بُعد جديد للمقاربة السياسية في العراق بعد خطاب مقتدى الصدر

 نرمين سعيد

 

ليلة دامية عاشتها بغداد على وقع قرار زعيم التيار الصدري باعتزال العمل السياسي، وفهم أن تغريدة الصدر باعتزال العمل السياسي مثلت بداية الأزمة، إلا أن بدايتها كانت من طهران وتحديدًا بعد بيان كاظم الحائري “المقيم في إيران” والذي أكد فيه أن المرجعية العليا هي في قم وليست في النجف وأنه يعتزل العمل الديني ويدفع بأتباعه لمرجعية علي خامنئي، مما استدعى رد فعل من زعيم التيار الصدري خرجت على إثره المظاهرات ووصلت إلى المنطقة الخضراء معلنة بدء ليلة لم تشهد بغداد مثلها منذ سنوات.

ولكن منذ ساعات قرر زعيم التيار الصدري إنهاء الفتنة التي أُشعلت والدفع بالأسلحة لخنادقها فخرج في خطاب نادى فيه مناصريه بالانسحاب من المنطقة الخضراء بل وفض الاعتصام السلمي حول البرلمان. وإذا كانت إيران ضلعًا أساسيًا في ليلة الرعب التي عاشتها، بغداد فمن الأهمية تفنيد بيان كاظم الحائري من حيث المغزى والتوقيت على النحو التالي:

أولًا) قراءة في بيان الحائري: 

مثّل بيان كاظم الحائري حدثًا غير مسبوق على صعيد المرجعيات الشيعية التي لم يسبق لأحد منها أن تقدم باستقالة علنية خصوصًا، ما إذا كان سيحيل مريديه إلى مرجعية أخرى. وقد قصد من هذه الاستقالة فقط توجيه إهانة لمقتدى الصدر، وقد مثلت هذه الإهانة ساعة الصفر لتحول الاعتصام السلمي المفتوح أمام البرلمان إلى تحشيد عسكري. ومما يؤكد هذا الاعتقاد أن زعيم التيار الصدري اضطر إلى قطع مهلة الـ 72 ساعة التي منحها للقوى السياسية التي انخرطت في العمل السياسي منذ عام 2003 للانسحاب معلنًا اعتزاله.

ولكن المتابع لمسيرة الحائري يعرف أن الرجل هو مفتي الميليشيات الموالية لإيران، وأنه لعب نفس الدور التحريضي دون أن يعلن استقالته في وقت سعت فيه إيران إلى السيطرة في سوريا وهو أحد أكبر المؤيدين لتوسيع نفوذ إيران الإقليمي، وقد مثلت فتواه في سوريا في عام 2013 الباب الأوسع لدخول الميليشيات الموالية لإيران على خط الأزمة السورية وهي التي لا تتحرك عادة إلا بفتوى دينية.

وقد اختارت طهران ساعة الصفر بدقة عندما انتوت تحريك الأمور الآن عن طريق رجل دين غير خامنئي؛ خوفًا من أن ينعكس أي تدخل لخامنئي على عرقلة المفاوضات النووية وعلى صورة إيران التي تحاول تصحيحها إقليميًا ودوليًا. ولكنها فوتت أن أتباع الحائري يتبعونه في المسائل الشرعية والدينية وليس السياسية، ومما يؤكد على هذا الدفع أن أتباع التيار عندما تحركوا في الشارع، تحركوا بناء على رد مقتدى الصدر وليس ردًا على بيان كاظم الحائري.

ولو كان الأمر مجرد استقالة لأسباب صحية لما حمل بيان الحائري دعوة صريحة لأتباعه وهو تلميذ محمد باقر الصدر لاتباع “علي خامنئي” في قُم، وهو ما يمثل نية صريحة لعزل مقتدى الصدر من الناحية الدينية، ويشير بوضوح إلى تحريك إيران للأمور عن طريق الحائري في استباق لقرار المحكمة الاتحادية الذي تم تأجيله اليوم بسبب صعوبة ممارسة المحكمة لمهامها.

أو بعبارة أخرى مثّل بيان الحائري محاولة إيرانية لعرقلة المحكمة الاتحادية التي كان من الممكن أن تصدر قرارًا بحل البرلمان العراقي. وكانت طهران على اطلاع جيد بأن البيان سيمثل استفزازًا دينيًا ضخمًا لزعيم التيار الصدري، وأن هذا الاستفزاز سينجم عنه ردة فعل عنيفة تم استهلالها بتغريدة مقتدى الصدر.

أرادت طهران عن طريق بيان الحائري الخروج من لعبة السياسة والعزف على وتر الدين لتقوم بما يمكن وصفه بانقلاب ديني في العراق. ويذكر هنا أنه بعد بيان الحائري، أعلن الأمين العام لحركة النجباء، رجل الدين أكرم الكعبي، وهو قائد فصيل مسلح كذلك، التزامه بتعليمات الحائري.

ثانيًا) ماذا يترتب على خطاب مقتدى الصدر اليوم؟

بداية، ينبغي التأكيد على أن عودة الجمهور الصدري إلى الاحتجاجات مثلت نقطة تحول مهمة في مسار العملية السياسية، وعلى أقل تقدير سمحت بحلحلة الأمور التي كانت عالقة منذ انتخابات أكتوبر 2021، وربما أفادت طهران بغداد من حيث أرادت أن تتسبب لها بالضرر؛ فللمرة الأولى منذ بدأت الاعتصامات في بغداد يخرج زعيم التيار الصدري في خطاب متلفز ليؤكد على رفض لكل أشكال تعطيل المؤسسات الحكومية وإن كان عن طريق الاعتصامات السلمية.

وقد كانت سرعة انسحاب مؤيدي التيار الصدري قياسية ربما حتى بالنسبة لمقتدى الصدر نفسه الذي لوح بردود أخرى حال رفض المحتشدون الانسحاب. وعلى قدر تأثيره كرجل دين في الحياة السياسية، إلا أن تأثيرًا بهذا المستوى يقلق أكثر من كونه يطمئن، أولًا لأنه يعطي قوة مطلقة لمرجعية دينية لتبسط سيطرتها على الحياة السياسية، وثانيًا لأن مقتدى الصدر بدا من خلال انعكاسات خطابه الأخير الرجل الأقوى من رئيس الوزراء ورئيس الجمهورية بل وحتى من قوات الأمن في الشرطة والجيش لأنه كان الوحيد القادر على عكس المشهد.

ومن الناحية السياسية، لا يتوقع أن ينتج بيان الصدر أكثر مما أنتجه بسحب المحتشدين من المنطقة الخضراء، ويرجع ذلك إلى أن المشكلة السياسية ما زالت قائمة ومتمثلة في الإطار التنسيقي وخيار حكومة المحاصصة التي يئس العراقيون من جدواها، صحيح أن مقتدى الصدر أكد اعتزاله العمل السياسي نهائيًا وهو بذلك يترك الساحة خالية تمامًا أمام باقي القوى السياسية وعلى رأسها الإطار، ولكنه لا يحل الإشكالية الخاصة باختيار المتظاهرين للخروج مرة أخرى للشارع لأن مشكلتهم لم تكن مع التيار الصدري وإنما هي مع سياسات الإطار التنسيقي ومن يمثله.

ولكن من ناحية أخرى، يمكن أن يخلف خطاب زعيم التيار الصدري آثارًا على صعيد إعادة النظر في أمر الفصائل المسلحة، وقد حرص الصدر خلال خطابه على التأكيد على أن قوات الحشد الشعبي بعيدة عن الانتقادات التي يقوم بتوجيهها، على الرغم من أن المحتشدين شبهوها بتنظيم داعش الإرهابي، ولذلك يفهم من طبيعة حديث الصدر عن الحشد الشعبي أنه لم يرد أن يتم صبغ حديثه بأي صبغة سياسية، ولم يرد الدخول في مواجهة مع الإطار التنسيقي لأن الكرة بالفعل أصبحت في ملعبه. ولكنه في نفس الوقت لم يفوت انتقاد الفصائل المسلحة التي وصفها بالوقحة والتي هي جزء بالطبع من الحشد الشعبي.

