كان قطاع الطاقة أبرز القطاعات الدافعة للنمو الاقتصادي في السودان، وقد نتج عن انفصال جنوب السودان وجود دولتين إحداهما حبيسة والأخرى تفتقر للموارد النفطية. وقد أدى ذلك إلى زيادة حدة التحديات الاقتصادية في السودان الذي جاهد من أجل تعويض عائدات النقد الأجنبي، إلا إنه ظل يعتمد على رسوم نقل النفط عبر خطوط الأنابيب التي تربط حقول النفط الرئيسة في جنوب السودان بالموانئ في السودان.
ويتبين من ذلك أهمية توفر البنية التحتية في السودان واستمرار عمل الموانئ البحرية وتطويرها، إلا أنه منذ اندلاع الاشتباكات بين الجيش السوداني والدعم السريع في الخرطوم في منتصف أبريل الماضي تعددت المخاوف من تهديد تلك الاشتباكات لصادرات النفط من جنوب السودان ومن ثم التأثير على موارد الدولتين.
اتفاقات نقل النفط بين السودان وجنوبه
بعد انفصال جنوب السودان عن السودان، استحوذ جنوب السودان على نحو 75% من إنتاج النفط وأصبح ثالث أكبر منتج للنفط في افريقيا، وخسر السودان ما يقرب من 100 ألف برميل نفط يوميًا. ومن جهة أخرى، لم يتمكن جنوب السودان من تصدير النفط إلا من خلال خط أنابيب إلى البحر الاحمر عبر السودان.
ودارت محادثات عديدة بين الطرفين للوصول لصيغة مرضية لتعويض السودان عن الخسارة المالية المترتبة على الانفصال. وفيما يتعلق بخسائر النفط، تم الاتفاق في ديسمبر 2012 على دفع جنوب السودان نحو 24 دولار أمريكي لكل برميل من صادرات النفط. وقد أدى هذا الاتفاق إلى اعتماد السودان على حجم إنتاج وتصدير جنوب السودان من النفط والذي شهد اضطرابًا وانخفاضات عدة مرات، ومن جهة أخرى فقد تأثرت إيرادات جنوب السودان بأسعار النفط العالمية والتي شهد بطبيعتها عدة تذبذبات.
وفي عام 2016، تم التوصل إلى اتفاق جديد بين الدولتين يتضمن تغيير رسوم العبور وفقًا للأسعار العالمية بدلًا من كونها مبلغًا ثابتًا. واتُفق كذلك بين الخرطوم وجوبا على دفع الالتزامات المالية الناتجة عن الانفصال المقدرة بنحو 3 مليارات دولار خلال فترة أطول.
أبعاد تأثير الاشتباكات في السودان على سوق الطاقة
يحتمل أن تؤدي الاشتباكات إلى تهديدات لسوق الطاقة في السودان نتيجة عدة أسباب؛ منها: استهداف الوزارات والهيئات الحكومية والتي من بينها وزارة الطاقة والنفط وخزانات الوقود في مطار الخرطوم، وكذلك تدمير البنية التحتية والتي تنعكس على حركة انتقال الطاقة خاصة النفط الخام الذي يتم تصديره من جنوب السودان عبر الموانئ البحرية السودانية.
وقد بلغ إجمالي صادرات الوقود والزيوت المعدنية من جنوب السودان عام 2022 نحو 376 مليون دولار أمريكي، واستحوذت الصين على النسبة الأكبر منها. وتعد الصين وإيطاليا وأستراليا وإسبانيا وموزمبيق والهند وسنغافورة والإمارات وأوغندا وتنزانيا أهم الأسواق المستوردة لمصادر الطاقة من جنوب السودان.
