الأزمة الأخلاقية الغربية تكمن فيه، حيث حلت الليبرالية الرأسمالية الجشعة محل الأخلاق البروتستانتية، التي حررت أوروبا من قيود احتكارية النص الديني والثقافي، وأطلقت للغربيين المجال للإبداع والنهوض من كبوتهم؛ إلا أن خطورة تراجع وتلاشي البروتستانتية تكمن في هيمنة ما يُسمى بثقافة ما بعد الحداثة بكل تفاهتها وعدميتها…
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.
قال الله العظيم في كتابه الكريم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) (سورة آل عمران: الآية 140).
وقال جل اسمه: (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (سورة الكهف: الآية 59).
القرآن الكريم: الظلم عِلّة هلاك الأمم
تستوقفنا الآية الكريمة في تعليلها (أَهْلَكْناهُمْ) بـ (لَمَّا ظَلَمُوا) إذ لم يقل جل اسمه لما لم يُصلّوا أو لم يَحجّوا مثلاً، أو لما لم يعبدوا الله وعبدوا الأصنام، بل العلّة لإهلاكهم المصرح بها في الآية الكريمة هي (ظلمهم) وذلك ما نصت عليه آية أخرى أيضاً وهي: (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) (سورة النمل: الآية 52)، فالظلم إذاً هو العلّة التكوينية التي تستدعي الهلاك الدنيوي قبل الأخروي، ولا فرق في ذلك بين كون الظالم مسلماً أو كافراً غنياً أو فقيراً عالماً أو جاهلاً – وسيأتي مزيد كلام عن ذلك في بحث لاحق بإذن الله تعالى.
وقوله تعالى: (لِمَهْلِكِهِمْ) وردت فيها قراءات: 1- فتح الميم وكسر اللام (لـِمَهلِكهم) فتكون على وزن مغرب والذي يأتي اسم زمان واسم مكان أي زمان مهلكهم له موعد ومكانه له موعد معين، والأول هو الظاهر. 2- فتح الميم واللام (لـِمَهلَكهم) فيكون مصدراً ميمياً والذي يأتي اسم زمان واسم مكان ومصدراً وعلى الأخير يعني: جعلنا لهلاكهم موعداً. 3- ضم الميم وفتح اللام (لـمُهلَكهم) فهو اسم مفعول تقول مُهلِك – فاعلاً ومُهلَك مفعولاً.
العدوان الإسرائيلي وموقف الغرب
والحديث كله يدور بمناسبة العدوان الإسرائيلي الهمجي السافر على جنوب لبنان وسائر بلاد الإسلام، ودعم حكومات الغرب لإسرائيل، بدرجات تتفاوت بين الإسناد العسكري والأمني والمالي، بأعلى مستوياته وبين الدعم الدبلوماسي بشتى تجلياته ومن ذلك إعمال حق النقض (الفيتو) في الأمم المتحدة ضد أي قرار يدين إسرائيل، وبين الإهمال والسكوت عن جرائم هذا الكيان الغاصب وكأن شيئاً لم يحدث.
والغريب: انّ الغرب يتشدق بحقوق الإنسان واللبرالية والديمقراطية ثم تراه يسكت، بل ويؤيد، بل ويدعم أكبر الدعم (على اختلاف حكوماته كما سبق) جرائم إسرائيل في لبنان والتي ترقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية دون شك.
وسيقع الحديث ضمن فصول أربعة:
الفصل الأول، الغرب في عيون الغربيين.
الفصل الثاني: الغرب في لغة الإحصاءات.
الفصل الثالث: المستقبل لمن؟ لنا أو لهم؟
الفصل الرابع: هل للغرب نقاط قوة يتميز بها علينا وما هي؟
الغرب بعيون غربية
الفصل الأول: الغرب بعيون غربية، أو كما يراه جمع غفير من عقلاء الغرب.. وليس من الصعب العثور على كتب ودراسات كتبها المآت، إن لم يكن الألوف، من مفكري الغرب، من سياسيين وفلاسفة وعلماء اجتماع ومنظرين استراتيجيين وغيرهم ممن حملوا رؤية متشائمة عن مستقبل الغرب، سلبية ومؤسفة لهم، حيث تنبّأوا، لا بالطرق الماورائية بل بحسب معطيات علم فلسفة التاريخ أو بحسب دراسة لمسيرة الغرب الانحدارية طوال العقود الماضية أو بحسب قواعد علم الاجتماع والانثروبولوجيا أو غير ذلك، بأن الغرب آيل للسقوط.. ولنقتطف نماذج منها:
مفكرون غربيون من دول شتى تحدثوا عن سقوط الغرب
– المفكر الفرنسي لوسيان بويا، أصدر في العام ٢٠١٨ كتابا بعنوان “نهاية الغرب، نحو عالم الغد”، يدور حول مشاكل الغرب المستعصية التالية: الهجرة والاندماج، الاحتباس الحراري وصعود الصين.
– الكاتب الفرنسي هارفيه كيمف كتب كتاباً باسم “سقوط الغرب”، تناول فيه العديد من الأزمات الغربية كـ:
– الأزمة البيئية.
– والاحتباس الحراري.
– الأزمة الاقتصادية المتجلية في تفاوت الدخل بين الدول.
– أزمة البطالة وشح الموارد.
– وصامويل هنتنجتون في كتابه “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” المطبوع عام 1996 هو ممن استشعر الخطر، إذ استعرض الأدلة على أن التاريخ لم ينتهِ لصالح الرأسمالية الغربية بسقوط الثورة البلشفية على جدار برلين، ولم تحقق اللبرالية انتصارها النهائي، بل تغيرت طبيعة الصراع من عوامل أيدولوجية واقتصادية إلى مرتكزات ثقافية وإيمانية. ويستشرف هنتنجتون جوهر الصدام القادم، حيث يقول: “إن عالم ما بعد الاتحاد السوفيتي وجدار برلين يتألف من ثمانية حضارات متنافسة[1]، لكن الصدام المحتمل على المدى القريب سيكون بين ثلاث حضارات هي: (الحضارة الغربية الرأسمالية، والحضارة الصينية، والحضارة الإسلامية)، أما على المدى البعيد فإن هذا الصدام المحتمل سينحصر بين الحضارة الغربية والإسلام.
– (ومقالة “وداعا للغرب” لوزير الخارجية الألماني الأسبق يوشكا فيشر، قدم من خلالها رؤية متشائمة لمستقبل الغرب إثر صعود الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب سنة 2016، وأعقبتها مقولة “الموت السريري لحلف الناتو” التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.
– وفي ضوء تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، تظهر مقالات وإصدارات جديدة حول “نهاية الغرب”، ضمنها مقالة للباحث الألماني المتخصص في التاريخ المعاصر، بجامعة كونستاتس الألمانية، ألبريشت كوشوركه، بعنوان “أيام الغرب باتت معدودة”.
– وينضم إلى هذه التنبؤات التاريخية والرؤى الاستراتيجية مفكرون وخبراء من عالم “الجنوب”، مثل الكاتب والخبير جورجيو رومانو شيوته، أحد أبرز منظري السياسة الخارجية في البرازيل)[2].
ماكس فيبر: سقوط الأخلاق البروتستانتية في الغرب
– وماكس فيبر وهو أحد أشهر علماء الاجتماع على الإطلاق ويعدّ فيلسوف الرأسمالية وعرابها بغير منازع، والذي يقابله في الاتجاه المقابل كارل ماركس فيلسوف الاشتراكية الأكبر، ارتأى في كتابه (الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية – الصادر عام 1904م) ان صعود الرأسمالية ارتبط في جوهره بالأخلاق البروتستانتية، والتي – وهذا موطن الشاهد – بدأت تضمر وتتضاءل وتخبو في بلاد الغرب تدريجياً ثم بشكل متسارع.
ما هي الأخلاق البروتستانتية؟
والأخلاق البروتستانتية التي يقصدها هي:
– الانضباط والالتزام بالعمل.
– خفض الاستهلاك (خاصة الترفي) والادخار (الفعّال – بمصطلح علماء الاقتصاد).
– تأجيل المتعة والتي عبّر عنها فيبر بالتقوى الحضرية، لأجل بناء رأسمال يصب في استثمارات بنيوية أو أساسية تزيد العوائد وتعظم الأرباح.
– تحمل المسؤولية.
وفي مقابل ذلك:
– حكومة اللذة – وبعبارة أشمل وكما قاله باتريك بوكانان المفكر الأمريكي في كتاب (موت الغرب): (الجنس، المال، الشهوة، والسلطة هي كل ما تبحث عنه أمريكا اليوم).
– العدمية الجنسية، والتي تزيد على الفوضى الجنسية بكثير، التي بدأت وتيرتها بالتصاعد في الغرب.
– البطالة المزمنة، والتضخم، وقلة الموارد، وتكلس النظام السياسي.
– فقدان الانتماء للوطن إذ تزايدت أعداد المواطنين الذين لا يدينون لحضارة الغرب بالولاء أبداً.
– تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب في أمريكا وأوروبا نتيجة عزوف الأسر الغربية عن الزواج الكاثوليكي.
– التفكك الأسري وظهور أسرة ما بعد الثورة التكنولوجية بتكوينها العضوي الأحادي الذي يحظى فيها الأطفال برعاية أحد الأبوين. وذلك بحسب كتاب (موت الغرب) وغيره.
– ومن أشهر من كتب عن (سقوط الغرب) ايمانويل تود، ونقتبس هنا مقاطع مما اقتبسه عدد من الباحثين أو لخصوه من كتابه.
ايمانويل المحلل الفرنسي وسقوط الغرب
(إيمانويل تود مؤرخ وأنثروبولوجي وعالم اجتماع (وعالم سكان) ومحلل سياسي فرنسي، غزير الإنتاج، وهو مفكر من فئة نادرة تعتمد الحقائق والمعطيات، ويعد أحد القلائل المتبقين من مثقفي المدرسة الفرنسية القديمة.
عرف تود بحس إستراتيجي ثاقب، إذ كان قد توقع انهيار الاتحاد السوفياتي في كتابه الشهير “السقوط النهائي” الذي أصدره عام 1976 وهو ابن 25 عاما، انطلاقا من نظريته في “أنساق القرابة الأسرية” وإحصائيات عن معدلات وفيات الأطفال الرضع في الاتحاد السوفياتي.
وبعد قرابة ربع قرن أصدر تود المتهم بمعاداة الولايات المتحدة كتابا بعنوان “ما بعد الإمبراطورية” (2001) قدم فيه حججه على أفول أميركا كقوة عالمية مهيمنة رغم مزاعم انتصارها الكبير بانهيار الاتحاد السوفياتي.
ويركز تود على الأسباب الرئيسية التي أدت إلى سقوط الغرب، ومنها:
– نهاية الدولة القومية في الغرب.
– تراجع التصنيع، مما يفسر عجز حلف شمال الأطلسي عن إنتاج الأسلحة الضرورية لأوكرانيا.
– وصول المصفوفة الدينية الغربية -أي البروتستانتية- إلى “درجة الصفر” والإفلاس، والزيادة الحادة في معدلات الوفيات في الولايات المتحدة أعلى بكثير مما هي عليه في روسيا.
– تفاقم أعداد حالات الانتحار وجرائم القتل، وسيادة العدمية الإمبراطورية التي يعبر عنها هوس مزمن بالحروب الأبدية)[3].
(وفي الأساس، يُعدّ كتاب سقوط الغرب[4] بمثابة تكملة لكتاب “الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” لماكس فيبر، الذي قال في عشية حرب عام 1914 إنه كان يعتقد بحق أن صعود الغرب كان في جوهره صعوداً للعالم البروتستانتي (إنجلترا، والولايات المتحدة، وألمانيا المتشكلة من توحد بروسيا والدول الإسكندنافية.
فهذا المأزق الديني الأخلاقي، يرى ايمانويل تود أن الأزمة الأخلاقية الغربية تكمن فيه، حيث حلت الليبرالية الرأسمالية الجشعة محل الأخلاق البروتستانتية، التي حررت أوروبا من قيود احتكارية النص الديني والثقافي، وأطلقت للغربيين المجال للإبداع والنهوض من كبوتهم؛ إلا أن خطورة تراجع وتلاشي البروتستانتية تكمن في هيمنة ما يُسمى بثقافة ما بعد الحداثة بكل تفاهتها وعدميتها، من الشذوذ والعنصرية والشعوبية، التي باتت تتهدد هذه المجتمعات اليوم وتُضعف من تماسكها الروحي والأخلاقي)[5].
و(يعزو تود الانحدار الغربي إلى “تبخر” قيم البروتستانتية، وقد سلط الضوء على “قيم العمل والانضباط الاجتماعي” المتأصلة في هذا الفرع المسيحي، والتي اعتبرها عنصرا أساسيا في صعود “العالم الأنغلو-أميركي”.
واعتبر “أن تبخر البروتستانتية في أميركا وبريطانيا والعالم البروتستانتي قد تسبب في اختفاء ما يشكل قوة الغرب وخصوصيته، وأن المتغير المركزي هو الديناميات الدينية”.
الانهيار التدريجي الداخلي للثقافة البيضاء الأنغلوسكسونية البروتستانتية أدى منذ الستينيات إلى “إمبراطورية محرومة من مركز ومشروع ومعنى، أي أنها كائن عسكري في الأساس تديره مجموعة بلا ثقافة (بالمعنى الأنثروبولوجي)”، هكذا يعرّف تود المحافظين الجدد في أميركا.
وإن تحليل تود الموجز للمعنى الأعمق للتحول الجنسي يحطم تماما الحملات الداعية إلى حرية التحول الجنسي، من أميركا إلى أوروبا، وسيثير نوبات غضب متسلسلة، إذ يرى أن التحول الجنسي هو “إحدى رايات هذه العدمية المحددة للغرب الآن، وهذا الدافع لتدمير ليس الأشياء والبشر فحسب، بل الواقع أيضا”.
أقول: وكل ذلك نراه بوضوح في الغرب اليوم وسيأتي بعض الكلام عن بعضها على اننا فصّلنا جوانب منها في كتاب (بحوث في الاقتصاد الإسلامي المقارن) بأجزائه الثلاثة وكتاب (التنمية الاقتصادية في نصوص الإمام علي عليه السلام) بأجزائه الأربعة، وتكفي الإشارة إلى الطابع المميز لمعظم الناس في الغرب أصبح ترجيح المتعة الآنية والاستهلاك الترفي بل الاقتراض المضاعف، بدل الادخار، والغوص في وحول الاستهلاك الآني أكثر فأكثر.
(ولكن أزمة الرأسمالية المزمنة -خاصة النيوليبرالية الأميركية الراهنة التي تم تعميمها عالميا- أنها لا تقوم على الانضباط الاستهلاكي، بل على تعظيم الاستهلاك وإتاحة الاقتراض للأفراد والشركات والحكومات بشكل مفرط، فأصبح الاستهلاك يفوق الدخل، وغدا المستهلك ينفق ما لم يكسبه بعد، مما قلص المدخرات، وأدى إلى الغرق في بحار من الديون تجاوزت كثيرا الناتج المحلي الإجمالي.
هكذا تبخرت البروتستانتية وأخلاقها وآليات عملها التاريخية التي أدت إلى صعود العالم الأنغلو-أميركي)[6].
(وقد ركز تود في كتابه على ثلاثة مؤشرات رئيسية في ما يتعلق بهزيمة الغرب ومؤشرات تفككه وتراجعه، وكلها قضايا تتعلق بالمشكل الأوروبي الغربي اليوم، ويأتي في عمقها وجوهرها المشكل الديني الأخلاقي، وإن لم يُرِد تود أن يبدأ به كمأزق جوهري مباشرة لاعتبارات ذاتية، ربما لإبعاد الظن بوجود نزعة دينية وإيمانية لا يدعيها هو، إذ يقول إن رأيه هذا كمفكر وباحث أنثروبولوجي لا علاقة له بأي شيء أخر.
فأولى المشكلات التي تطرق لها تود في ما يتعلق بعوامل سقوط الغرب، هي ما يسميه في كتابه بالعجز الصناعي في الولايات المتحدة الأمريكية، مع انكشاف الطبيعة الوهمية للناتج المحلي الإجمالي الأمريكي، حيث يقول إنه قام بتنفيس فقاعة هذا الناتج المحلي الإجمالي، وذلك بحذف الأقسام التضخمية منه، وبيّن الأسباب الجذرية للانحدار الصناعي وعدم كفاية التدريب الهندسي، وبشكل أكثر عمومية، انحدار المستوى التعليمي منذ عام 1965 في الولايات المتحدة، وربما في الغرب عموما.
وثمة مآزق غربية كثيرة، ليس ما ذكره تود سوى أبرزها من وجهة نظر عالم أنثروبولوجيا لا عالم أخلاق، كما قال هو. وبالتالي، فأعتقد أن المآزق غير محصورة بالجانب الديني والروحي أو المادي، بل إن تزييف العلمانية الغربية لنفسها يمثل مأزقاً، فهي تمرُ اليوم بأزمة اضطراب النموذج المثالي الذي كانت تهدف لتقديمه، وهو ما يسميه جون بوبيرو بالعلمانية المزيفة، وهي علمانية جديدة أخذت تبرز وتتمدد في مجتمعات الغرب، وترفع لواءها التيارات اليمينية المتطرفة؛ وهي علمانية مزيفة نقلت المبدأ العلماني من المجال العام، أي المجتمع، ما جعلها تؤول إلى نوع من الاستبداد تجاه الأفراد والجماعات، حيث تتدخل لمنعهم من التعبير عن ذواتهم واعتقاداتهم وشعاراتهم، وهذا باعتقادي لا يقلُّ عن غيره خطراً على النموذج الغربي وحضارته)[7].
بوكانان المفكر الأمريكي يتحدث عن موت الغرب
وكتاب “موت الغرب” للمفكر والسياسي الأمريكي باتريك بوكانان، (والذي كان من كبار مستشاري عدة رؤساء أمريكيين مثل ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد ورونالد ريغان) هو صيحة النذير الأخطر غربيا، ونبعت أهميته من أنه أتى ردّا على كتابين خطيرين في سياق عكسي لظاهرة التنبؤ بأفول الغرب وسقوطه وهزيمته، وهما “صدام الحضارات” لصمويل هنتجتون، و”نهاية التاريخ” لفوكوياما، وقد تحدثا عن انتصار الغرب الرأسمالي وفلسفته الليبرالية.
فقد حذر بوكانان في كتابه باكرا بأن الحضارة الغربية مهددة برعب كبير، يزحف نحو أفرادها ومجتمعاتها وأوطانها بكل قسوة وضراوة، وليس بوسع أمم الغرب فعل أي شيء لوقف هذا الاحتضار الأخير للحضارة الغربية، التي أصبحت تواجه الانقراض والفناء لصالح أمم أخرى؛ فالقرن الأمريكي الثاني يبشر بحالة من الكآبة والخوف على المصير، وضياع الهوية، وتحول المواطن الغربي مع مرور الوقت إلى ما هو أشبه بأقلية هشة في مجتمعه الذي شهد موطئ قدم أجداده ومعاركهم وبطولاتهم)[8].
و(في الماضي كانت بوتقة الانصهار تذيب الجميع، وتندمج داخلها الأعراق والقوميات والألوان الوافدة من خارج الحدود، أما في الوقت الحاضر فإن هذه البوتقة عاجزة عن إذابة وتشكيل الثقافات الأخرى، وبدأت تأخذ لنفسها طابعاً مستقلاً وكياناً ذاتياً تحت مظلة الديموقراطية والتعدد الثقافي، وهذا هو المارد المخيف الذي يهدد حضارة الغرب ويضعف قدرتها على البقاء. من النزيف السكاني الرهيب، وتراجع معدلات الخصوبة، واجتياح جحافل المهاجرين.
وهنالك مسألة أخرى تنذر بفناء الغرب وانقراضه؛ فالمتأمل في طبيعة النظام الثقافي والنسق الأخلاقي السائد يدرك دون عناء أن أمم الغرب قد تعرضت لثورة اجتماعية وثقافية في العقود الأخيرة بظهور نخب سياسية وفكرية تحتل المناصب الرفيعة الحاكمة، وتعمل على تفكيك المعتقدات والأفكار والقيم، وتغيير منظومة التعليم والتربية والفنون والترفيه؛ لخلق شعب جديد وأمة مهجنة، لا من الناحية العرقية وحسب بل من الناحية الاجتماعية والثقافية وهذا مكمن الخطر القادم.
فالغرب اليوم كما شخصه أحد السياسيين في حالة متزايدة من الصدام بين قوتين متعارضتين تماماً: الأولى قوة ريفية مسيحية محافظة على الايمان والقيم، والثانية متسامحة اجتماعياً ولديها الرغبة في تخيير المواطن الأمريكي بين العلمانية والتدين. وفي هذا الوسط الانتقالي للثقافة والقيم، والمفهوم المنفتح للمعتقد والايمان أصبح الزنا والإجهاض والقتل الرحيم والمخدرات والانتحار من الفضائل والقيم السامية لمجتمعات ما بعد الثورة الثقافية، في حين لم يعد للفضائل القديمة التي عزفت لها الأغاني أي حضور بين أبناء المجتمع الجديد.
يقول بوكانان: “إن الثقافة الجديدة ترفض الله الذي جاء في العهد القديم، وتحرق بخورها على مذبح الاقتصاد العولمي، وغدا الجنس والمال والشهوة والسلطة هو كل ما تبحث عنه أمريكا وتدور حوله”.
الآن يبدو واضحاً أن مبدأ اللذة الجديد، والثقافة المشبعة بالجنس والشهوة، والبحث عن النفوذ، وماكينات طباعة الدولار غير قادرة على تقديم مبررٍ جوهريٍ للإنسان الأوروبي كي يستمر في الحياة بعد أن انفصل هذا الإنسان عن أصله، وتباعد الجسد عن روحه، والتصق بمعتقدات فاسدة وقوانين باطلة سلبت من الحضارة الغربية فطرتها وهويتها)[9].
و(المؤلف في هذا الكتاب ينبّه إلى أن الموت الذي يلوح في أفق الغرب هو في الواقع موتان:
موت أخلاقي: بسبب السقوط الأخلاقي الذي ألغى كل القيم التربوية الأسرية والأخلاقية التقليدية.
موت ديموغرافي وبيولوجي (النقص السكاني بالموت الطبيعي).
ويستدل على ذلك بمؤشرات بدأت بالظهور بوضوح في العائلة وفي السجلات الحكومية التي تشير إلى اضمحلال القوى البشرية في الغرب، وإصابة ما تبقى منها بشيخوخة لا شفاء منها إلا باستقدام المزيد من المهاجرين الشبان أو بالقيام بثورة حضارية مضادة تعيد القيم الدينية والأخلاقية إلى مكانتها التي كانت من قبل. ويقول الكاتب أن الموت المقبل مريع ومخيف لأنه وباء ومرض من صنع أيدينا، ومن صناعة أفكارنا وليس بسبب خارجي مما يجعل هذا الموت أسوأ بكثير من الوباء الأسود الذي قتل ثلث سكان أوروبا في القرن الرابع عشر، فالوباء الجديد لا يقتل إلا الشباب، مما يحول الغرب عموما، وأوروبا بشكل خاص إلى (قارة للعجائز).
ويوضح أن هذه التنبؤات ليست مجرد تخمينات أو توقعات أو احتمالات، إنما هي حقيقة واقعة صادمة لشدة وضوحها. خاصة عندما تبدأ الأرقام بالحديث: فوفقا للإحصاءات الحديثة هبط معدل الخصوبة عند المرأة الأوروبية إلى (1 طفل) لكل امرأة، علما أن الحاجة تدعو إلى معدل (2 طفل) كحد أدنى (فقط لتعويض وفيات السكان الموجودين الآن..) دون الحديث عن زيادة عددهم.
وإذا بقيت معدلات الخصوبة الحالية على ما هي عليه فإن سكان أوروبا الباغ عددهم (728) مليون نسمة بحسب إحصاء عام 2000، سيتقلصون إلى (207) ملايين نسمة في نهاية هذا القرن…)[10].
من المهم الإشارة إلى أن سقوط الحضارات لا يتم في أيام أو سنين بل قد يستمر طوال عشرات السنين وربما مآت السنين، فلا يعني موت الغرب أنه سيموت فجأة غداً، بل قد يستمر في رحلة السقوط خمسين عاماً أو مائة عام أو حتى أكثر.. وذلك من أهم الفوارق بين مرض الأشخاص ومرض الحضارات فإن مرض الأفراد يطول أياماً أو أسابيع أو أشهراً وربما سنيناً أما مرض الحضارات فيطول عقوداً وقروناً، والفرق الآخر أن الأفراد يموتون، أما الحضارات فلا تموت عادةً بل تضعف فقط.
وعليه: لا يتوهم المعادون للغرب اننا سنكون نحن قادة العالم! فلاحظ الفصل الثالث والرابع الآتيين.
الفصل الثاني: الغرب بلغة الأرقام والقصص
يعاني الغرب من معامل خطرة تنخر في كيانه أشير إلى إثنين منها الآن بإيجاز: الأول: المخدرات والمسكرات، الثاني: الظلم والعدوان.
66 مليون أمريكي أفرطوا في شرب الخمر!
أولاً: (التقرير -الصادر عن الجراح العام في أميركا تحت عنوان “مواجهة الإدمان في أميركا”- إنه في عام 2015 قال 66 مليون أميركي إنهم أفرطوا في شرب الخمر خلال الشهر السابق!! (ليس مجرد شرب الخمر، بل الإفراط في شربها أيضاً).
وخمسون ألفاً قتلوا!
وفي عام 2014 مات نحو ثلاثين ألف شخص نتيجة تناول جرعة عالية من الهيروين أو الأدوية الأفيونية، كما مات نحو عشرين ألف شخص من تناول جرعة عالية غير مقصودة من الخمر أو الكوكايين أو الأدوية غير الأفيونية.
أقول: لا يتناول هذا التقرير وغيره مشكلة شرب الخمر أو الإدمان من منطلقات دينية أو أخلاقية بل من منطلقات صحية واقتصادية واجتماعية وغيرها فلاحظ تتمة التقرير:
نتائج الإدمان الصحية والاقتصادية
(وأضاف التقرير أن مشكلة الإدمان على الخمر والمخدرات في الولايات المتحدة لها مخاطر كبيرة على الأفراد والعائلات والمجتمعات والاقتصاد، ومن آثارها:
– الجريمة والعنف المرتبطان بالإدمان.
– إساءة معاملة الأطفال.
– إهمال الأطفال.
– زيادة التكاليف الصحية المرتبطة بمشكلة الإدمان.
– يكلف إدمان الخمر والأمراض المرتبطة به سنويا 249 مليار دولار.
– يكلف إدمان المخدرات والأمراض المرتبطة به سنويا 193 مليار دولار).
أقول: مع أن ذلك يعني أكثر من جميع وارد إيران والعراق من النفط ويعني حوالي 9% من ميزانية أمريكا البالغة في بعض السنين خمسة ترليونات دولار!
(كما استعرض التقرير الآثار الصحية للإدمان، مثل:
– الخمر يؤدي إلى التأثير على القدرات العقلية، ويزيد خطر الحوادث المرورية.
– الإفراط في شرب الخمر قد يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم وتشمع الكبد والسرطان.
– استعمال الماريغوانا المنتظم يرتبط بالتهاب القصبات المزمن.
– استخدام المنشطات مثل الكوكايين قد يقود لأمراض القلب)[11]
الغارديان: تزايد الوفيات الناجمة من الإدمان
وعلى مستوى آخر فإن صحيفة “الغارديان” البريطانية تحدثت، في تقريرٍ لها، عن أنّ الولايات المتحدة تجاوزت مليون حالة وفاة بسبب الجرعات الزائدة منذ أن بدأ مركز السيطرة على الأمراض في جمع البيانات بهذا الصدد منذ نحو عقدين من الزمن.
كما أعلنت المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، الإثنين، أنّ الوفيات الناجمة عن الجرعات الزائدة في الولايات المتحدة في عام 2021، وصلت إلى رقمٍ قياسي، بما يقدّر بنحو 107.622 حالة وفاة، وهي زيادة بنسبة 15% عن العام السابق، والذي سجّل أيضاً رقماً قياسياً)[12].
أقول: فبعد أن كانت حالات الوفاة معدلاً حوالي خمسين ألف سنوياً قفزت إلى أكثر من مائة ألف!
وموقع “unherd” البريطاني تناول الارتفاع المتزايد في معدلات تعاطي المخدرات بشكلٍ غير مسبوق في الولايات المتحدة، مُرجعاً أضرارها إلى التراخي “الذي ستدفع ثمنه البلاد”.
قال موقع “unherd” البريطاني إنّه أصبح لدى الأميركيين، من مرحلة الدراسة الجامعية إلى منتصف العمر، ميلٌ جديد إلى تعاطي المخدرات، موضحاً أنّ “تدخين الماريجوانا وتعاطي المخدر” تزايد بمعدلاتٍ غير مسبوقة، وذلك وفقاً لمسح “مراقبة المستقبل”، الذي يتتبع تعاطي المخدرات في الولايات المتحدة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي.
ومعدلات الإدمان في تزايد
وكشف الموقع، في تقريرٍ أنّ أحدث الأرقام الخاصة بفئة البالغين، والواردة في مجلّة “New Scientist”، تشير إلى أنّ ما يقرب من ربع البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 35-50 عاماً، إضافةً إلى قرابة نصف البالغين الذين تتراوح أعمارهم بين 19-30 عاماً، قالوا إنّهم “استخدموا الماريجوانا في الأشهر الـ 12 الماضية”.
وأفاد نحو 4% من كبار السن، و8% من البالغين الأصغر سناً، أنّهم استخدموا مخدراتٍ خلال العام الماضي، بحسب النتائج التي توصّل إليها المسح الأميركي.
وشدّد الموقع البريطاني على أنّ هذه الأرقام تعتبر من أعلى المستويات التاريخية التي سجّلتها الولايات المتحدة، حيث ارتفعت معدلات استخدام المخدر بشكلٍ كبير عما كانت عليه قبل عقدٍ من الزمان، كما وصلت معدلات استخدام الماريجوانا مِن طرف البالغين إلى أكثر من الضعف في نفس الفترة، وفقاً للمعهد الوطني لتعاطي المخدرات)[13].
و(بعد أربعة عقود من إعلان الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون “الحرب على المخدرات”، لم تنخفض معدلات الاستهلاك بشكل ملحوظ، والناس الذين يحتاجون إلى العلاج لا يجدونه في كثير من الأحيان. يدفع التجريم الناس الذين يتعاطون المخدرات إلى التواري عن الأنظار، ما يضعف من احتمال حصولهم على الرعاية، ويرفع من احتمال مشاركتهم في ممارسات غير آمنة تجعلهم عرضة للمرض والجرعات الزائدة.
وجدت المنظمتان أن وكالات إنفاذ القانون في الولايات تعتقل أكثر من 1.25 مليون شخص لحيازة المخدرات كل عام، أي 1 من كل 9 اعتقالات على الصعيد الوطني)[14].
بلجيكا تقطع أيادي أهالي الكونغو!
ثانياً الظلم: ويكفي أن نشير إلى ثلاثة نماذج فقط كما ذكرها باحثون مختلفون:
النموذج الأول: (بلجيكا: تلكَ الدَّولةُ التي لا تَكادُ تُرى على الخريطةِ بالعينِ المُجرَّدةِ، احتلَّتْ دولةً تزيدُ عليها في المساحةِ بثمانينَ ضعفًا، وهي جمهوريَّةُ (الكونغو)، التي لم تكنْ مُجرَّدَ أرضٍ مُحتلَّةٍ، بل مِلكيَّةً خاصَّةً للملك (ليوبولد الثاني)، وهناكَ حوَّلوا الدَّولةَ إلى أرضٍ للأيادي المقطوعةِ؛ لأنَّهم كانوا يُجبرونَ السُّكانَ على جمعِ حِصَّةٍ مُعيَّنةٍ من المطَّاطِ الطبيعيِّ، وتسليمِها بالمجَّانِ، فإنْ لم يفعلْ أحدُهمْ عُوقِبَ بقطعِ يَدِهِ!!، وإذا تمرَّدَتْ قريةٌ بكامِلِها على ذلك الأمرِ!!، فإنَّها تُبَادُ عن بَكْرَةِ أبيها.
ويُقَدَّرُ عددُ مَنْ قتلهم المحتلُّونَ البلجيكُ من أهل الكونغو بما بين 10-15 مليونَ إنسانٍ، بما يُفوقُ عددَ ضحايا (الهولوكوست) عِدَّةَ مرَّاتٍ، ويُدرجُها ضمنَ أشنعِ المَجازرِ في تاريخِ الإنسانيَّةِ، وقد كتبتُ منذ أشهرٍ خاطرةً عن جريمةِ قتل الزَّعيمِ الكُونغوليِّ الشَّابِّ (بياتريس لومومبا)، وإذابَةِ جَسدِه في الحامضِ، حتَّى لم يبقَ منه إلَّا ضِرْسُه، الذي عاد إلى البلادِ منذ نحو سنتيْنِ، ووُضِعَ في ضَريحٍ مهيبٍ، فكتبتُ عن ذلك خاطرةً بعنوانِ: (ضِرْسُ لومومبا).)[15].
إبادة سكان أستراليا والهنود الحمر بأمريكا
النموذج الثاني: إبادة الهنود الحمر في أمريكا، حيث كانوا يرونهم من الوحوش ومصاصي الدماء، وقد قُدّر عدد الهنود عام 1500 بما بين 10-100 مليون إنسان، لكنَّ المحتل الأبيض قضى على 95% منهم، ولم يبقَ منهم اليوم إلَّا أربعة ملايين!
النموذج الثالث: إبادة السكان الأصليين في أستراليا، والذين يعرفون بالأبورجيني (Aborigine)، حيث كانوا يستعبدونهم، ويستخدمونهم في جرِّ العربات مثل الحيوانات، كما تركوهم فريسة للأمراض الـمُعدية، حتى تم القضاء على 90% منهم، والباقون منهم اليوم لا يتجاوزون 3% من جملة السكان، على نحو ما شرح الكاتب الأسترالي (كليف ترونبل) في كتابه: الحربُ السوداء (Blak war) )[16]، ومن اللازم تكوين جهات محايدة تماماً للوصول إلى الأرقام الحقيقية إذ قد يكون في بعض الأرقام السابقة نوع مبالغة أو تضخيم لكنها وعلى أية حال تكشف عن فجائع كبرى وجرائم مرعبة حتى وإن كانت الأرقام أقل من المذكورة بكثير، بل لنفرضها النصف أو الربع أو حتى عشرة بالمائة فإنها تبقى مهولة حقاً.
وفي الحال الحاضر: (اتهم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس شركات غربية كبيرة بتحقيق “أرباح غير أخلاقية على ظهور أفقر الفقراء”)[17] لاحظوا قوله (على ظهور أفقر الفقراء) وليس على ظهور الفقراء!.
(وفي حين يفرض الصندوق شروطا بالغة الصعوبة على دول مثل بنغلاديش وباكستان وسريلانكا مقابل منحها مليارات قليلة من الدولارات، أو حتى الاحجام عن منحها مثل حالتي تونس ولبنان، تراه يقدم المزيد من الأموال لأوكرانيا ثالث أكبر دولة مقترضة منه دون أن تلتزم بمثل تلك الشروط)[18].
الفصل الثالث: المستقبل لمن؟ هل المستقبل لنا أم المستقبل للغرب؟
ذهب عدد من المنظرين الاستراتيجيين، أمثال هنتنجتون في (صدام الحضارات)، وكما سبق، إلى أن أهم الحضارات الكبرى المتصارعة هي ثلاثة: الحضارة الغربية والحضارة الصينية والحضارة الإسلامية وقالوا أن الحضارة الصينية لا تتمكن من المنافسة طويلاً وسينحصر الصراع بين الحضارة الإسلامية والغربية.
وهنالك الكثير من المسلمين الذين يتفاءلون بأن (المستقبل لهذا الدِّين) ولا شك ان المستقبل لهذا الدِّين في زمن الإمام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَني لا يُشْرِكُونَ بي شَيْئاً)[19]، و(لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون)[20]، إنما الكلام فيها قبل ذلك، أي في عالم ما قبل الظهور المبارك، فنقول: أبى الله أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فإن أخذنا بأسباب التقدم تقدمنا وإن أخذوا بها تقدموا، ذلك اننا إذا ابتلينا بنفس نقاط الضعف التي ابتلوا بها، وتميزوا علينا ببعض نقاط القوة فمن الذي يتقدم؟ ألم يقل تعالى: (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)[21]؟ فليس الأمر بالأماني إنما الأمر لله تعالى وقد جعل النصر لمن أخذ بأسبابه (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُم)[22]، وقال: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)[23] والغريب: اننا ابتلينا بنفس نقاط ضعفهم بجهلٍ منا وبتخطيط منهم، ابتلينا بنفس ما ابتلوا به.. فالأرقام تشهد مثلاً بأن نسبة تعاطي المخدرات وشرب الخمور في بلادنا مرتفعة وهي في تصاعد، كما تشهد بأن نسبة التفكك الأسري والطلاق في ازدياد، كما تشهد بأن نسبة الادخار الفعال في انخفاض ونسبة الاستهلاك الترفي، في المآكل والمشارب والملابس والحفلات والرحلات وغيرها في تصاعد.. كما تشهد.. وتشهد.. ولعله يأتي في بحث قادم الحديث عن ذلك وأسبابه وسبل مكافحته، وليس الكلام الآن عن ذلك إنما الكلام في المحصلة النهائية واننا ما دمنا كذلك والوضع يزداد لدينا سوءً على سوء يوماً بعد يوم فكيف نتمنى النصر والغلبة عليهم والحال اننا انجرفنا خلفهم في الكثير من المعاصي والسيئات بينما ظلوا يتميزون علينا تميزاً كبيراً في بعض الإيجابيات وهي التي نستعرضها في هذه الحلقة والحلقات القادمة تباعاً.
وتميزوا علينا بآليات تقدم فاعلة
ب- وانهم تميزوا علينا بآليات تقدم مؤثرة: تارة بشكل مطلق وأخرى بشكل نسبي:
امتلكوا آلية التصحيح الذاتي عبر الأحزاب الحرة و…
فمما تميزوا به: امتلاك آليات التصحيح الذاتي، ولو النسبي، عبر فتح الباب أمام النقد والنقد الذاتي[24] وذلك عبر بوابة الصحف الحرة والإذاعات والفضائيات الحرة، وعبر امتلاك أعداد كبيرة من مراكز الدراسات الحرة وأحزاب معارضة حرة تتمتع بالحرية في نقد جميع المسؤولين بدءاً من أعلى موقع ومنصب إلى أدناه.
ومن الطبيعي أن هذه الآليات تعمل، إلى حد كبير، على كبح الفساد المالي والفساد الإداري والاستئثار، كما تضطرهم إلى ترشيد الأداء والتنافس في تقديم الأفضل، اقتصادياً، صناعياً، زراعياً، خدمياً و…، للناس كي لا يُفضحوا على رؤوس الأشهاد من جهة وكي يعاد انتخابهم من جهة أخرى.
وتميزنا بالاستبداد وكمّ الأفواه المعارضة
على العكس من بلادنا تماماً إذ لا تمتلك الحكومات الإسلامية أحزاباً حرة متنافسة ولا إعلاماً حراً قادراً على أن ينتقد المسؤول الأول في البلاد، من ملك وأمير وقائد ووزير، وصاحب الجلالة والنيافة والسعادة والسيادة!
نعم قد يفسح للإعلام المجال لانتقاد الدرجات الدنيا من المسؤولين لكنه لا يسمح له أبداً بانتقاد الشخص الأول في البلاد وهو الذي تركزت بيده كل السلطات ومقاليد الأمور والذي يخشى منه أكثر من غيره إذ (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى)[25] بل حتى لو لم يَطْغَ فرضاً، لافتراض قوة عقله وشدة عدالته، وهو أشبه بافتراض أنياب الأغوال في غير المعصومين (عليهم السلام)، فإنه عُرضة للخطأ والزلل واتخاذ قرارات لم تبتنِ على دراسات مستفيضة ولا حظيت بالنقد والدراسة والتمحيص من مختلف الأطراف ليطمئن إلى كونها مجردة من العيوب والنواقص والثغرات قدر الإمكان إذ (مَنِ اسْتَقْبَلَ وُجُوهَ الْآرَاءِ عَرَفَ مَوَاقِعَ الْخَطَأ)[26]، وزلة مثله قد تدخل البلاد في أتون حرب طاحنة أو تجرها إلى حافة الفقر والإفلاس، ومع ذلك لا يفسح المجال للصحف ولا حتى للعلماء والخطباء بالنقد ولا بالنهي عن المنكر!.
أما هم فيمتلكون، وإن لم يكن بشكل متكامل نظراً لتأثير مجاميع الضغط والكوربوقراطيات، آليات التصحيح الذاتي المتمثلة في المعارضة الحرة والإعلام الحر والجامعات الفاعلة، ومن هنا فإنهم أقدر منا على إدارة الصراع مع الطرف الآخر بذكاء أكبر بل وبمكر أعظم.
لولا آلية التصحيح الذاتي لابتلع الغربَ الاتحادُ السوفياتي!
ومما يشير إلى ذلك ان الشيوعية عندما هزّت العالم عندما أطاحت بحكومات كثيرة وسيطرت على عشرات الدول وبدأت تهز أوربا وأمريكا بعنف حيث أضحى الملايين من العمال والفقراء والبؤساء في أوروبا وأمريكا وغيرهما يتطلعون بشوق وشغف نحو الشيوعية وبدأ يشككون بعمق في ديمقراطياتهم وحكوماتهم بل بدأوا يكرهونها أيضاً، وكان من المتوقع أن تجتاح الثورات أوربا الغربية وأمريكا وغيرها، إلا انهم بما يمتلكون من أحزاب متعددة متنافسة ومراكز دراسات متنوعة وإعلام حر، كما سبق، طوروا استراتيجياتهم فأسسوا أحزاباً للعمال، تقاسمت النفوذ والسلطة مع أحزاب النخبة والطبقة الارستقراطية، وقنّنوا قوانين لحماية العمال، واجروا رواتب تقاعدية، وضماناً اجتماعياً وتأميناً صحياً.. إلى غير ذلك وبذلك امتصوا النقمة والصدمة، بل وصلوا إلى مرحلة الهجوم المضاد فانتصروا حيث لم يمتلك السوفيات آليات التصحيح الذاتي، كبلادنا تماماً، فانتقلوا من ضعف إلى آخر حتى وصلوا إلى مرحلة الانهيار التام فمحوا من صفحات الوجود.
والغريب اننا، حكومات، وأحزاباً وقبائل واتحادات وحوزات وجامعات ومؤسسات، نرفض، بشكل صريح تارة وبشكل ضمني أخرى، الخضوع لآلية النقد والنهي عن المنكر (أي نهي العلماء والمفكرين للحكومات ونهي بعضنا بعضاً أيضاً)، بل ترانا ننفجر غضباً إذا قام أحدهم، سواء من داخل تيارنا أم خارجه، بتسليط الأضواء على أدائنا والتأشير على أخطائنا والمطالبة بتصحيح قراراتنا وترشيد أعمالنا، وذلك كله على الرغم من ان هذه الآلية التي أخذ بها الغرب وكانت من أسرار تفوقه علينا، هي تلك التي أكدت عليها النصوص الدينية أكبر تأكيد إذ (الْمُؤْمِنُ مِرْآةُ الْمُؤْمِن)[27]، (أَحَبُّ إِخْوَانِي إِلَيَّ مَنْ أَهْدَى إِلَيَّ عُيُوبِي)[28].
(فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ)
ويكفي أن نقرأ معاً، بتدبر وتبصر بعض النصوص العلوية التالية:
1- (وَإِنْ ظَنَّتِ الرَّعِيَّةُ بِكَ حَيْفاً) أي ظلماً (فَأَصْحِرْ لَهُمْ بِعُذْرِكَ وَاعْدِلْ عَنْكَ ظُنُونَهُمْ بِإِصْحَارِكَ)[29]، والإصحار أي الخروج إلى الصحراء ومواجهة الناس فيها حيث لا يوجد أي حاجز أو حائل أو مانع من اللقاء المباشر بين الناس والوالي، فهو امر صريح بالإصحار بالإعذار أي بعرض المواقف وذكر أسبابها وعللها في لقاء مباشر صريح مع الناس، ذلك إنك، المسؤول والحاكم والرئيس، إذا كنت على حق فلم تخاف من مواجهةٍ مباشرةٍ مع الناس، عبر مؤتمرات صحفية حرة ولقاءات جماهيرية عامة مفتوحة وحوارات تلفزيونية مباشرة؟ وإذا كانت على باطل في موقفك فما أجدر بك أن تتراجع عنه وتعتذر به وحينئذٍ سيحبك الناس أكثر، وتستتب لك الأمور ويصفو لك الملك ويحلو (إن كنت من طلابه!).
وهي رياضة للنفس ورفق بالناس وطريق سالكة للهدف
ويقول الأمير (عليه السلام): (فَإِنَّ فِي ذَلِكَ رِيَاضَةً مِنْكَ لِنَفْسِكَ وَرِفْقاً بِرَعِيَّتِكَ وَإِعْذَاراً تَبْلُغُ بِهِ حَاجَتَكَ مِنْ تَقْوِيمِهِمْ عَلَى الْحَقِّ)[30] فهذا هو سبيل النجاح والفلاح لا ما تتحصن به حكوماتنا ومسؤولونا وكبارنا، من مفكرين ومثقفين أو علماء أو عاملين، من التسلح بالسكوت والغموض، والتحصن بالاحتجاب عن الناس والمعارضة، والتسلح بسلاح الرفض لأن يوجه إليها أي نقد واعتراض، والابتعاد عن أي لقاء علني شفاف، ولذلك قال (عليه السلام) أيضاً:
(فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ)
2- (فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ وَلَا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي إِلَّا أَنْ يَكْفِيَ اللَّهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُه)[31] وهو (عليه السلام) يطالب الناس علناً بأن لا يكفوا، بل ان يدأبوا على، المقالة بحق والمشورة بعدل، وقد أثبت (عليه السلام) عملياً إذ فسح المجال، ولم يعاقب شخصاً أبداً على نقده له بل حتى انه (عليه السلام) لم يوجه ضغوطاً خفية إليه، كما نفعل نحن، لمجرد ان أحدهم انتقده إمام المسلمين، بل ترك (عليه السلام) حتى الأشعث بن قيس والخوارج يسبّونه علناً بمرأى من الناس ومجمع، ومع ان ساب الإمام (عليه السلام) يستحق الحد إلا انه لم يحدّ ولم يعزر ولم يسجن ولا قطع العطاء ولا ولا ولا… بل قال مقولته الشهيرة للخوارج: (لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تُصَلُّوا فِيهَا وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ)[32].
(فَإِنَّمَا أَنَا وَأَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لَا رَبَّ غَيْرُه) وهي كلمة عظيمة تؤشر بصراحة إلى المساواة التامة في هذا الحق وان الحاكم والمحكوم سيان في كونهما مربوبين لرب العالمين فكيف يترفع أحدهما عن استماع نقد الآخر أو يأبى نهيه له عما يراه المنكر؟
3- (فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ)[33]، والبادرة تعني الغضب إذ الناس تخاف من المسؤول والرئيس والوزير وحتى الشرطي إذا غضب، لكنه (عليه السلام) نهى عن أن يتحفظ الناس منه (عليه السلام) أي من الاعتراض عليه ونقده، بل لهم مطلق الحرية في أمر الحاكم بالمعروف ونهيه عن المنكر فيما بدا لهم انه معروف أو منكر. (ولو أريد ما يراه الحاكم معروفاً أو منكراً، للزم نقض الغرض واللغوية من تشريع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
(وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَة) أي المداهنة والمجاملة والمراءاة.
مَن استثقل حتى سماع الحق أيعقل أن يعمل به؟
(وَلَا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالًا فِي حَقٍّ قِيلَ لِي وَلَا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْه) وهي كلمة غريبة ودقيقة تماماً فإذا إذاً رفض أحدنا (الأب، رئيس الشركة، أستاذ المدرسة – الجامعة – الحوزة، رئيس العشيرة أو الحزب، الوزير أو الملك أو الأمير أو القائد) الحقَّ أن يقال له الحق أو العدل أن يعرض عليه، فكيف يخضع له؟ فإذا ثقل عليه حتى سماعه فكيف يهنا له العمل به؟.
يقررون الحرب أو غيرها دون أن يسمحوا حتى مجرد السؤال بلماذا؟
والمؤلم المفجع ان المسؤولين في بلادنا يتخذون قرارات اقتصادية أو مواقف سياسية انتجت ارتفاع نسبة الفقر، والبطالة، والعنوسة والفحشاء والجريمة في بلادنا ثم لا يفسحون المجال لأحد، من علماء وقادة مجتمع ومفكرين ومراكز دراسات، حتى بسؤالهم، في مؤتمرات صحفية مفتوحة وحوارات تلفزيونية مباشرة، عن خلفيات قراراتهم ولماذا؟
كما نجدهم يتخذون قرارات صلح مع هذه الدولة الاستعمارية أو تحالف أو تعاون، وقرار حرب مع تلك الدولة أو إذكاء النزاع أو الصراع معها، من دون أن يرجعوا إلى عامة الناس بل ومن دون أن يسمحوا لأحد بأن يسألهم عن مرجحات باب التزاحم في أنظارهم التي دفعتهم إلى ذلك، إنهم لا يسمحون بمجرد السؤال، والاستعلام والاستفهام فكيف بالنقد والاعتراض؟، مع انه لو فعلوا ذلك لنالوا إحدى الحسنيين: فإما أن يكونوا على حق – موضوعي – علمي فتكون لهم الحجة على الناس والمعارضة، وأما على باطل أو خطأ فيتراجعون، بشجاعة متحلين بالروح الكبيرة التي تقبل النقد فتبني بذلك المجد ويزداد الناس لهم بذلك حباً وإكراماً!
(اللَّهُمَّ إِنَّا نَشْكُو إِلَيْكَ فَقْدَ نَبِيِّنَا، وَغَيْبَةَ إِمَامِنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَتَظَاهُرَ الزَّمَانِ عَلَيْنَا، وَوُقُوعَ الْفِتَنِ بِنَا، وَكَثْرَةَ عَدُوِّنَا، وَقِلَّةَ عَدَدِنَا، فَفَرِّجْ ذَلِكَ يَا رَبِّ بِفَتْحٍ مِنْكَ تُعَجِّلُهُ، وَنَصْرٍ مِنْكَ تُعِزُّهُ، وَسُلْطَانِ حَقٍّ تُظْهِرُهُ، وَعَافِيَةٍ مِنْكَ تُجَلِّلُنَاهَا، وَرَحْمَةٍ مِنْكَ تُلْبِسُنَاهَا، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، آمِينَ رَبَّ الْعَالَمِينَ)[34].