يمان دابقي
مقدمة:
على وقع استمرار تفشي ما بات يُعرف بفيروس كورونا COViD 19 في أكثر من 140 دولة وبلوغ عدد الوفيات حتى تاريخ 23- آذار/ مارس 2020إلى أكثر من 15 ألف شخص، إلى جانب فشل معظم الجهود الدولية ومنظّمة الصحة العالمية في تقييد سرعة انتشار الفيروس وتقليل عدد الوفيات وإيجاد اللقاح المطلوب، أصبح النظام الدولي الحالي، يَشهد تحديًا بات يُهدد معالمه الأساسية كأول مرة منذ لحظة تشكله في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار جدار برلين في 1989الذي مهّد تباعًا إلى تداعي المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي.
ولِد النظام الدولي الراهن وتفردّت فيه أميركا بقيادة وزعامة العالم عبر سَنِّ مجموعة من الأعراف والمعايير والقواعد والاتفاقيات والآليات اشتركت بها عدة دول ومؤسسات ارتبطت بسياق هذا النظام، كدول حلف الناتو ومنظومة الاتحاد الأوروبي، ومجموعة العشرين، وصندوق النقد الدولي، ومجلس الأمن القومي، والأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية.
ومن المعروف أنَّ الولايات المتحدة طيلة عقود سعت لتحقيق مصالحها عبر هذا النظام فتبنّت مبادئ الديمقراطية السياسية، ورسمت استراتيجيات تحقيق الاستقرار الاقتصادي والتجارة العالمية، وتحسين قيم الليبرالية عبر تبنّي الانفتاح الاقتصادي والتبادل التجاري، والإدارة متعددة الأطراف التي وصلت لأوج ذروتها في منتصف التسعينات.
ولم تقتصر سمات هذا النظام في بعده الاقتصادي والتجاري والسياسي، بل اتسع ليشمل البعد الأمني كاستخدام القوة وتقييدها كي لا تتسبّب في اندلاع نزاعات عشوائية أو غير منضبطة، فأقرت بموجبه الولايات المتحدة سلسلة من الاتفاقيات والمعاهدات عبر مؤسسات الأمن والدفاع الجماعية، والمؤسسات السياسية والإقليمية، بهدف تنظيم قوانين الحرب والسلم، وحظر انتشار التسلح النووي، ومواثيق حقوق الإنسان وحماية البيئة والمناخ.[1]
وعلى هذه الأسس والمعايير أصبح متاحًا للدول المشاركة في هذا النظام أن تأخذ اعترافًا رسميًا بشرعيتها لكن ذلك بمقدار تقييدهم بمعايير وقواعد ناظمة لعمل النظام الدولي ككل في ثلاث مُحددات أساسية سياسة – اقتصاد – عسكرة.
وعلى أثر ذلك ساهمت العولمة التي صدّرتها دول ما بعد الحرب العالمية الثانية في تكريس دعائم هذا النظام وأرست ركائز النظام الليبرالي الغربي الذي ساهم في تحرير اقتصاديات العالم وربطها بالمجتمع الدولي.
لكن اليوم ومع تفشي وباء كورونا باعتراف منظمة الصحة العالمية، أصبح العالم أمام اختبار جديد، لا سيما بعد انهيار جسور الاتصال والترابط ومسارعة الدول في الانغلاق على ذاتها واعتمادها بشكل فردي على إمكاناتها الذاتية ومصادرها ومواردها المالية والاقتصادية في مواجهة خطر وتداعيات الوباء، حيث أعلنت غالبية الدول الغربية والأوروبية ودول الشرق الأوسط حظر التنقل والسفر والحجر الصحي، وتعليق الطيران المدني وإيقاف عمل الشركات الكبرى والمصانع والتجارة التي ترتبط وتتداخل بشكل عضوي مع الكثير من الدول، ومن شأن ذلك أن يحدث أزمات وهزات في الاقتصاد العالمي والميزان التجاري الدولي، خصِّيصًا أن الصين تُعد القاطرة الاقتصادية والضابط الحيوي لهما، فهي لوحدها تساهم بنسبة 17% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وتُعد من أكبر المستوردين للنفط، وهي المُصدّر الأكبر للسلع لدول أفريقيا وأستراليا وأمريكا اللاتينية ودول الشرق الأوسط، لذا فإن أي تراجع لعجلة الاقتصاد الصيني ستنعكس بشكل مباشر على الدول المتعاملة معها، كذلك الدول التي تعتمد في تعاملاتها الاقتصادية والتجارية مع الولايات المتحدة وأعمدة الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا، ستُعاني هي الأخرى من أزمات حادة على المستويين السياسي والاقتصادي، كون أن هذه الدول المذكورة تُواجه خطر جائحة الفيروس المستجد لذلك سخّرت غالبية مواردها المالية والاقتصادية لمواجهته، ما يعني تعرضها لخسائر مالية قد لا يتم تعويضها لعشرات السنين.
وانطلاقًا من هذا العرض فإن الإشكالية الحقيقية التي تُواجه العالم هي مدى قدرته على تجاوز الأزمة والخروج بأقل الخسائر، والتي في حال فشلها فإنّ التأثيرات السياسية والاقتصادية التي سيتركها الدومينو التاجي قد تدفع بالعالم إلى مرحلة تبلور نظام جديد، خاصة أن إرهاصاته بدأت تُطرح على الساحة الدولية مذ قَبْل انتشار الوباء، وقد دلت عليها عقدة الأزمات في العلاقات الدولية وأزمات التجارة والاقتصاد بين الولايات المتحدة والصين لما بات يُعرف بالحرب التجارية بهدف الهيمنة الاقتصادية على العالم، وصولًا إلى مشاكل التسليح التي تصدرت المشهد الدولي في العامين الماضيين وإعلان بعض الدول التنصّل من اتفاقيات التسليح، كما لا تغيب مشاكل النفط وانهيار أسعاره عن أزمات النظام القائم حيث وصل سعر البرميل ما دون 30دولار على أعتاب عودة المنافسة بين روسيا والمملكة العربية السعودية، وبلوغها مستوى تدخل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على الخط بذريعة لعبه دور الوسيط[2].
من شأن كل ذلك إلى جانب جائحة القرن أن تضفي بظلالها على هيكل النظام الحالي، وكما أصبح مطروحًا ذكره أن العالم قبل كورونا لن يكون كما بعده، أي أنّ تداعيات كورونا قد تكون فاصلة بين نظامين دوليَّين، ويمكن من خلال تتّبع مسار الأزمة التوقف عند بعض الدلائل والمعطيات التي تُشير إلى هذا التحول التاريخي، من خلال ثلاثة محاور أساسية وهي:
_ تخبّط دولي في التعامل مع الأزمة
_ تصدّع في منظومة الأمن الدولية
_ انكشاف اقتصادي عالمي
أولًا: تخبط سياسي دولي في التعامل مع الأزمة
وفقًا لعدة مصادر غربية كشفت عن ظهور أول حالة من مرض كورونا كانت بمدينة ووهان الصينية، في منتصف تشرين ثاني/ نوفمبر 2019، أي قبل شهر كامل من الإعلان الصيني الرسمي عن ظهور المرض. وفي نهايات كانون الأول/ ديسمبر 2019، اعترفت السلطات الصينية بوجود مرض مُعدٍ خطير، يصيب الجهاز التنفسي، في ووهان ومحيطها، لكن هذا الإعلان لم يأتِ إلا بعد ممارسة السلطات الصينية سلسلة إجراءات رقابية صارمة على الأجهزة والمؤسسات الإعلامية، حتى أنها عاقبت بعض الأطباء الذين أعلنوا عن وجوده في الصين، ومنهم الطبيب “لي وين ليانج”، الذي كان أول من أعلن عن وجود هذا الفيروس، وتم إجباره على التوقف عن الحديث حوله وقد توفي متأثرًا بإصابته به[3].
ولم يُعرف حتى الآن السبب الحقيقي من وراء الإجراءات التي اتخذتها بكين للتكتم عن حقيقة الفيروس، لكن موقفها الأولي في التعامل مع الفيروس قبل وصولها لمرحلة الاحتواء في منتصف شهر آذار/ مارس 2020، أدخلها في سجال سياسي مع بعض الدول، حيث أطلقت بعض الأوساط الأميركية على الفيروس مسمى الفيروس الصيني، وحمّلت الرئيس الصيني “شي جين بينغ” والحزب الشيوعي الصيني مسؤولية انتشار الفيروس. ورغم محاولة الرئيس دونالد ترامب الذي يخشى على حملته الانتخابية التقليل من البعد العالمي للآفة، إلا أن ذلك لم يمنع مستشاره للأمن القومي “روبرت أوبراين” من التصريح في 11آذار/ مارس 2020بأن رد الفعل المتأخر للسلطات الصينية على انتشار الفايروس ربما كلف العالم شهرين من الوقت قبل البدء باتخاذ الإجراءات اللازمة لمحاربة الداء.[4] وضمن إطار الحرب الكلامية جاء الرد من قبل المتحدث باسم الخارجية الصينية “تشاو لي جيان”، في 12آذار/ مارس 2020، مشيرًا إلى أن الجيش الأميركي ربما يكون وراء انتشار الفايروس في مدينة ووهان الصينية، باعتبارها بؤرة انتشاره الجديدة[5].
وفي 23 آذار/ مارس 2020، وبعد إعلانه حالة الطوارئ القصوى في البلاد وتشكيل خلية أزمة، عاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليقول إنه مستاء من موقف الصين حيال انتشار فيروس كورونا المستجد، متّهمًا بكين مجددًا بعدم مشاركة معلومات مهمة حول الوباء[6].
لقد سببت هذه المناورات السياسية بين الدول إلى جانب موقف إيران الرسمي المنضوي تحت عباءة التآمر الأمريكي، تلكؤ لغالبية الدول في العالم عن التدخل السريع لاحتواء الفيروس، وقد زادت المواقف الرسمية لبعض الساسة الدوليين من تباطؤ مرحلي للتعاطي مع الأزمة، فمثلًا اعترفت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورزولا فون دير لاين، باستخفاف الأوساط السياسية في البداية بوباء كورونا المستجد، وقالت في تصريحات لصحيفة بيلد الألمانية في 18آذار/ مارس 2020″أعتقد أننا جميعًا استهنا في البداية بفيروس كورونا”[7].
كذلك رئيسة المفوضية الأوروبية السياسية الألمانية “فون دير لاين” قالت بعد مضي شهرين على تفشي الفيروس حول العالم، إنه من الواضح الآن أن هذا الفيروس سيشغل الجميع لفترة طويلة، موضحةً أنَّ كافة الإجراءات المتخذة حاليًا كان لا بد من اتخاذها قبل أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، مذكرة بأن أوروبا تعتبر في الوقت الراهن بؤرة الأزمة.[8] فيما انتهج بعض الزعماء السياسيين أساليب أرعبت الجماهير وأجّجت مشاعر الخوف والقلق لديهم كتصريح رئيس الحكومة البريطانية بوريس جونسون في 12آذار/مارس 2020، حيث طالب شعبه بالاستعداد لانتشار الوباء مضيفًا: “أن الكثير من العائلات ستفقد أحباءها قبل الموعد”[9]. فيما جاءت المواقف الفرنسية والألمانية متناغمة مع الموقف البريطاني بالحديث عن أن أزمة كورونا الأخطر منذ الحرب العالمية الثانية، وأضافت ميركل أنه من الممكن أن يصاب ثلثي الشعب الألماني بالفيروس،[10] واللافت أن هذه التصريحات والمواقف الارتجالية كانت قد سبقت الإجراءات الوقائية الفعلية التي ترقى لمستوى الحدث.
حتى على صعيد أكبر دولة عظمى الولايات المتحدة الأمريكية كانت المواقف متناقضة بين المؤسسات الأمريكية، وكون أن التركيز كان منصب على موقف البيت الأبيض وشخصية الرئيس الحالي دونالد ترامب، فإن أهم ما تم كشفه هو عجز الولايات المتحدة في المستوى الصحي على تأمين وتلبية كافة الاحتياجات الوقائية، كبنية تحتية طبية متكاملة، أو توفير الاختبارات اللازمة للمواطنين، وقد كشف تقرير خاص لرويتز عن تفوق كوريا الجنوبية على أمريكا في إجراء الاختبارات على المواطنين لحظة اكتشاف الإصابات الأولى في كلا الدولتين، حيث اختبر الكوريون أكثر من مئتي وتسعين ألف شخص وحددوا أكثر من 8000 إصابة.
بالمقابل الولايات المتحدة التي تم الكشف عن حالتها الأولى في نفس اليوم مع حالة كوريا الجنوبية ، أجرت 60ألف اختبار فقط ضمن مختبرات عامة وخاصة، ونتيجة لذلك توقع العديد من الخبراء الطبيين أن الاختبارات المتأخرة والفوضوية في الولايات المتحدة ستُزهق آلاف الأرواح، وأضاف مسؤولون سابقون وخبراء في الصحة العامة: إن إدارة الرئيس دونالد ترامب أفلست بسبب القواعد والاتفاقيات الحكومية فبدلًا من صياغة القطاع الخاص في وقت مبكر لتطوير الاختبارات، كما فعلت كوريا الجنوبية، اعتمد مسؤولو الصحة الأمريكيون على مجموعات الاختبار التي أعدّتها المراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها، والتي ثبت أن بعضها معيب[11].
وفي الوقت الذي انشغل فيه كبار صناع القرار في البحث عن المسبب الرئيسي لانتشار الفيروس والتفكير بأولوية الاختيار والتفضيل بين حماية الشعب أو حماية المصالح الاقتصادية، كان الوباء يرسم خارطة انتشاره داخل قارات العالم الثلاث وحتى تاريخ 23 آذار/ مارس 2020، بلغت حجم الإصابات حول العالم بفيروس كورونا أكثر من ثلاثمئة ألف مصاب وأكثر من 15ألف حالة وفاة.
المصدر: coronavirus covid- 19
Gisanddata-mabs
يُوضِّح الشَّكل خارطة انتشار الفيروس حول العالم وتشير إلى أن أوروبا أصبحت مركز تفشي عالمي للفيروس. وقد غدت إيطاليا ضحية كبرى بعد وصول عدد الإصابات لأكثر من 7000مع عدد وفيات وصل لأكثر من 5000حتى تاريخ 22آذار/ مارس 2020، الأمر الذي أفقدها السيطرة التامة عن احتواء الفيروس وبلوغها حالة العجز القصوى التي استدعت طلب المساعدة من دول الاتحاد الأوروبي، ويبدو أنها تحولت لنموذج واضح اليوم أمام الخذلان الغربي والأوروبي لها بعد امتناع الجميع عن مد يد العون لها فيما يتعلق بالكمامات الصحية والأجهزة الصناعية التنفسية والتي وصلتها أخيرًا من الصين.
الشكل التالي يحدد مسار تفشي الفيروس في إيطاليا منذ كانون الثاني/ يناير 2020- إلى 29- آذار/ مارس2020.
المصدر: coronavirus covid- 19
Gisanddata-mabs
وقد عكست مواقف الدول الرسمية وخاصة دول الاتحاد الأوروبي عن أن المنظومات السياسية للبلاد لم تكن على مسافة واحدة لمواجهة خطر الفيروس ولم تكن جاهزة على الصعيد الصحي لاحتواء الأزمة، واتضح ذلك من خلال الإجراءات الفردية التي ستترك انطباعًا لاحقًا عند الكثير من دول الاتحاد حول إعادة التفكير في أولوياتها السياسية وطبيعة تحالفاتها، وبهذا الصدد يعتقد الكاتب الإيطالي باولو ديسوغوس: “أن من يظن أن العلاقات الأوروبية ستعود لما كانت عليه قبل هذه الأزمة واهم. خصوصًا بعد الإجراءات الانفرادية الألمانية التي رصدت 550مليار يورو لحماية مواطنيها، ونظيرتها الفرنسية التي رصدت 300مليار لنفس الغرض خارج إطار سياسة مشتركة في أروقة الاتحاد ولو كان كوفيد 19الفرصة التاريخية الوحيدة لخلق اتحاد سياسي واقتصادي وتكافلي حقيقي بين دول أوروبا، فقد تم إضاعتها تمامًا وبصورة لا عودة عنها “[12].
ثانيًا: تصدّع في منظومة الأمن الدولية
بعد النظر في الخلل السياسي الدولي في التعاطي مع الوباء العالمي، فبلا شك أن التحديات ستزداد إذا ما استمر الفيروس في الانتشار وقد يُلقي بظلاله على منظومة الأمن الدولية الخاصة بطبيعة النظام الراهن، ومن المعلوم قبل ظهور الفيروس على الساحة الدولية، فإن منظومة الأمن الدولية كانت تُعاني من تصدعات أمنية في دول شرق آسيا والشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا، وذلك بسبب الأثار السلبية التي نتجت عن مشاكل الهجرة وأزمات التسلح والمناخ، لا سيما في الفترة التي شهدت حركات احتجاجية في دول الشرق الأوسط، إلى جانب تصاعد أحزاب اليمين في دول أوروبا وبعض دول حلف الناتو، وصولًا إلى تصاعد أزمات الخليج الأمنية في بحر العرب.
واليوم ومع وقوف العالم أمام وباء عالمي، فمن شأن ذلك أن يقود الدول للتفكير بعد تجاوز الأزمة لإعادة النظر في منظومتها الأمنية وتحالفاتها الاستراتيجية، بمشهد يعيد للأذهان ما حدث خلال الحرب العالمية الأولى، حيث ساهم تفشي وباء 1918المعروف بالإنفلونزا الإسبانية، إلى تغير مسار الحرب وإعادة تشكيل الخارطة الجيوسياسية والتي تبلورت بشكل نهائي بعدما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها. وانطلاقًا من التجارب التاريخية فإن الأوبئة عبر التاريخ كانت دائمًا تفرض نفسها وتشكل تحديات أمام المنظومة الأمنية للدول وهو ما قاد بعض المفكرين لاعتبار أن فيروس كورونا قد يكون الأخطر على مستقبل البشرية والعالم ككل، كونه جاء في ظل بلوغ العالم لأوج التطور العلمي والعولمة الرقمية والاقتصادية التي حولت العالم لقرية كونية صغيرة، لكن بدلًا أن يكون هذا التطور مُساهمًا في اختفاء سريع للفيروس جاء ليكشف هشاشة العولمة ويعرّي نقاط ضعف النظام الدولي الحالي، لا سيما بعد تبادل الاتهامات عن احتكار المعلومات الخاصة بحاضنة الفيروس وفترة تطوره من قبل بعض الدول.
وبناءً عليه فإن كورونا بحسب مسؤول السياسات في برق الاستشاري كشفت عن خلل حتمي في مفاهيم الأمن الدفاعي القومي، وقد تُجبر الدول بعد تجاوز الأزمة على صناعة قاعدة بيانات معلومات شفافة ومرنة بهدف تدارك التغيرات الناشئة عن هرم صناعة القرار العالمي.[13]
كما اعتبر الدكتور ناثان تورونتو، المتخصص في شؤون الأمن غير التقليدي، والمدرس بالكلية العسكرية الأمريكية للدراسات العسكرية المتقدمة، أن المفهوم الواسع للأمن يتضمن أبعادًا اقتصادية وبيئية وسياسية. وعلى الصعيد السياسي فإن الوباء سيؤثر على الاستقرار الأمني والسياسي عبر اختبار قدرة الأنظمة على التصدي لمخاطرها. خاصة في الدول النامية التي لا تمتلك بنية تحتية صحية جيدة، مما يثير قلق المجتمع وقد يدفعه إلى السخط على النظام السياسي القائم[14].
ثالثا: انكشاف اقتصادي عالمي
لعل أهم المخاوف الدولية الراهنة في ظل استمرار تفشي الوباء التاجي، هي تقييم قيمة الضرر والأثر الذي سيحدثه الوباء على اقتصاديات العالم والتي شكلّت حلقات متصلة وسلال توريد بعد صعود الصين خلال ثلاثة عقود الماضية وانضمامها لمنظمة التجارة العالمية في2010. ومن المعلوم أن النظام الاقتصادي الدولي القائم مرّ بمراحل تطور منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وسقوط المنظومة الثنائية بين المعسكرين الشرق والغربي، حينها ظهرت الحاجة إلى قيام نظام اقتصادي عالمي جديد تكوّن من ثلاث مستويات، الأول هو النظام النقدي الدولي ممثلًا بصندوق النقد الدولي والذي أنشئ عام 1944وبدأ مزاولة نشاطه عام1947 . والثاني هو النظام المالي الدولي ممثلًا بالبنك الدولي والذي أنشئ في عام 1944، وبدأ أعماله منتصف عام1946 ، أما الثالث فهو النظام التجاري الدولي، ولم يكتمل هذا النظام إلا في منتصف التسعينات بعد إنشاء منظمة التجارة العالمية في بداية عام1955 .
وقد مثّلت فترة تسعينات القرن الماضي وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين، أهم محطة في تطوير النظام الاقتصادي الدولي، خاصة في حقبة الرئيس الأمريكي جورج بوش والذي أعلن في خطاب أمام الكونغرس في 1991ضرورة تعميق النظام الاقتصادي الدولي، واللافت أنه في تلك الفترة كانت الولايات المتحدة تسعى لإرساء نظام اقتصادي عالمي جديد بعد أن كانت الدول النامية هي التي تطالب بذلك، ويمكن تحديد معالم وآليات هذا النظام كما يلي:
– إعادة هيكلة للنظام الاقتصادي العالمي على أساس تكنولوجي بهدف تعظيم العوائد وإعادة توطين الأنشطة الصناعية والتكنولوجية، فقد بدأ يظهر هيكل النظام العالمي من منظور تكنولوجي، تأتي في مقدمته مجموعة من الدول الصناعية المركزية.
– الاتجاه إلى غلبة أيديولوجية اقتصادية وسياسية جديدة في عالم ما بعد الحرب الباردة بانتصار المعسكر الرأسمالي وبالتالي انتصار اقتصاد السوق وآليات السوق والليبرالية السياسية.
– التحول نحو الخصخصة والتخلي تدريجيًا عن اقتصاد التخطيط المركزي والقطاع العام إلى اقتصاد السوق الحر والقطاع الخاص.
– الاتجاه إلى عولمة الاقتصاد على نطاق كل أطراف الاقتصاد الدولي حيث يتحول العالم إلى قرية صغيرة محدودة الأبعاد متنافسة الأطراف بفعل ثورة التكنولوجيا والاتصالات.
وبعد التزام جميع الدول بالعمل على هذه المبادئ كمحددات أساسية في النظام الاقتصادي الدولي، ومع تطور مسيرة عولمة الاقتصاد، بدأت تظهر مساوئ هذا النظام مع تنامي المشاكل بين الدول الغربية والأوربية، على سبيل المثال تصاعد الخلاف بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على موضوع الدعم المقدم للمنتجات الزراعية، حيث كانت الولايات المتحدة تسعى إلى تحقيق أقصى قدر من التحرير في القطاع الزراعي، بينما رفض الاتحاد الأوروبي تحمل التزامات جديدة تتطلب تغيير السياسة الزراعية لأعضائه، كما تصاعد الخلاف بين الولايات المتحدة واليابان، حيث طالبت الأخيرة بضرورة مراجعة القوانين الأمريكية لمكافحة الإغراق، حيث ترى اليابان أن هناك مبالغة في هذه القوانين، ناهيك عن معارضة الدول النامية أيضًا لهذه القوانين المتعلقة بقضايا الإغراق، كما تصاعد الخلاف بين الدول النامية والولايات المتحدة الأمريكية حول قضايا صادرات المنسوجات والملابس الجاهزة وفتح الأسواق فيما يتعلق بتلك السلع، حيث رفضت الدول النامية هذا المطلب الأمريكي بشكل قاطع وتمسكت بعدم الربط بين تحرير التجارة وحقوق العولمة.
كذلك تصاعدت المظاهرات المناهضة للعولمة، والتي نادت بأن تكون العمالة التي تعتبر الناتج الرئيسي للنظام الاقتصادي العالمي الجديد أكثر وضوحًا وأكثر عدالة، وبالتالي أصبحت العولمة والنظام الاقتصادي العالمي الجديد بالنسبة للمجتمع المدني في أمريكا وفي الدول المتقدمة عائقًا أمام العدالة في توزيع الدخل وسببًا للبطالة والتعدي على حقوق الإنسان.
إضافة إلى أن أحداث الحادي عشر من أيلول عام 2001أثرت سلبيًا بقوة على الاقتصاد العالمي بسبب موجة المخاوف التي سادت العالم في أعقاب تلك الأحداث وتداعياتها وتأثيرها السلبي على حركة الاستثمارات والسياحة، ولا يختلف الأمر كثيرًا في أزمات الاقتصاد في عامي 2008- 2014إذ لا تزال بعض الدول تعاني من ارتداداتها.
كما أن صعود الصين اقتصاديًا على الساحة الدولية ومجيئها بآليات اقتصاد مدمج أعطت دلالات كبيرة على مساوئ النظام الاقتصادي الدولي، لا سيما أن نجاحها في خلق سلال توريد بين قارات العالم وصولًا إلى خطتها الاقتصادية بطريق الحرير أدت إلى كشف ثغرات هذا النظام، وذلك من خلال إقبال الدول عالميًا على التعامل معها.
ويُضاف إلى كل ما ذكر التأثير الظاهري على الاقتصاد بعد الانتشار السريع لوباء كورونا، فمنذ ظهوره في ووهان الصينية، بدأت عجلة الاقتصاد العالمي بالتراجع في كافة المجالات، وتسارعت التكهنات وتعددت الرؤى عن مدى الخسائر التي سيخلفها الفيروس على كبرى الدول والشركات المتحكمة في الاقتصاد الدولي، وقد عكست خطوات الدول المتسارعة في إغلاق حدودها البرية والبحرية وتكديس مواردها المالية والاقتصادية لحماية مواطنيها وإيقاف حركة الطيران والاستيراد والتصدير عن الشرخ الواضح في مفهوم الاقتصاد الدولي وأنذرت بانهياره.
كما انعكست حالة القلق والخوف الدولي على أداء أسواق المال العالمية، فتكبد البعض خسائر كبيرة، عندما تراجعت إلى مستويات هي الأدنى منذ شهور كمؤشرات الأسهم الأمريكية التي تراجعت بشكل حاد في أواخر يناير الماضي، لتخسر أكثر من 2%، كما تراجعت مؤشرات الأسهم الأوروبية بنسبة 1.5% في المتوسط في نفس الشهر[15].
ولم تتغيّب أسواق النفط عن الواقعة فانخفضت بشكل ملحوظ بسبب القلق الذي سيطر على المتعاملين بها، لخوفهم من أن يتسبب الفيروس في تراجع الطلب على النفط، ولا سيما في الصين التي تُعد المستهلك الأكبر للطاقة في العالم. وتراجعت أسعار النفط الخام إلى أدنى مستوى لها منذ 18عام، ومما زاد من مشاكل سوق النفط الخام بدء حرب الأسعار بين روسيا والمملكة العربية السعودية بعد الخلاف حول تخفيضات الإنتاج في اجتماع أوبك[16]. كما أثارت المخاوف المتزايدة من تفشي الفيروس التاجي إلى حدوث ركود اقتصادي بشأن الطلب العالمي على الطاقة، خاصة من قبل دول أوروبا والصين التي تعتمد استراتيجيات بعيدة الأمد في ربط عجلة التنمية الصينية مع دول العالم، لكن في ظل تصديها للوباء فإن المؤشرات تقود إلى انكماش في صادراتها بشكل مرحلي حيث صرّحت وكالة أو نكتاد لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارية والتنمية بأن صادرات الصين انكمشت بنسبة 2% منذ شباط/ فبراير الماضي، وأضافت بأن الدول أو المناطق التي ستعاني أعلى خسائر في التصدير بسبب تداعيات الفيروس هي الاتحاد الأوروبي، الذي من المتوقع أن تبلغ خسائره حوالي 15.6 مليار دولار، والولايات المتحدة بخسائر تقدر بـ 5.8مليارات دولار.
وقد رجّحت العديد من الوكالات الاقتصادية ومراكز الأبحاث التابعة لها أن يتجمد النمو الاقتصادي العالمي بنهاية العام الحالي إذا استمر انتقال فيروس كورونا بنفس السرعة إلى معظم دول العالم. حيث توقّع خبراء وكالة بلومبرج أن يكون العام الحالي الأسوأ منذ الركود العالمي الذي بلغ ذروته في عام 2009، وأن يفقد الناتج العالمي حوالي 2.7 تريليون دولار بنهاية2020[17].
خاتمة
تُشير كل هذه المعطيات إلى أن العالم بعد كورونا لن يكون كما قبله على الصعيدين السياسي العالمي والاقتصاد الدولي فقد نشهد نهاية للتعاملات المالية والاقتصادية التي ربطت اقتصاديات الدول بنفق العولمة، وقد يتم لجوء بعض الدول التي عانت من خسائر مالية كبيرة كإيطاليا وإسبانيا إلى الاعتماد على اقتصاد ذاتي محلي. أو تغير في طبيعة تحالفاتها السياسية والاقتصادية لتنويع مواردها وقد تكون الصين هي البديل الواضح لتلك الدول، لاسيما بعد نجاحها المرحلي في الترويج لنفسها على الساحة الدولية واستثمار إنجازاتها الداخلية سياسيًا في احتواء الفيروس. ووفقًا لصحيفة الفورين بوليسي[18] الأمريكية فإن نخبة من الدبلوماسيين والمفكرين والأكاديميين اشتركوا على بعض النقاط التي يرونها كتحولات في النظام العالمي في مرحلة ما بعد كورنا وهي كما يلي:
_ فشل الولايات المتحدة والغرب في قيادة العالم وتحويلها إلى الصين ودول جنوب شرق آسيا
_ تغير النظام العالمي وموازين القوى بشكل كبير
_ انتهاء نظام العولمة الاقتصادية والاعتماد المتبادل والبحث عن سلاسل توريد محلية
_ فشل المؤسسات الدولية في القيام بدورها الذي كان متوقعًا في التحذير والتنسيق للحد من الأزمة
_ توقع تفكك لمنظومة الاتحاد الأوروبي بعد فشله في مواجهة الأزمة على مستوى أعضائه
_ مزيد من الانكفاء على الداخل وتراجع للقضايا الدولية ذات الاهتمام المشترك
_ سيكون العالم أقل انفتاحًا وحرية وأكثر فقرًا.
_ الدول المنتصرة في أزمة كورونا هي التي ستكتب التاريخ.
“الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر برق للسياسات والاستشارات“
جميع الحقوق محفوظة لدى برق للسياسات والاستشارات©2020
RAND، مفهوم النظام الحالي، شوهد بـ 21- مارس – 2020.
موقع مصرواي، أسعار البترول العالمية تتراجع لأقل من 30 دولارًا للبرميل، ن- بـ 16- مارس 2020.
مركز الجزيرة للدراسات، كورونا 19: تخبط دولي واختناق اقتصادي، ن- بـ 16- مارس – 2020.
موقع اليوم السابع، مستشار الأمن القومي الأمريكي: الصين مسئولة عن تأخر الرد العالمي على كورونا، ن- بـ 11- مارس – 2020.
فرنس 24، مسؤول صيني يشك بضلوع الجيش الأمريكي في جلب فيروس كورونا لبلاده، ن- بـ 13- مارس- 2020.
العربية نت، ترامب “مستاء” من الصين ويعلن الطوارئ بالولايات المتضررة بكورونا، ن- بـ 23- مارس – 2020.
DW، رئيسة المفوضية الأوروبية: نحن جميعًا استهنا في البداية بأزمة كورونا، ن- بـ 18- مارس- 2020.
عربي بوست، فيروس كورونا.. العدو الذي لم نستعد له، وهؤلاء سبب الكارثة، ن- بـ 19-3- 2020.
يوتيوب، رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون يعالج تفشي فيروسات التاجية، ن- بـ 12- مارس- 2020.
DW، ميركل: 60 – 70 في المئة من سكان ألمانيا سيصابون بفيروس كورونا، ن- بـ 10- مارس- 2020.
[11] https://reut.rs/2WCpcBJ// REUTERS
Special Report: How Korea trounced U.S. in race to test people for coronavirus 18, 2020
ساسة بوست، على نار «كورونا» الهادئة… كيف تتغير سياسة إيطاليا الآن جذريًا، ن- بـ 20- مارس 2020.
[13] خاص محمود إبراهيم، مسؤول السياسات في برق الاستشاري، ن- بـ 11- مارس – 2020.
مركز المستقبل للدراسات، كيف تؤثر الأوبئة على الأمن الدولي، ن- بـ 13- فبراير- 2020.
TRT، فيروس كورونا والاقتصاد الدولي: هل نحن مقبلون على كساد عالمي، ن- بـ 11- مارس- 2020.
معهد واشنطن، حرب النفط بين السعودية وروسيا، لكننا قد نكون الضحايا، ن- بـ 10- مارس – 2020.
TRT، فيروس كورونا والاقتصاد الدولي: هل نحن مقبلون على كساد عالمي، ن- بـ 11- مارس- 2020.
صحيفة فبراير، نقلًا عن الفورين بوليسي، كيف سيبدو العالم بعد وباء كورونا، شوه= بـ 24- مارس- 2020.
رابط المصدر: