لكنه لن يكون قادراً على التعامل مع تنظيمات “محور المقاومة” وميليشياته بنفس الكفاءة.
2. من المرجّح أن تسعى المؤسسات الداخلية الأخرى الطامحة إلى زيادة نفوذها في مجال السياسة الخارجية إلى استغلال الفراغ المؤقت الناتج عن غياب عبداللهيان لزيادة تأثيرها في المجال الدبلوماسي، والاستيلاء على ملفات دبلوماسية كانت تحت سيطرة وزارة الخارجية. وعلى سبيل المثال، تعدّ استضافة الحرس الثوري لقادة تنظيمات “محور المقاومة” في خلال مراسم أداء اليمين الدستورية لرئيسَي (كما في مراسم تشييعه مع المسؤولين الآخرين)، خطوة نحو تعزيز هيمنة الحرس على هذا الملف، ويمكن عَدُّ محاولة مؤسسة القائد استعادة الملف النووي من وزارة الخارجية، من طريق منح المستشار السياسي للقائد الإيراني علي شمخاني، بعض الصلاحيات في هذا المجال، مثالاً آخر على هذا السلوك.
3. من المتوقع أن يؤثر تغيير الحكومة في بعض جوانب السياسة الخارجية، بما يشمل إحداث تعديلٍ في أجندة هذه السياسة. فمن المتوقع أن يؤدي صعود محافظين من الوسط، مثل علي لاريجاني، أو علي شمخاني، إلى التركيز على ملف المفاوضات مع الغرب بشأن الخلاف النووي. بينما قد يؤدي صعود وجوه أكثر تشدداً مثل سعيد جليلي، ومحمد مخبر، إلى توجيه السياسة الخارجية الإيرانية، بصفة أكثر وضوحاً، نحو روسيا والصين. ومن المرجح أيضاً أن تحصل تغييرات في أولويات السياسة الخارجية، بحيث قد تتغير “سياسة التجاور” التي تبنتها حكومة رئيسي لصالح أجندة أخرى تُعدّ أكثر أهمية من وجهة القادة الجُدد. وستظل الأولويات الرئيسة التي كانت تُشكَّل وتُنفَّذ خارج نطاق الحكومة، وجهازها الدبلوماسي، ثابتة. ومع ذلك، ستكون هذه التغييرات مؤثرة، بسبب تعزيز عملية إفراغ وزارة الخارجية من صلاحياتها لصالح المؤسسات البديلة، بالإضافة إلى غياب عبداللهيان؛ الرجل المقرَّب من تنظيمات “المقاومة”. ومع توقُّع استمرار باقي وزراء حكومة رئيسي للفترة الانتقالية، فإن خروج رئيسي وعبداللهيان المفاجئ من المشهد سيجعل الأجندة الدبلوماسية للحكومة السابقة مُعرَّضة لاحتمالات التغيير.
مستقبل السياسة الخارجية الإيرانية: سيناريوهات محتملة
السيناريو الأول: استمرار السياسة الخارجية الراهنة. ينبني هذا السيناريو على احتمالية عدم توقُّع حدوث تغيير جوهري في طبيعة السياسة الخارجية الإيرانية بعد رئيسي وعبداللهيان؛ حيث تستمر المؤسسات السيادية الأخرى بالتأثير في صنع القرارات الدبلوماسية وتنفيذها إلى جانب وزارة الخارجية، ومواصلة العمل وفقاً للأجندة المطروحة. وهذا السيناريو يُدعَم بالمواقف الرسمية التي عبَّر عنها عدد من المسؤولين السياسيين في خلال الأسبوع الماضي، وتأكيدهم عدم تغيير أولويات السياسة الخارجية أو توجهاتها العامة. كما يُدعَم بموقف القائد الأعلى الذي أكد سابقاً أن صنع القرارات الدبلوماسية لا يقتصر على وزارة الخارجية، وإنما تتولى المؤسسات السيادية صياغة هذه القرارات أيضاً.
مع ذلك، يواجه هذا السيناريو عقبات، مثل تأثر الدبلوماسية الإيرانية، خاصة في الساحة الإقليمية، بغياب شخصية ذات وزن مثل عبداللهيان الذي كان له علاقات وثيقة بقادة محور “المقاومة” الإقليمي، بالإضافة إلى خبرته في المجال العربي، ودوره في وضع “سياسة التجاور” على رأس الأجندة الدبلوماسية الإيرانية. كما يواجه هذا السيناريو تحديات من جانب المؤسسات البديلة التي تسعى للاستفادة من فرصة الفراغ المفاجئ في منصبي الرئيس ووزير الخارجية لتعزيز سلطاتها، والتدخل في ملفات السياسة الخارجية؛ مما يؤدي إلى تقويض صلاحيات وزارة الخارجية، وزيادة هشاشتها.
السيناريو الثاني: التغيير الجوهري في السياسة الخارجية. يتوقع هذا السيناريو تغييراً جذريّاً في السياسة الخارجية الإيرانية بعد إجراء الانتخابات الرئاسية. ويفترض السيناريو أن صعود أي من المرشحين لمنصب الرئيس، سيؤدي إلى تحول شامل في السياسة الخارجية الإيرانية؛ حيث قد يتم تجاهل بعض الملفات، وإعادة النظر في ملفات أخرى. فمثلاً، إذا صعد مرشح من المحافظين الوسطيين، فمن الممكن أن يعيد المفاوضات النووية إلى الواجهة، ويؤثر سلباً في سياسة “التوجه نحو الشرق”. وإذا كان المرشح مُقرّباً من بيت القائد الأعلى، فقد يزيد ذلك من تأثير الصين في السياسة الإيرانية على حساب روسيا. وقد يفتح نافذة للتفاوض مع القوى الغربية بشأن بعض الملفات مثل الحرب الروسية على أوكرانيا. أما إذا صعد مرشح مُقرَّب من روسيا، فقد يدفع ذلك السياسة الإيرانية نحو التعاون مع روسيا في ملفات مثل الحرب على أوكرانيا، واستكمال مسار الاتفاق الاستراتيجي بين البلدين.
غير أن هذا السيناريو يواجه عقبات مماثلة، حيث تؤدي المؤسسات السيادية دوراً مهماً في رسم ملامح السياسة الخارجية، ومنحها الثبات، والاستمرارية رغم تغيير الحكومات، والشخصيات.
السيناريو الثالث: سيناريو الحالة الوسطى. يتوقع هذا السيناريو استمرار أولويات السياسة الخارجية الإيرانية، ولكن ضمن الخطوط العريضة. ووفقاً له، ستستمر استراتيجية التوسع الإقليمي الإيرانية من خلال الميليشيات والمجموعات الموالية، وسيتواصل تهميش ملف المفاوضات مع الكتلة الغربية، وستظل استراتيجية “التوجه نحو الشرق”، ومحاولة موازنة العلاقات بين الصين وروسيا قائمة. كما سيظل لدى وزارة الخارجية صلاحياتها المنخفضة كما هي. ومع ذلك، ستكون للتغييرات الناجمة عن غياب عبداللهيان، وحالة الفراغ التي تركها مقتل الرئيس، تأثيرها؛ فمن المتوقع أن يشهد التعامل مع الميليشيات بعض التطورات نتيجة غياب الدبلوماسي المقرب من قياداتها. كما ستشهد “سياسة التجاور” انحساراً بعد غياب الشخصيات الرئيسة في توجيهها؛ مما يفتح الباب أمام وجوه جديدة تسعى للاندماج في القوى الشرقية. وسيكون لتقلص صلاحيات الخارجية الإيرانية تأثير كبير في تعزيز حالة وزارة خارجية من دون صلاحيات. وهذا السيناريو يفترض تغييرات هامشية وعميقة في الوقت ذاته، ويتوقع انكشاف المزيد من التغييرات المؤثرة، على الرغم من استمرار الأُطُر العامة.
وبصفة عامة، يمكن استبعاد السيناريوين الأول والثاني، لكن السيناريو الثالث يظل الأكثر ترجيحاً، إذ يعكس طبيعة التطورات في الساحة السياسية الإيرانية. وعلى الرغم من أن التغييرات المتوقعة في هذا السيناريو قد لا تبدو جذرية بالنظرة الأولى، إلا أنها ستفتح الباب مُستقبلاً أمام تحول جوهريّ في دور الجهاز الدبلوماسي الإيراني وممارساته وصلاحياته. وستزيد هذه التغييرات من التناقضات في السلوك الدبلوماسي الإيراني، وتعزز انفتاحه على الشركاء الشرقيين.
الاستنتاجات
يظن البعض أن الغياب المفاجئ للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته المقرب من تنظيمات “المقاومة” في المنطقة لن يؤثر بشكل كبير في السياسة الخارجية الإيرانية. ولكن عند النظر بعناية إلى شخصية وزير الخارجية والأجندة التي وضعها، بالإضافة إلى مراقبة تحركات المؤسسات البديلة في الأيام الأخيرة، يتضح الأمر أكثر، وتبرز أهمية الفوارق التي قد تظهر في تنفيذ السياسة الخارجية، خصوصاً في مرحلة استفحال ظاهرة الميليشيات، وتصاعد التنافس بين الصين وروسيا في سياق “التوجه نحو الشرق”، والتطورات الحاسمة في ملف النووي الإيراني الذي يشهد عامه الأخير.
ويمكن أن تكون بعض هذه التطورات ناتجة عن غياب عبداللهيان الذي كان يمثل الشخصية الدبلوماسية الوحيدة في الحكومة الإيرانية المتخصص في الشؤون العربية. وكان أقرب الشخصيات في الجهاز الدبلوماسي لقادة الميليشيات. وتنظر بعض المؤسسات السيادية إلى الأسابيع القليلة التي تفصل إيران عن إجراء الانتخابات، وتشكيل الحكومة الجديدة، باعتبارها فترة زمنيّة ملائمة لملء الفراغ، وتعزيز صلاحيات هذه المؤسسات على حساب وزارة الخارجية؛ ممّا قد يزيد في نهاية المطاف من هشاشة دور الوزارة في صنع السياسة الخارجية الإيرانية.
وبفعل مُجمَل هذه التطورات والتوقعات، ستتكشف معالم سياسة إيران الخارجية في خلال الفترة المقبلة، إذ ستتراجع على الأرجح أولويّة “سياسة التجاور”، مع إبقاء التركيز على سياسة دعم الميليشيات والتنظيمات الموالية على الساحة الإقليمية، كما يتوقع تقليص صلاحيات وزارة الخارجية لصالح مؤسسات سيادية أخرى. وتبقى التطورات المحتملة بشأن الملف النووي، وموازنة العلاقات بين روسيا والصين رهناً بتركيبة الفريق الحكومي الجديد، والذي سيشير بدوره إلى تفضيلات النظام الجديدة.
المصدر : https://epc.ae/ar/details/scenario/hudud-tathir-ghiab-alrayis-al-irani-wawazir-kharijiatih-fi-alsiyasa-alkharijia-al-irania