تمهيد:
يعود تاريخ تأثير المقاطعة إلى القرن التاسع عشر عندما استخدمت المقاطعة كوسيلة للاحتجاج السياسي أو الاجتماعي أو الاقتصادي، وقد كان لها تأثير كبير على الأسعار في بعض الحالات، مما أدى إلى انخفاض الأسعار أو حتى إلى إلغاء بعض السياسات والإجراءات. ومن الأمثلة الشهيرة على تأثير المقاطعة تلك التي قام بها المزارعون الأيرلنديون لمنتجات توماس بويكوت، وهو مالك عقارات أجبرهم على دفع ضريبة جديدة وأدت إلى إفلاس بويكوت وتحسين ظروف المزارعين الأيرلنديين.
وفي القرن العشرين، استخدمت المقاطعة كوسيلة اقتصادية، وتشمل الأمثلة الشهيرة على ذلك المقاطعة التي قام بها الأمريكيون للمنتجات اليابانية بعد الحرب العالمية الثانية، والمقاطعة التي قام بها العرب للمنتجات الإسرائيلية. وقد أدت هذه المقاطعات إلى انخفاض الطلب على المنتجات المستهدفة، مما أدى إلى انخفاض الأسعار.
وفي الآونة الأخيرة، زادت أهمية المقاطعة كوسيلة للاحتجاج على القضايا الاجتماعية والبيئية. ومن الأمثلة على ذلك، المقاطعة التي قام بها الأمريكيون للمنتجات التي يتم تصنيعها في الصين بسبب ظروف العمل السيئة، والمقاطعة التي قام بها الأوروبيون للمنتجات التي يتم تصنيعها باستخدام الطاقة النووية بسبب مخاوف السلامة، وقد أدت هذه المقاطعات إلى زيادة الوعي بالقضايا الاجتماعية والبيئية، مما قد يؤدي إلى تغيير السياسات أو العادات.
وقد شهد التاريخ العديد من حملات مقاطعة المنتجات، والتي كانت تهدف إلى تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وتمثل حملة مقاطعة المنتجات البريطانية في الهند خلال الفترة (1920-1930) أحد أشهر حملات المقاطعة، والتي كانت جزءًا من حركة الاستقلال الهندية، وتهدف للضغط على الحكومة البريطانية لمنح الهند استقلالها، وأيضًا حملة مقاطعة المنتجات الأمريكية في جنوب أفريقيا (1950-1990) والتي كانت أيضًا جزءًا من حركة النضال ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكانت تهدف إلى الضغط على الشركات الأمريكية للتوقف عن تمويل هذا النظام. وقد نجحت هذه الحملة في تحقيق أهدافها، حيث أدت إلى إلغاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا في عام 1994.
وبالنسبة للمنطقة العربية نذكر حملات المقاطعة الشعبية لمقاطعة المنتجات السويدية والدنماركية ردًا على سماح الدولتين بحرق المصحف، والتي كانت مدعومة من المؤسسات الدينية وفي مقدمتها الأزهر الشريف، كما تمثل حملات مقاطعة المنتجات الأمريكية إبان الحرب على العراق إحدى صور المقاطعة بالمنطقة العربية.
وبشكل عام، يمكن القول إن حملات المقاطعة يمكن أن تكون أداة فعالة للضغط على الحكومات والشركات لتحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ومع ذلك، فإن نجاح هذه الحملات يعتمد على عدة عوامل، منها قوة الحراك الشعبي الداعم لها، ووضوح الأهداف والمطالب، واستمرارية الحملة.
وقد ساهمت حرب غزة في تأجج مشاعر الوطنية وانتشار دعوات مصرية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية أو لتلك الدول الداعمة لها وللحرب على قطاع غزة بما تسبب في زيادة الطلب على المنتجات المحلية البديلة، ودعم الشركات المحلية؛ الأمر الذي قد يساهم في تعزيز الصناعة المحلية وزيادة الاستثمارات في هذه الصناعة. لذا يركز هذا المقال في فقراته القادمة على حركة المقاطعة الشعبية في مصر وما حققته من مزايا لدعم المنتج المحلي وأبرز العواقب والسلبيات من وجهة نظر البعض لما تمثله من تهديد للوظائف القائمة.
تاريخ دعوات المقاطعة في مصر للشركات المساندة لإسرائيل:
تعود الدعوات لمقاطعة للشركات العالمية التي يُزعم أنها تساند إسرائيل في حروبها في مصر إلى سنوات طويلة، حيث كانت هناك حملات متقطعة في الماضي، لكنها ترتفع بسبب التصعيد في النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، وخاصة بعد انتفاضة الحجارة. فقد بدأت الدعوات للمقاطعة جديًا في مصر في عام 1988، وذلك بعد اندلاع انتفاضة الحجارة في الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد اعتبر الكثير من المصريين أن الانتفاضة هي تعبير عن الظلم، ولذلك اعتبروا أن مقاطعة المنتجات الإسرائيلية هي وسيلة للتعبير عن تضامنهم مع الفلسطينيين. وفيما يلي بعض أبرز الأحداث التي شهدتها مقاطعة المنتجات الإسرائيلية في مصر خلال السنوات الأخيرة:
- في عام 1988: اندلعت انتفاضة الحجارة في الضفة الغربية وقطاع غزة، مما أدى إلى ارتفاع الدعوات لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية في مصر.
- في عام 2000: اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، مما أدى إلى ارتفاع الدعوات لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية في مصر مرة أخرى.
- في عام 2022: أصدرت الحكومة المصرية قرارًا بمنع استيراد المنتجات الإسرائيلية من المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية.
ونتيجة للتطورات الأخيرة بقطاع غزة، شهدت مقاطعة الشركات العالمية المساندة لإسرائيل زخمًا جديدًا في عام 2023. فقد اعتبر الكثير من المصريين أن الحرب الأخيرة بين حماس وإسرائيل هي تعبير عن العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين، وقد أدت الدعوات للمقاطعة إلى تأثيرات اقتصادية ملحوظة في إسرائيل. فقد تراجعت الصادرات الإسرائيلية إلى مصر بنسبة 20% في عام 2023، كما تراجعت الاستثمارات الإسرائيلية في مصر بنسبة 15%.
ومع ذلك، فقد واجهت الدعوات للمقاطعة بعض التحديات، منها: عدم وجود وعي كافٍ لدى الناس بأهمية المقاطعة، وكيفية تنفيذها، وأيضًا المخاوف من أن تؤثر المقاطعة على الاقتصاد المصري، وخاصة في ظل ارتفاع التضخم وانخفاض قيمة الجنيه المصري.
جدوى المقاطعة على تعزيز المنتج المحلي:
نجحت المقاطعة الأخيرة في مصر في تراجع الطلب 30% على العلامات الأجنبية، وتشجيع الطلب على العديد من المنتجات محلية الصنع، فقد ارتفعت مبيعات الشركات المحلية وخاصة الأغذية والمشروبات، كما مثلت دعاية لتلك الشركات الموجودة بالسوق المصري منذ عشرات السنين ولا تقوى على منافسة “الماركات العالمية”.
وساهمت حملات المقاطعة في مصر في سطوع نجم عدد من الشركات المحلية، والتي اتجهت لزيادة المبيعات وطرح منتجات جديدة وتأسيس خطوط إنتاج لتلبية الطلب المتزايد. ويمكن لنا المناداة بإعادة تجديد مبادرة “صنع في مصر” لدعم المنتج الوطني واستغلال هذا الزخم في الترويج للمنتجات المحلية.
الوجه الآخر للمقاطعة ومدى الضرر المتحقق:
في البداية يجب أن نفرق بين نوعين من المنتجات، الأول: منتجات لشركات مملوكة لمستثمر محلي حاصلة على امتياز أو حق استخدام العلامة التجارية للشركة الأم، وتنتج وتصنع بداخل الدولة المصرية وتوظف عمالة مصرية، وأخرى: هي تلك المنتجات المستوردة والتي تنتج من شركات قد تدعم الحرب على القطاع.
وفقًا لبيانات الغرف التجارية المصرية تقدر حجم “الفرنشايز” في مصر حوالي80 مليار جنيه استثمارات مباشرة، و90 مليار جنيه استثمارات غير مباشرة، بإجمالي 170 مليار جنيه استثمارات حاليًا في “الفرنشايز” ما بين العلامات الأجنبية التي تستثمر في مصر أو العلامات المصرية.
ويعمل حاليًا بـ”الفرنشايز” حوالي مليون ونصف عامل، كما أن له روابط أمامية وخلفية بالعديد من القطاعات الأخرى بما يوفر أيضًا العديد من فرص العمل غير المباشرة للشباب، حيث تم طرح 500 ألف فرصة عمل سنويًا خلال السنوات الأخيرة.
وبناء عليه تعالت الأصوات المنادية بإقاف حملات المقاطعة كون إنها تتسبب في ضرر الاقتصاد المحلي؛ حيث إن الوكيل في مصر لا يقوم بدعم إسرائيل في حربها على قطاع غزة، وفي أغلب الأحوال من يدعم إسرائيل هو الوكيل في إسرائيل أو الشركة الأم ممن ارتفعت أسهم شركاتها عالميًا في مؤشرات البورصة الأمريكية. وقد تحمل حملات المقاطعة الحالية العديد من الآثار والتبعات السلبية من وجهة نظر بعض الخبراء والمحللين:
- زيادة أسعار المنتجات المحلية: فقد تؤدي زيادة الطلب على المنتجات المحلية إلى ارتفاع أسعارها.
- انخفاض جودة المنتجات المحلية: قد تضطر الشركات المحلية إلى خفض جودة منتجاتها لتلبية الطلب المتزايد، مما قد يضر بسمعتها ورضا المستهلكين.
- تزايد الاحتكارات: قد تؤدي المقاطعة إلى تزايد الاحتكارات، وذلك من خلال زيادة قوة السوق للشركات المحلية الكبرى.
- إلغاء أو تأخير الاتفاقيات الاستثمارية خاصة من قبل الشركات متعددة الجنسيات.
- تسريح العمالة وقد بات بعض الشركات في تخفيض العمالة وإغلاق بعض الفروع وإيقافها عن العمل.
وبشكل عام، فإن المقاطعة يمكن أن تكون أداة فعالة لتشجيع المنتج المحلي، ولكنها يجب أن تستخدم بعناية لتجنب الآثار السلبية المحتملة.
المصدر : https://ecss.com.eg/38570/