وعلى الناحية الأخرى من المعترك كان مقتدى الصدر شديد اللهجة مع أتباع تياره إلى حد التبرؤ منهم في حال استمرار الاحتشاد والاشتباك المسلح. ويعتمد الصدر في ذلك على نقاط تنبثق من تأثيره الديني فضلًا عن تأثيره السياسي والذي يمنحه نوعًا من القداسة التي يصعب على أتباعه تجاوزها، إلا أنه يمكن القول إن الصدريين فقدوا اليوم بالفعل دعمهم المذهبي والروحي في مواجهة الفساد والمحاصصة.

ثالثُا) الانعكاسات السياسية للمقاربة الحالية:

من الواجب أن يتم وضع المخرجات السياسية الناتجة عن خطاب الصدر في نصابها الصحيح دون المبالغة في عقد الآمال على حلحلة الأمور بشكل كبير، فالصراع من بدايته هو صراع داخل البيت الشيعي وليس للقوى الأخرى من أكراد او سنة دخل فيه، ومن ثم فإن الأمور معلقة على رد فعل الإطار التنسيقي. وبما أن الصدر انسحب من العملية السياسية فإنه من المتوقع أن تكون هناك حالة حوار بين التنسيقي والأكراد والسنة، مع التأكيد على أن مشروع مقتدى الصدر لنظام سياسي جديد انهار قبل أن يبدأ لأنه مرفوض من كل القوى الداخلية والخارجية تقريبًا، مدفوعين بأسباب منطقية تتعلق بأن الذهاب إلى مسارات غير دستورية يظل مجهول العواقب، والوضع الحالي لا يتحمل أي قدر من المقامرة أو الغموض.

ربما أراد الصدر أن يراهن على مشروعه باحتجاجات سلمية، ولكن ما شهدته بغداد بالأمس وصباح اليوم يؤكد على أن مسألة السلمية في احتجاجات شيعية- شيعية تصور حالم أكثر من اللازم وأن الأمور لابد وأن تنفلت لمواجهة مسلحة لاقت كل الرفض من جميع الشخصيات السياسية المؤثرة وحتى المعتدلة داخل الإطار التنسيقي وعلى رأسهم حيدر العبادي الذي أكد أن على العقلاء وضع الحلول لمنع العودة إلى الاحتراب العبثي وتعريض أرواح المواطنين للخطر وتقويض الدولة ومصالح أبنائها، وقال العبادي في تغريدة على تويتر “يجب انسحاب كل المسلحين فورًا ولا مبرر للدولة أن تقف عاجزة ومتفرجة، خصوصًا بعد خطاب السيد مقتدى الصدر بسحب من يدعي الانتماء إلى التيار وهذه تحسب لسماحته ،خصوصًا أن الصدر اعتذر في كلمته للشعب العراقي.”

ختامًا، الانسداد السياسي الذي تعيشه بغداد اليوم بعد خطاب مقتدى الصدر يعني العودة إلى المربع الأول ولهيمنة طهران على العملية السياسية في العراق، وإذا لم ينجح حوار وطني حقيقي في الخروج بمعطيات جديدة فقد يصبح دخول السيستاني ضروريًا على خطوط الأزمة؛ وذلك لعدة أسباب، أهمها أن سقوط ضحايا بالأمس يحرج المرجعية الدينية ويدفعها إلى تهدئة الأمور بالضبط كما فعل مقتدى الصدر اليوم، ومن ناحية أخرى فإن مرجعية النجف تتحسس مسدسها تجاه الفصائل الموالية لإيران في الحشد الشعبي وتخشى من أن مركزية النجف ستتأثر إذا شاع خطاب دعاة ولاية الفقيه، وكان تفكيك بعض هذه الفصائل وإلحاقها بالجيش العراقي أحد أبرز الانعكاسات لقلق مرجعية النجف من تأثير هذه الفصائل.

ومن الأسباب الأخرى التي تجعل من تدخل السيستاني مطلوبًا هو أن القوة الأخرى التي نافست إيران على النفوذ في العراق تنتهج مسارًا جديدًا في التع امل مع العراق، فواشنطن تميل اليوم إلى ترك العراقيين ليحلوا مشاكلهم السياسية بأنفسهم في انعكاس لمنهجية التخلي والاختزال التي حكمت علاقات الولايات المتحدة بمنطقة الشرق الأوسط منذ وصول ترامب للسلطة.

 

.

رابط المصدر:

https://marsad.ecss.com.eg/72584/

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M