التأثيرات المحتملة على اللاعبين في أسواق الطاقة
يلاحظ تضاؤل حصة جنوب السودان من صادرات الوقود والزيوت المعدنية بالنسبة للصادرات العالمية، الأمر الذي يحد من التأثير على أسواق الطاقة العالمية. وبشكل عام، يعد السودان وجنوب السودان هما أكبر الخاسرين جراء تأثير الاشتباكات في السودان على سوق الطاقة؛ إذ يتوقع ارتفاع أسعار الطاقة في السودان مع زيادة حدة الصراع الذي يؤدي إلى انخفاض المعروض من النفط خاصة إذا تم إيقاف تدفقات النفط من جنوب السودان، وسينعكس التأثير الأكبر على المواطن السوداني بعد تحرير أسعار الطاقة وإلغاء دعم البنزين والديزل الذي بدأ تدريجيًا منذ 2012 ضمن حزمة تدابير تقشفية ترتبت على انفصال جنوب السودان.
ومع ارتفاع أسعار الطاقة، يتوقع زيادة حدة موجات التضخم والتأثير على عدة قطاعات إنتاجية في السودان، أبرزها قطاع الصناعة الذي يعاني بالأساس من انخفاض الطاقة الإنتاجية مقارنة بالطاقة القصوى، ويرجع ذلك بصفة أساسية إلى انخفاض مصادر الطاقة.
أما بالنسبة للتأثير على جنوب السودان التي تعد دولة حبيسة غير ساحلية وتعتمد على موانئ السودان لتصدير منتجاتها، فيؤدي تزايد حدة الاشتباكات في جارتها الشمالية إلى تفاقم عزلتها وتتعطل كافة معاملاتها التجارية، ومن ثم فإن عليها البحث عن فرص أخرى لتصريف منتجاتها، والحفاظ على مواردها من النقد الأجنبي، خاصة في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية العالمية.
وقد يدفعنا ذلك إلى العودة مرة أخرى إلى التأثير على الاقتصاد السوداني والذي يعتمد على تحصيل رسوم عبور النفط من جنوب السودان، فتنخفض الموارد المحصلة مع تعطل حركة نقل النفط من الجنوب. ومن جهة أخرى، تعد الأسواق المستوردة من المتضررين المحتملين أيضًا.
وأخيرًا، يلاحظ أن الاشتباكات الجارية في السودان سوف تفرز آثارًا سلبية كبيرة على دولتي السودان وجنوب السودان، الأمر الذي يتطلب أولًا ضرورة إدراك طرفي الصراع في السودان لمخاطر ذلك الصراع وبصفة خاصة الخطورة الاقتصادية في ظل مرحلة الانكماش التي تشهدها الدورة الاقتصادية عالميًا.
وبعد انتهاء الاشتباكات، هناك ضرورة للإسراع في إعادة تطوير البنية التحتية في السودان وإصلاح أية خسائر مترتبة على الصراع. وعلى المدى الأطول نسبيًا، ينبغي العمل على تشجع الاستثمارات في مجالات الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية والطاقة الكهرومائية لتأمين مصادر البلاد من الطاقة، وزيادة موارد الدولة من النقد الاجنبي المتولدة من جذب الاستثمارات الأجنبية. ويجب البحث كذلك عن فرص توليد إيرادات غير نفطية من خلال تطوير قطاع الزراعة والثروة الحيوانية والصناعات الغذائية، والتعدين.
أما بالنسبة لجنوب السودان، فعليه تكثيف جهوده للبحث على طرق بديلة لنقل النفط لمستورديها، وهو أمر ليس باليسير في الأجل القصير؛ خاصة مع ضعف مصادر التمويل المحلية لإنشاء خطوط أنابيب جديدة. ومع محدودية تأثير الاشتباكات على أسواق الطاقة العالمية، ينخفض الدافع الدولي لضخ التمويل اللازم لإنشاء تلك الخطوط الجديدة، وإن كان يمكن مشاركة الصين والهند وماليزيا.
وختامًا، على الرغم من انفصال الدوليتين لا تزال تربطهما المصالح النفطية المشتركة، ومن ثم فعلى كلا البلدين بعد انتهاء الصراعات الداخلية بكل منهما تعزيز العمل المشترك لضمان النهوض بقطاع الطاقة وزيادة الموارد الأجنبية لدفع النمو الاقتصادي والنهوض بالمستوى المعيشي لمواطنيهما.
.
رابط المصدر: