نوران عوضين
أعادت الحرب الروسية الأوكرانية لفت الأنظار إلى الأهمية التي تحتلها منطقة الشرق الأوسط في خريطة التفاعلات الدولية، الأمر الذي دفع القوى الدولية الكبرى إلى تعزيز أو إعادة تأكيد حضورها داخل تلك المنطقة، بغرض ضمان الاصطفاف إلى جانبها ليس فقط في الصراع الروسي الأوكراني فقط، وإنما أيضًا في التنافس الأمريكي الصيني الأوسع. وبذلك، يمكن فهم توالي القِمم المنعقدة في المنطقة خلال شهر يوليو 2022، حيث قمة “جدة للأمن والتنمية”، ثم قمة “طهران”. وعلى الرغم من كون الأخيرة كان الهدف منها بالأساس مناقشة تطورات الأوضاع في سوريا، إلا أن التحليلات قد رأت في هذه القمة ردًا على قمة “جدة” أكثر من كونها قمة حول سوريا. كذلك، فقد كان هدف القوى الدولية الكبرى –الولايات المتحدة وروسيا- من قمتي “جدة وطهران” هو توضيح المواقف وتأكيد الحضور، فضلًا عن اجتذاب الفاعلين بالمنطقة بغض النظر عن معالجة الأزمات التي تعاني منها المنطقة. وبناءً عليه، يمكن القول إن الملف السوري بات على هامش تجاذبات المتنافسين الدوليين والإقليميين، أو بمعنى أدق، على الرغم من حضور الملف السوري بالمناقشات التي تمت داخل أُطر تلك القِمم إلا أنه يتضح أن التوافق حول آليات التنسيق والعمل داخل سوريا أو حل الأزمة نفسها أصبح مرتبطًا بشكل أكبر بالتنسيق الجاري بين تلك القوى على ملفات أخرى، أو بناءً على ما تفرضه التحركات الميدانية للفاعلين داخل سوريا من ترتيبات.
الملف السوري داخل القِمم الدولية
منذ يناير 2017، بات ينظر لاجتماع الثلاثي الروسي والتركي والإيراني على أنه اجتماع دوري لدول ضامني مسار “الأستانة”، لمناقشة تطورات الأوضاع الميدانية والسياسية في سوريا، وما يترتب على ذلك من آليات تنسيق بين الأطراف الثلاث، وهو الأمر الذي ترتب عنه عدد من الترتيبات الميدانية كمناطق خفض التصعيد والالتزام بنظام وقف إطلاق النار في العديد من المناطق، والأهم هو تجاوز الأطراف الثلاث لمساحات التعارض البينية فيما يخص الأزمة في سوريا، والاتفاق على أهمية استمرار هذا النهج طالما استمر حال الأزمة على ما هو عليه، الأمر الذي تولد عنه محورية دور ضامني “الأستانة” في الأزمة، وبالتالي أهمية استمرار التوافق فيما بينهم.
ومع ذلك، لا يُعتقد أنه من الصواب إطلاق صفة “الدورية” على اجتماعهم الأخير. لقد كان آخر اجتماع واقعي جمع بين القادة الثلاث في سبتمبر 2019، ونتيجة لما رتبته جائحة كورونا من إجراءات احترازية عالمية، عقد القادة في يوليو 2020 اجتماع افتراضي، واتفقوا حينها على أن تكون العاصمة الإيرانية “طهران” هي مقر الاجتماع القادم للقادة، “عندما تسمح الظروف الوبائية بذلك”. لكن فرضت الحرب في أوكرانيا تأجيلًا جديدًا للاجتماع المنتظر، بل وتشير بعض التقارير إلى أنه قبل أسابيع كان الكرملين قد أعلن أن الزيارة قد تتم قبل نهاية الصيف، دون تحديد أي تفاصيل إضافية. إلا أنه على العكس من ذلك، أعلن الناطق باسم الكرملين “دميتري بيسكوف” في الثاني عشر من يوليو 2022، وقبل أيام من زيارة “بايدن” إلى الشرق الأوسط، عن تحديد يوم التاسع عشر من يوليو ليكون موعد القمة السابعة لقادة ضامني “الآستانة”، لتذهب بذلك التحليلات إلى الربط بين كلا الحدثين.
لم تخرج البيانات الختامية لهذه القِمم عن الحديث المعتاد فيما يتعلق بالشأن السوري. أشار البيان الختامي لقمة جدة للأمن والتنمية في بنده الثالث عشر إلى “تأكيد القادة بشأن ضرورة تكثيف الجهود للتوصل لحل سياسي للأزمة السورية، بما يحفظ وحدة سوريا وسيادتها ويلبي تطلعات شعبها، بما يتوافق مع قرار مجلس الأمن 2254، هذا بالإضافة إلى تشديد القادة على أهمية توفير الدعم اللازم للاجئين السوريين وللدول التي تستضيفهم، ووصول المساعدات الإنسانية لجميع مناطق سوريا”.
اتفق جزء من البيان الختامي لقمة طهران مع ما جاء بقمة جدة بخصوص الحل السياسي للأزمة بما يتماشى مع قرار مجلس الأمن رقم 2254، لكن دون إغفال التأكيد على محورية “المساهمة الحاسمة” لضامني الأستانة ومخرجات مؤتمر “الحوار الوطني السوري” الذي انعقد في سوتشي، في نشأة اللجنة الدستورية السورية، وذلك في إشارة إلى أهمية مسار الأستانة في حل الأزمة، هذا إن لم يكن التأكيد على كون هذا المسار أهم من مسار جنيف المدعوم من الولايات المتحدة، وأنه أساس استقرار الأوضاع في سوريا. ولما كانت قمة طهران مخصصة بالأساس لمناقشة الأزمة السورية، اشتمل البيان الختامي للقمة على تفصيلات أكثر، عبر جزء منها عن بنود بروتوكولية معتادة متعلقة بوحدة الأراضي السورية وأهمية الحفاظ على الهدوء في مناطق خفض التصعيد إلى جانب إدانة استمرار الهجمات العسكرية الإسرائيلية في سوريا، بينما عبر جزء آخر عن وجود مساحات خلاف في وجهات النظر بين القادة الثلاث.
حضر الرئيس التركي إلى القمة بهدف ضمني أساسي وهو إقناع نظيريه الروسي والإيراني بأهمية إجراء بلاده عملية عسكرية جديدة في منطقتي “منبج” و”تل رفعت” شمال سوريا، لكن يبدو أنه لم يوفق في تحقيق هذا الأمر وهو ما يمكن تلمسه عبر مؤشرين أساسيين. تمثل أولهما فيما أكده المرشد الأعلى للثورة الإسلامية “علي خامنئي” خلال لقائه مع “أردوغان” بشأن “وحدة الأراضي السورية، وأن أي هجوم على شمالي سوريا لن يخدم دول المنطقة، بل إنه سيخدم الإرهابيين فقط”.
فيما تمثل المؤشر الثاني في عدم تضمن البيان الختامي لأي بند يشير صراحة إلى مخاوف تركيا الأمنية الدافعة إلى إجراء عملية عسكرية جديدة في سوريا، في مقابل الاكتفاء بالتأكيد على مواصلة العمل معًا لمكافحة الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره. كذلك، يعد الهدف الأساسي المعلن لأنقرة من العملية – إلى جانب معالجة المخاوف الأمنية – هو توسيع وتأمين المنطقة الآمنة التي بدأت في تنفيذها بالفعل منذ عام 2018 في شمال سوريا، والتي يتمثل الهدف منها – وفقًا للإعلان التركي – في تشجيع اللاجئين السوريين على العودة إلى سوريا وتوطينهم داخل تلك المنطقة، وهو ما يتعارض مع وجهة النظر الروسية الإيرانية، والتي كانت واضحة في البيان الختامي للقمة، حيث “التأكيد على ضرورة تسهيل العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين داخليًا إلى أماكن إقامتهم الأصلية في سوريا، وضمان حقهم في العودة والدعم”.
على الرغم مما حمله البيان الختامي لقمة طهران من استبعاد وجود موافقة روسية إيرانية على العملية العسكرية التركية، واستمرار حال التنسيق بين الأطراف الثلاث على ما هو عليه، طُرح احتمال تجديد أنقرة لمحاولاتها في سياق الزيارة التي أجراها الرئيس التركي إلى روسيا ولقائه الرئيس الروسي يوم الخامس من أغسطس الجاري.
من غير الواضح إذا ما كان الرئيس التركي قد نجح في هدفه الخاص بإقناع نظيره الروسي بشأن العملية العسكرية أم لا، خاصة وأن الهدف من قمة سوتشي كان متضمنًا لمسائل أخرى مرتبطة بالتفاعلات الجارية بين البلدين – سواءً على صعيد تعاونهما الثنائي أو على صعيد متعدد الأطراف- المترتبة عن الحرب في أوكرانيا، والتي من المحتمل أن تكون قد استحوذت على النصيب الأكبر من المحادثات، يعزز من هذا التصور توقيت القمة التي انعقدت عقب أيام قليلة من توصل روسيا وأوكرانيا، وبوساطة تركيا والأمم المتحدة، إلى اتفاق “إسطنبول” الذي يضمن استئناف تصدير الحبوب والأسمدة الأوكرانية من الموانئ الأوكرانية عبر البحر الأسود، إلى جانب تسهيل وصول الأسمدة والمنتجات الروسية الأخرى إلى الأسواق العالمية بلا عوائق. وفي سياق السعي الأوروبي لتطبيق حظر شامل على صادرات الطاقة الروسية، من المحتمل أن تكون محادثات “سوتشي” قد أولت اهتمام أكبر لملف الطاقة، حيث صرح “بوتين” خلال القمة بأن أوروبا يجب أن تكون ممتنة لتركيا على التدفق المستمر للغاز الطبيعي. كذلك، فقد أشار مسئولون روس إلى موافقة تركيا على تسوية بعض فاتورتها السنوية الكبيرة للطاقة الروسية بالروبل.
أي ارتداد للقِمم على داخل سوريا
تبعًا لما تقدم، يتضح أنه قد لا يكون هناك تأثير مباشر لما حدث من قِمم متتالية على الأوضاع داخل سوريا، حيث تسير التطورات هناك بناءً على مصالح الفاعلين وما يتوصلون إليه من توافقات بينية، ويستدل على ذلك كون الترتيبات الجارية حاليًا في سوريا قد تم بدء العمل بها قبيل انعقاد تلك القِمم، بل والتأكيد عليها في أعقابها. ويعد من أبرز تلك الترتيبات تلك المتخذة من جانب كافة الأطراف تحسبًا للعملية التركية المحتملة، وهو ما يمكن الإشارة إليه فيما يلي:
- رعاية روسية للترتيبات: بالرغم مما أشارت إليه العديد من التقارير الصحفية بشأن تراجع الاهتمام الروسي بالقضية السورية وانسحاب أعداد كبيرة من القوات الروسية لصالح تعزيز مواقعها على جبهة الصراع مع أوكرانيا، تشير التطورات إلى استمرار المتابعة الروسية لكافة التحركات الميدانية الجارية في سوريا. تبعث روسيا بذلك رسالة مفادها استمرار احتفاظها بمساحتها القيادية للملف على الرغم من انشغالها بالحرب في أوكرانيا، وأن أي متغير يحدث في سوريا يجب أن يمر أولًا عبر البوابة الروسية. فإلى جانب ما يوفره الحضور الروسي داخل سوريا من مكتسبات اقتصادية وجيوسياسية، يعد الملف السوري هو المدخل الأهم لروسيا للتأثير والحضور داخل التفاعلات الجارية في منطقة الشرق الأوسط، والتي يقع في القلب منها، الرغبة في شغل المساحات التي تراجعت منها الولايات المتحدة بالمنطقة، وذلك عبر طرح موسكو لنفسها كحليف لدول المنطقة يمكن التعويل عليه، بعد تراجع الثقة في الحليف الأمريكي.
ومن هذا المنطلق، يمكن فهم الرعاية الروسية للترتيبات الجارية ما بين قوات سوريا الديمقراطية “قسد” والنظام السوري. ففي الخامس عشر من يوليو، أعلن مظلوم عبدي، القائد العام لـ “قسد”، عن السماح لقوات حكومة دمشق بالانتشار في مناطق السيطرة الكردية، في عين العرب (كوباني) وبلدة تل رفعت، وجاري العمل على تعزيز تواجدها بمنطقة منبج وذلك بالتنسيق مع الجانب الروسي. وفي يوم الثلاثين من يونيو، قبل أيام من انعقاد قمة “سوتشي”، أجرت “قسد” مناورات عسكرية مشتركة مع النظام السوري بالذخيرة الحية في منبج، تحت رعاية القوات الروسية، وقيل إنها تأتي في إطار التدريب على صد أي هجوم تركي على الأراضي السورية. لاحقًا، أعادت الخارجية الروسية التأكيد على موقفها الرافض للعملية، حيث أعلن المتحدث باسم الكرملين قبل انعقاد قمة “سوتشي” بأن موسكو تأخذ في الاعتبار مخاوف تركيا الأمنية المشروعة في سوريا، مع التأكيد على أنه من المهم تجنب الأعمال التي يمكن أن “تهدد سلامة أراضي سوريا ووحدتها السياسية”.
فيما تستمر روسيا في تأكيد سيطرتها الجوية على الأراضي السورية. فمن ناحية الغرب، تشير التقارير الميدانية إلى استمرار روسيا في استهداف مناطق خاضعة لهيئة تحرير الشام في إدلب. وفي الشرق، تستمر روسيا في استهداف عناصر تنظيم الدولة الإسلامية بمنطقة البادية السورية، والتي من المرجح أن عناصر التنظيم متوارين في أنحائها. كذلك، فقد طال الاستهداف الروسي مناطق واقعة بالقرب من قاعدة التنف الأمريكية في سوريا. ففي الخامس من أغسطس، أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها الجوية قد شنت هجومًا ضد مجموعة من مقاتلي المعارضة، الذين تولت الولايات المتحدة تدريبهم من قبل في سوريا. ولاحقًا أكدت وزارة الدفاع الأمريكية لمواقع صحفية أمريكية أن هذا الهجوم كان ثاني هجوم معروف للقوات الجوية الروسية خلال شهرين بالقرب من قاعدة أمريكية في سوريا.
- استمرار تركيا في محاولات إقامة المنطقة الآمنة: لم تسفر القِمم المتعاقبة التي شاركت فيها تركيا عن موافقة أي طرف على عمليتها المنشودة، إلا أن هذا لم يؤدي إلى أي تراجع تركي عن مطالباتها. فعلى الرغم مما أوضحه الرئيس التركي للصحفيين خلال عودته من “سوتشي” بشأن وجود عمل ومحادثات مشتركة بين أجهزة الاستخبارات التركية والسورية، وما أبداه من تفهم لتصريح الرئيس الروسي بأن الحل الأكثر منطقية للأزمة في سوريا سيكون بالاشتراك مع النظام السوري، توالت التأكيدات التركية الرسمية بشأن اقتراب تنفيذ العملية العسكرية، وهو ما صاحبه تقارير صحفية منشورة في وسائل إعلامية مقربة من النظام التركي تتحدث عن الخطر القادم من مدينة تل رفعت على وجه التحديد، من حيث كونها “بؤرة إرهاب”، وباتت تشكل تهديدًا حقيقيًا للمنطقة الآمنة التي انشأتها تركيا في الشمال السوري.
يمكن القول إنه من ضمن الدوافع الأساسية وراء الإصرار التركي على تنفيذ العملية العسكرية، مستجدات الوضع الداخلي في تركيا، حيث تراجع شعبية الرئيس التركي وحزبه الحاكم في الوقت ذاته الذي تجري فيه الاستعدادات لأكثر انتخابات مفصلية في تاريخ حزب العدالة والتنمية والنظام التركي الحالي، هذا إلى جانب تزايد الرفض الشعبي من استمرار وجود اللاجئين السوريين داخل الأراضي التركية، وهو من ضمن الأمور التي تعوّل عليها المعارضة في إطار مواجهتها الحالية مع النظام التركي. ومن ثم، كان إعلان الرئيس التركي عن مشروع إعادة مليون لاجئ سوري إلى المناطق الآمنة التي أنشأتها تركيا شمال سوريا، بجانب العمل على توسيعها عبر إجراء عملية عسكرية جديدة. يُضاف إلى ذلك استمرار عمل النظام التركي في نشاطه العسكري الذي يستهدف منها دحض أي محاولة لإنشاء كيان كردي انفصالي على الحدود التركية –السورية-العراقية، وهو أمر يحظى بتأييد شعبي كبير داخل تركيا. ولذلك، من غير المتوقع أن يتخلى النظام التركي خلال هذه الفترة عن مطالباته الخاصة بإجراء العملية العسكرية ترقبًا لانتخابات 2023.
وفي ظل هذا المأزق، حيث رفض الأطراف الدولية والإقليمية للعملية العسكرية، ورغبة النظام في صرف ورقتي اللاجئين والنزاع في سوريا عن أيدي المعارضة التركية، تبنت الحكومة التركية مسارين متوازيين تحقيقًا لما تبغيه من هدف معلن متمثل في “محاربة التهديدات الكردية”. على الصعيد العسكري، استمر الجيش التركي وفصائله الموالية في تعزيز مواقعه العسكرية، وفي استهداف، ليس فقط مواقع عسكرية كردية، بل قيادات كردية من الكوادر العسكرية البارزة العليا والمتوسطة.
على المستوى السياسي الدبلوماسي، خرجت عدة تصريحات تركية رسمية تشير إلى وجود استعداد تركي للتعامل مع النظام السوري. ففي السابع والعشرين من يوليو، أعلن وزير الخارجية التركي، “مولود جاويش أوغلو”، استعداد بلاده لتقديم دعم سياسي للنظام السوري لإخراج “الإرهابيين”، في إشارة إلى “قسد” من مناطق الحدود مع تركيا، موضحًا أنه من الحق الطبيعي للنظام السوري أن يزيل “التنظيم الإرهابي” من أراضيه، لكن ليس من الصواب أن يرى المعارضة المعتدلة (يقصد بها فصائل “الجيش الوطني” المدعوم من تركيا) “إرهابية”. ومؤخرًا، كشف “جاويش أوغلو”، أنه أجرى محادثة “قصيرة” مع وزير الخارجية السوري، “فيصل المقداد”، على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز” الذي عقد في أكتوبر 2021، والتي أكد في إطارها على أنه من الضروري “تحقيق مصالحة بين المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما”، حيث لن يكون هناك “سلام دائم دون تحقيق ذلك”.
وعلى الرغم مما تشير إليه هذه التصريحات من استعداد تركي لتغيير موقفه إزاء النظام السوري، يبدو أنه مع تصاعد استهجان وتنديد فصائل المعارضة السورية، أن هناك إعادة تقييم موقف جارية، وهو ما يمكن تلمسه في تصريح المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية “تانجو بيلجيتش”، المفسر لتصريحات “جاويش أوغلو” المتعلقة بضرورة التصالح بين النظام والمعارضة. أوضح “بيلجيتش” أن تركيا تؤيد حلًا للأزمة السورية يلبي “التطلعات المشروعة” للشعب، وأن “المسار السياسي للحل في سوريا لا يشهد تقدمًا حاليًا بسبب مماطلة النظام”.
- استغلال إيراني للمستجدات: لم تغب إيران عن مشهد التفاعلات الجارية في سوريا، فإلى جانب تعزيز مواقعها في الجنوب السوري، والعمل على شغل مساحات الفراغ الروسي هناك، اتجهت إيران إلى شغل مواقع جديدة في الشمال. ففي إطار انتشار قوات الجيش السوري داخل المناطق الكردية في تل رفعت ومنبج، عملت إيران على تأكيد حضورها داخل هذه المناطق، وبحسب تقارير صحفية، رُفع العلم الإيراني فوق عدد من المباني في منطقة تل رفعت وأبين بريف حلب، الواقعة ضمن مناطق انتشار قوات سوريا الديمقراطية “قسد”.
تسعى إيران من وراء هذا التحرك إلى تحقيق عدد من الأهداف. يتصل أولها بتأكيد رفض إجراء العملية العسكرية التركية، وتحديدًا على مدينة تل رفعت التي يقع في جنوبها إحدى أهم مراكز الحضور الإيراني في سوريا، وهما بلدتي نُبل والزهراء ذات الأغلبية الشيعية. تتمثل أهمية البلدتين في كونهما قاعدة ومركز الوجود العسكري الإيراني في ريف حلب الشمالي، الأمر الذي تصبح معه العملية التركية المحتملة بما تحمله من تبعات تهديدًا ضد الحضور الإيراني الميداني والشعبي في محافظة حلب. ستعني السيطرة التركية على منطقة تل رفعت تغييرًا ميدانيًا وديموجرافيًا يخدم سياسات التتريك التي تنفذها تركيا في مناطق عملياتها، وهو الأمر الذي قد يقوض من فعالية التأثير الإيراني على مناطق نفوذها.
من ناحية أخرى، يعني الضم التركي لمنطقة تل رفعت توسعة لـــ “المنطقة الآمنة” التي تنشد تركيا إتمامها وفق تصورها. وبحسب التصور التركي، فإن تنفيذ المنطقة يتضمن مرحلتين، وتقع خطة ضم منبج وتل رفعت ضمن أهداف المرحلة الأولى. ولكن قد يعني استمرار تركيا في إجراء عمليات عسكرية بدعوى تأمين وتوسيع “المنطقة الآمنة” في شمال سوريا، ارتفاع احتمال قدرة أنقرة على تنفيذ المرحلة الثانية من خطتها والتي تضمن وصول عمق المنطقة إلى محافظتي الرقة ودير الزور، بما يعني الإضرار بمساحات الحضور الإيراني في منطقة شرق الفرات، بالإضافة إلى تعزيز أكبر للدور التركي سواء السياسي أو العسكري في المسألة السورية.
وبفرض تنفيذ تركيا لعمليتها، سيتحتم عليها تضمين إيران في أي اتفاقات للتسوية ستجرى في هذه المنطقة. تشير الترتيبات اللاحقة للعمليات العسكرية التركية في سوريا إلى إجراء تركيا تفاهمات واتفاقات مع روسيا بالأساس، وذلك دون وجود أي تنسيق تركي مع الجانب الإيراني. ففي أعقاب عملية نبع السلام، توصل الطرفان التركي الروسي في أكتوبر 2019 إلى اتفاق بخصوص الوضع في شمال سوريا. وفي أعقاب عملية “درع الربيع”، توصل الطرفان في مارس 2020 إلى اتفاق وقف إطلاق النار. بل وبالعودة إلى سبتمبر 2018، حيث اتفاق روسيا وتركيا على إقامة منطقة “منزوعة السلاح” بين فصائل المعارضة المسلحة والنظام السوري، يتضح غياب إيران عن أي ترتيبات أو اتفاقات متعلقة بمناطق الشمال السوري. ولكن في ظل الحضور الإيراني الحالي بالمناطق التي تستهدفها تركيا، سيتعين على الجانب التركي، في حال قيامه بالعملية، التنسيق مع الجانب الإيراني بحثًا عن تفاهمات، ولضمان تجنب أي احتكاك قد يحدث ما بين القوتين.
ختامًا، فإن ما يجري في سوريا من توافقات ومواءمات تتم بعيدًا عن القِمم والاجتماعات العلنية، وذلك لأن التحركات على الأرض هي التي تفرض التوافقات، بمعنى أن نجاح أي طرف في فرض أمر واقع يمكنّه من التسوية وفقًا لرؤيته وأولوياته. وتبعًا لما يجرى حاليًا، يبدو أن روسيا قد استطاعت فرض الأمر الواقع في مناطق الشمال السوري وفقًا لما ترتئيه. ولكن يظل من غير المستبعد -وتبعًا لما قد يستجد من تنسيق وتفاهم في ملفات أخرى- حدوث توافقات تركية روسية بشأن إحداث ترتيب جديد في هذه المناطق بما يخدم الأهداف التركية أيضًا. قد يعني هذا إجراء تركيا لعمليتها العسكرية، أو توصل الطرفين التركي والروسي –بموافقة ضمنية من إيران- إلى اتفاق من شأنه إبعاد الأكراد عن المناطق التي ترى تركيا فيها تهديدًا لأمنها القومي، في مقابل انتشار قوات الجيش السوري داخل هذه المناطق، وربما الموافقة على تشكيل آلية مشتركة لمراقبة وتنسيق تنفيذ بنود هذا الاتفاق.
.
رابط المصدر: