نرمين سعيد
في منظومة العلاقات الدولية تمثل الهند رقمًا مهمًا في المعادلة السياسية والاقتصادية على حد سواء بالاستناد إلى عوامل متعددة، ولا شك أن الحرب التي تدور رحاها في العالم منذ ثمانية أشهر خلقت أشكالًا جديدة من الاصطفافات، منها ما كان متوقعًا ومنها ما خرج عن حدود التوقع بشكل خلق ترتيب جديد في النظام الدولي غادر حدود القطب الأوحد، وبدأ بالاتجاه نحو نقاط ارتكاز للقوى في مناطق مختلفة من العالم.
منذ بداية الأزمة الروسية الأوكرانية اختارت الهند مجبورة أن تقف على الحياد نظرًا لتشعب علاقاتها ومصالحها بين أطراف الصراع، ولكن هذا لا يعني أن الحياد كان مقبولًا من جميع الأطراف، فحالة الحياد التي اختارتها الهند لم تعد مقبولة لدى الغرب، بل يمكننا القول أنها اساءت لسمعة نيودلهي باعتبارها تحاول أن تصل إلى مصالحها دون مراعاة للقانون الدولي من منظور المعسكر الغربي، ولكن المتابع لسياسات الهند الخارجية يستطيع أن يرصد أن نهجها في هذه الأزمة الدولية ليس بالجديد على الاتجاهات العامة التي اختارتها لنفسها منذ تأسيس حركة عدم الانحياز؛ فنيودلهي حريصة على إبقاء مسافة ذراع بينها وبين أطراف أي أزمة لا تقترب من حدودها، وهو ما طبقته في الأزمة الحالية ولكن الحاجة الملحة لخلق تصنيفات من معنا ومن علينا في الوقت الحالي وضعتها في مأزق ربما تحتاج إلى إنهائه قريبًا.
وتتحرك الهند نحو الأزمة الروسية الأوكرانية مدفوعة بعدد من الأسباب، يأتي على رأسها أن موسكو كانت القوة الوحيدة التي ناصرتها في قضية كشمير عندما اشتعلت الأمور بينها وبين إسلام أباد، ومن هنا فقد اتخذت الهند مواقف تراوحت بين الحياد والحياد التكتيكي حيال العملية العسكرية الروسية على أوكرانيا، حيث امتنعت منذ بداية الأزمة عن التصويت على إدانة موسكو في الأمم المتحدة بل أنها امتنعت حتى عن التصويت على مشروع القرار الأممي الذي أدان الاستفتاءات الروسية التي انتهت بضم أربع مناطق أوكرانية بشكل غير قانوني، وهو ما وجده الغرب تناقضًا للهند مع نفسها وأن المدى قد ذهب بها بعيدًا في مسألة الحياد مع روسيا. ويضاف إلى هذا الدافع الجوهري دوافع أخرى سياسية وعسكرية واقتصادية، رسمت حدود الموقف الهندي من الأزمة الروسية الأوكرانية.
أولًا) المحددات السياسية:
تتمتع الهند بعلاقات سياسية قديمة مع روسيا أو الاتحاد السوفيتي يعود تاريخها إلى عام 1947، وظلت هذه العلاقات قوية حتى بعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي في عام 1991 حيث تم توقيع معاهدة صداقة بين البلدين في عام 1993 باعتبارها الوثيقة التي تؤسس للعلاقات الهندية الروسية، كما ترتبط نيودلهي وموسكو في رؤية موحدة تجاه معارضة النظام الدولي القائم على القطبية الواحدة، وتنظر نيودلهي إلى موسكو باعتبارها ضلعًا وشريكًا أساسيًا في مسألة التحول إلى النظام متعدد الأقطاب.
كما تعد العلاقات مع الصين واحدة من أهم المحددات السياسية التي حكمت التحرك الهندي إزاء الأزمة الحالية، فالدولتان تعدان واحدتان من أكثر الدول سكانًا إضافة إلى كونهما من أسرع الاقتصادات نموًا، مما خلق حالة من التقارب والتنافس في نفس الوقت، بحيث يشمل جانب التنافس اعتبارات أمنية تخص التوترات الحدودية بين البلدين، وتثار حفيظة الهند ناحية الصين أيضًا نظرًا لتمتعها بعلاقات قوية مع باكستان في الوقت الذي تعرب فيه الصين التي تعتبر بحرها الجنوبي بحرًا صينيًا ومنطقة سيادة عن قلقها من ممارسات نيودلهي هناك. وكان آخر نزاع حدودي نشب بين البلدين في عام 2017 بشأن منطقة ” دوكلام”، وهي منطقة متنازع عليها بين الجارتين إلا أنه قد تم تسوية الخلاف بالطرق الدبلوماسية.
وعلى مستوى العلاقات الاقتصادية، فإن بكين تعد من أهم الشركاء التجاريين للهند ولكن تبقى نيودلهي حريصة على ألا تكون تابعة للصين في الوقت الذي تقود فيه الأخرى آسيا. وهذه العلاقات التنافسية بين البلدين دفعت واشنطن للاعتقاد بأنها قادرة على استمالة الهند خلال الأزمة الروسية الأوكرانية في محاولة للتضييق على الموقف الصيني، خصوصًا مع المقاربة الأمريكية التي تنظر إلى حكم ناريندرا مودي باعتباره مغايرًا لكل الأعراف السياسية التي استقرت في شبه القارة الهندية تحت حكم حزب المؤتمر الاشتراكي، مستغلة في ذلك التوتر القائم بين بكين ونيودلهي في بحر الصين الجنوبي، خصوصًا مع حرص الصين على تعزيز وجودها في سيريلانكا وتوسيع نطاق وجودها العسكري في جيبوتي.
فعملت واشنطن على اجتذاب الهند إلى الجانب الغربي من خلال دمجها في تحركات تحالف كواد الذي اجتمع لمرات متعددة منذ نشوب الأزمة الروسية الأوكرانية في فبراير الماضي، كما عملت الولايات المتحدة على التقارب الاقتصادي من الهند لأنها ترى فيها بديل تكنولوجي قوي قد يعوض تراجع العلاقات مع الصين. ولكن كما أخفقت الولايات المتحدة في انتزاع موقف مهادن من دول الخليج فقد خابت آمالها في تمييل كفة الهند لصالحها، لأن الهند بداية ونهاية ستكون حريصة على مراعاة المصالح الضخمة التي تربطها بروسيا. ومن هنا فإن العلاقات الوثيقة والمصالح السياسية المتشعبة التي تربط نيودلهي بأطراف الأزمة، تفسر الموقف المراوغ الذي اتخذته الهند من الأزمة.
ثانيًا) المحددات العسكرية:
على الرغم من محاولات الصين الدؤوبة في الآونة الأخيرة لتوسيع نطاق اعتماداتها العسكرية خصوصًا بعد حالة الاستنزاف التي شكلتها الحرب الأوكرانية للمصنع الروسي، والذي تتخوف نيودلهي من أنه سيورد إليها أسلحة بكفاءة متناقصة، إلا أن روسيا تبقى شريكًا استراتيجيًا للهند من الناحية العسكرية الأمر الذي يجعل نيودلهي حريصة تجاه أي موقف متشدد من موسكو لأنها غير قادرة على تحديث ترسانتها العسكرية بالكامل بعيدًا عن موسكو في الفترة الحالية.
على صعيد آخر، هناك قلق في الإدارة الهندية من أن روسيا قد تعجز عن تسليم شحنات السلاح حسب الجدول المتفق عليه، وهو ما يؤخر تسلم الهند لمنظومة إس 400 التي تعد جزءًا من التعاون العسكري بين البلدين الذي يشمل أيضًا التزام الجانب الروسي بتقديم أعمال الصيانة للأسلحة الروسية التي تمتلكها الهند، ولذلك فإنه على الرغم من تراجع حصة التسليح الروسي في الترسانة الهندية من 70% إلى حوالي 50% بسبب رغبة نيودلهي في تنويع مصادر تسليحها، إلا أنها لازالت مهيمنة على الترسانة العسكرية الهندية والدليل على ذلك أن العقوبات التي لوحت بها أمريكا ضد الهند لرغبتها في شراء منظومة إس 400، لم تردع صناع القرار في الهند من إتمام الصفقة مما يشير إلى عمق التعاون العسكري بين البلدين. ناهيك على أن التعاون العسكري بين البلدين يمتد إلى المجال النووي، الذي تم التوقيع على اتفاقية بخصوصه بين الطرفين في 2008 وأقر الاتفاق إنشاء روسيا لـ 4 مفاعلات نووية في المحطة النووية الهندية.
ثالثًا) المحددات الاقتصادية:
كما بحثت الهند عن مصالحها في المجالين السياسي والعسكري فإنها لم تفوت تحقيق مصالح اقتصادية من الأزمة الروسية الأوكرانية، تضمنت بالمقام الأول قرار الهند الذي أشعل غضب الأوروبيين برفع مشترياتها من النفط الروسي، مع الأخذ بالحسبان أن مشتريات نيودلهي من النفط الروسي قبل اندلاع الأزمة في فبراير كانت ضئيلة بشكل كبير إذا ما قورنت بالوضع الحالي، حتى وصلت إلى حدود المليون برميل في يونيو الماضي وهو ما مكن نيودلهي من توفير 16 دولار في البرميل الواحد أي توفير 16 مليون دولار في الشحنة الواحدة في بلد عانى الكثير من الضغوطات الاقتصادية بعد تفشي جائحة كوفيد 19، وعلى الرغم الانتقادات الأوروبية فإن السلطات الهندية ردت بأن أوروبا نفسها استمرت في شراء الغاز الروسي بعد الحرب . وتسعى الهند أيضًا إلى أن تكون شريكة لروسيا في المشروع الخاص بتصدير الغاز الإيراني إلى الهند، عن طريق التعاون بين شركتي غازبروم الروسية وGail الهندية.
ختامُا؛ يمكن تطويع الموقف الهندي وجعله سائغًا بالنظر فيما تقدم، وحتى الآن لا يبدو أن الهند تجاوزت خط العودة ولكن هذا لا يعني أنها لا تستعد لتجاوزه، خصوصًا أن موقف الهند تجاه عملية ضم الأراضي اليوم لم يختلف عن موقفها من ضم روسيا لشبه جزيرة القرم في 2014، غير أن الغرب يرى في الأزمة الحالية تجبرًا من النظام الروسي آن له أن يردع عن طريق التكتل ضد موسكو.
ويتبقى أمام نيودلهي خيارين، أحدهما الحفاظ على سياسية الحياد، التي لم تعد مقبولة من المعسكر الغربي مع اتجاه الأمور للمزيد من الاستقطاب والتعامل مع سيل من العقوبات في المستقبل تشمل تأثر الصادرات العسكرية الروسية إلى الهند حيث لن تكون موسكو قادرة على الوفاء بتعهداتها لمدة طويلة، مع استمرار العقوبات عليها والتي ستطال أيضًا تعامل الهند مع روسيا على صعيد الغاز الإيراني، لأن طهران لم تصل إلى صفقة نووية حتى اليوم. أو الانقلاب على الحليف الروسي والخروج بخسارات فادحة على مستويات عدة تمتد حتى إلى علاقات نيودلهي الاستراتيجية مع دول الخليج التي اختارت حتى الآن الحياد قولًا مع ميل أفعالها للمعسكر الروسي، ولذلك فإن الهند لو خسرت علاقاتها مع الحليف الروسي دون الوصول إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، تكون قد جعلت من نفسها وحيدة في معسكر أمام النفوذ الصيني.
.
رابط المصدر: