تأثرت أسواق السلع والغذاء فور تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية في الرابع والعشرين من فبراير لتصب مزيدًا من الوقود على أزمة ارتفاع أسعار السلع الغذائية والزراعية والمعادن والطاقة التي يشهدها العالم منذ نهاية العام الماضي بضغط من التعافي الاقتصادي وإعادة فتح الاقتصادات العالمية، مما أرسل معدلات الطلب إلى مستويات أعلى من تلك المسجلة قبل وباء كورونا، وذلك بالتزامن مع انحسار مستويات المعروض واضطراب الإمدادات وسلاسل التوريد.
تأثيرات عالمية
ألقت الأزمة الجيوسياسية بين موسكو وكييف بظلالها على أسعار الطاقة المُرتفعة بالفعل بسبب المخاوف المتزايدة بشأن احتمالية أن يؤدي الغزو الروسي لأوكرانيا إلى انقطاعات في إمدادات الطاقة، وارتفعت أسعار الحبوب والسلع الغذائية بشكل عام حيث تُعد روسيا وأوكرانيا ورومانيا من أكبر الدول المُصدرة للحبوب وخاصة القمح لجميع دول العالم عبر موانئ البحر الأسود التي قد تعاني من اضطرابات وانقطاع في سلاسل التوريد.
وفي هذا السياق، ارتفعت العقود الآجلة للذهب تسليم أبريل 2022 بنحو 3.47% إلى 2065.10 دولار للأوقية حتى الثامن من مارس 2022، وصعد السعر الفوري للمعدن النفيس بنحو 3.27% إلى 2063.49 دولار للأوقية. وارتفعت أسعار البلاتنيوم والبلاديوم خلال تعاملات الثلاثاء بنحو 4.61% و2.49% إلى 1179.06 دولار للأوقية، و3071.25 دولار للأوقية، وذلك بعدما حقق البلاديوم أعلى مستوياته على الإطلاق خلال تعاملات الاثنين الماضي. فيما قررت بورصة لندن للمعادن الثلاثاء تعليق تداول النيكل لبقية اليوم على الأقل، بعدما تضاعفت الأسعار لتجاوز المستوى القياسي البالغ 100 ألف دولار للطن.
وبالإضافة إلى ذلك، ارتفع سعر عقود القمح تسليم مايو بنحو 0.75% إلى 13.03 دولار للبوشل، وهو مستوى قريب من أعلى مستوى على الإطلاق عند 13.63 دولار للبوشل. وفي هذا الإطار، حذر “دايفيد بيسلي” رئيس برنامج الأغذية العالمي من أن الصراع الأوكراني قد يتسبب في زيادة أسعار الغذاء عالميًا مما يؤدي إلى نتائج كارثية في المناطق الأكثر فقرًا حيث تعد روسيا وأوكرانيا من الدول الأساسية في تصدير المواد الغذائية، فيما تسببت الحرب بينهما في التأثير على زراعة المحاصيل وقيادة الأسعار نحو الارتفاع. وحذر المسؤول الأمريكي في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” من أن الوضع الحالي يعرض المزيد من الناس في جميع أنحاء العالم لخطر المجاعة.
أما عن أسواق الطاقة، فقد سجلت عقود الغاز الطبيعي تسليم أبريل والمتداولة في هولندا “تي تي إف” بحوالي 11.44% إلى 190 يورو لكل ميجاوات في الساعة، في حين، ارتفعت العقود الآجلة لخام “برنت” القياسي تسليم مايو بنحو 1.89% إلى 130.40 دولار للبرميل، وزادت عقود الخام الأمريكي تسليم أبريل 1.56% عند 125.63 دولار للبرميل.
تأثيرات محلية
لا تعد مصر بمعزل عن هذه التطورات؛ إذ إنها ستتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالخلافات القائمة نظرًا لكونها أكبر مستورد للقمح في العالم ومستوردًا صافيًا للنفط. وفي هذا الإطار، يتناول الجزء الآتي تداعيات التوترات القائمة على الاقتصاد المحلي:
أولًا- اتساع عجز الميزان التجاري: تعتمد مصر على الخارج في تأمين احتياجاتها من الطاقة بسبب اتساع الفجوة بين العرض والطلب المحلى، ولذا فهي تعد مستوردًا صافيًا للنفط، ويُبين الرسم الآتي الفارق بين إنتاج واستهلاك النفط خلال عقدٍ زمني:
الشكل 1- فجوة إنتاج واستهلاك النفط (ألف برميل يوميًا)
يتبين من الرسم السابق وجود فجوة مستمرة في استهلاك النفط بلغت في عام 2020 نحو 43 ألف برميل يوميًا، مقارنة مع حوالي 24 ألف برميل يوميًا خلال عام 2010، بنسبة ارتفاع تبلغ 79.1% خلال عشرة أعوام، وذلك بسبب انخفاض حجم الاستهلاك بوتيرة أقل من تراجع حجم الإنتاج.
وبناء على ذلك، يعاني الميزان النفطي المصري من حالة عجز؛ إذ تتجاوز قيمة الواردات البترولية قيمة الصادرات البترولية بفارق بلغ حوالي 6.7 مليون دولار بانتهاء العام المالي 2020/2021، وذلك مقارنة مع فائض الميزان البترولي البالغ قيمته نحو 2.87 مليار دولار خلال العام المالي 2010/2011.
وانطلاقًا من وجود فجوة بين الإنتاج والاستهلاك المحلي من النفط ومن اعتماد الدولة المصرية على الواردات النفطية، فمن الممكن أن يتسع عجز الميزان التجاري النفطي خلال الفترة المقبلة متأثرًا بارتفاع ارتفاع أسعار النفط بما قد يؤدي إلى استنزاف الاحتياطي النقدي المصري ويضغط على قيمة الجنيه مقابل الدولار.
أما بالنسبة للغذاء، تعتمد مصر على الواردات -الروسية والأوكرانية على وجه التحديد- في تأمين احتياجاتها الغذائية ولاسيما القمح بضغطٍ من الفجوة المتسعة بين الطلب والإنتاج المحلي، حيث تبلغ نسبة واردات المواد الغذائية من إجمالي الواردات السلعية نحو 20.7%، وفقًا لتقديرات البنك الدولي، ولهذا، قد يؤدي ارتفاع أسعار الغذاء إلى اتساع عجز الميزان التجاري غير البترولي البالغ 42.1 مليار دولار خلال العام المالي الماضي، ومن شأن زيادة فاتورة الاستيراد أن تثقل كاهل الاحتياطي النقدي المصري.
ثانيًا- زيادة الأعباء على الموازنة: خصصت الدولة المصرية دعمًا للمواد البترولية بقيمة 18.41 مليار جنيه بموازنة العام المالي 2021-2022 مقابل 28.1 مليار جنيه للعام السابق، وقد حددت الموازنة أن دعم البترول تم احتسابه على أساس متوسط سعر للبرميل يبلغ 62 دولارًا. ومن شأن كل زيادة بقيمة دولار واحد في سعر برميل النفط عن السعر المحدد بالموازنة أن تؤدي إلى تغير في حجم الدعم المخصص لذلك البند بحوالي 3-4 مليارات جنيه.
وبناء على ذلك، مع ارتفاع أسعار خام برنت إلى حوالي 132 دولار للبرميل، فإن ذلك سيضيف أعباءً جديدة على الموازنة تتراوح قيمتها بين 210 مليار جنيه إلى 280 مليار جنيه (فارق السعر بين 132 دولار للبرميل المتوقعة، و62 دولار للبرميل المُحددة بالموازنة يُساوي 70 دولار للبرميل، بعد ضربها في 3-4 مليارات جنيه، يصبح الناتج 210-280 مليار جنيه). ونتيجة لذلك، من المُمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار النفط إلى الضغط على مستويات الإنفاق على هذا البند، وبالتالي ارتفاع العجز النقدي للموازنة ككل.
أما بالنسبة للغذاء فقد حدد مشروع موازنة العام المالي 2021/2022 سعر القمح المخطط استيراده بقيمة تبلغ 255 دولار للطن، مقارنة مع 193.8 دولار للطن خلال العام المالي السابق 2020/2021، بزيادة بلغت 61.2 دولار.
ثالثًا- ارتفاع معدلات التضخم: يمثل بند الأغذية والمشروبات نحو 35.87% من مؤشر أسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية، ولذا من المرجح أن يؤثر ارتفاع أسعار السلع الغذائية عالميًا على مستوى الأسعار محليًا انطلاقًا من مبدأ “التضخم المستورد” الذي ينشأ بسبب اعتماد الدولة على السلع والخدمات المستوردة من الخارج.
وفي هذا الإطار، ينبغي التأكيد أن الحكومة المصرية عملت على التغلب على أزمة ارتفاع الأسعار العالمية التي لاحت في الأفق قبل نشوب التوترات الجيوسياسية الحالية عبر تنويع مصادر توفير المنتج من خلال فتح مناشئ جديدة وتشجيع المزارعين علي زيادة المساحات والتوريد عبر الإعلان عن سعر البيع قبل الزراعة، وكذلك، أجرت محادثات مع بنك “سيتي جروب” للتوصل إلى اتفاق بشأن التحوط من زيادات أسعار القمح العالمية، وكذا أسهمت المشروعات الزراعية القومية كالدلتا الجديدة، ومشروع الصوامع في امتلاك مصر مخزونًا من القمح يكفي لمدة خمس أشهر مقبلة.
.
رابط المصدر: