تأثير تبادلي: أين يقف الشرق الأوسط من مشهد الانتخابات الرئاسية الأمريكية؟

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية تواجه الولايات المتحدة العديد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي ستلعب دورًا حاسمًا في تحديد إذا كانت كامالا هاريس أو دونالد ترامب سيكون الرئيس الأمريكي المقبل؛ حيث تهيمن قضايا السياسية المحلية عادة على اهتمامات الناخبين الأمريكيين وتتصدر موضوعات الهجرة غير الشرعية وارتفاع تكاليف المعيشة والنمو الاقتصادي قائمة اهتمامات الانتخابات الحالية. ورغم أن قضايا السياسة الخارجية لا تحظى عادةً باهتمام كبير إلا في حالات محددة تمتلك تأثيرًا مباشرًا في المصالح الأمريكية فإن الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان واحتمالية انزلاقها نحو حرب إقليمية شاملة متعددة الساحات ترفع مكانة الشرق الأوسط كموجه للمشهد الانتخابي وكمتأثر رئيسي بنتائجها. وفي هذا السياق، تناقش الورقة كيفية تأثر نتائج الانتخابات بالتطورات في الشرق الأوسط والسياسات المحتملة لكلا المرشحين تجاه قضايا المنطقة.

مصالح استراتيجية جعلت الشرق الأوسط تقليديًا إحدى المناطق الحيوية للسياسة الخارجية الأمريكية؛ بما في ذلك حماية التدفق الآمن لإمدادات الطاقة عبر الممرات الملاحية البحرية، وضمان أمن إسرائيل حليف واشنطن الاستراتيجي الأول في المنطقة، ومكافحة التنظيمات الإرهابية والأذرع الإيرانية، وتقويض البرنامج النووي الإيراني، وتحجيم النفوذ الصيني الروسي المتنامي، ودعم الحلفاء الإقليميين، وهي قضايا رغم حيويتها وجوهريتها للمصالح الأمريكية فإنها لم تعمل تقليديًا كعامل موجه للسلوك التصويتي للناخبين، لكن تصاعد التوترات في المنطقة المرتبطة بحربي غزة ولبنان جعلها محورًا مهمًا في الحملات الانتخابية لمرشحي الحزبين الديموقراطي والجمهوري ووضعها ضمن أولويات الناخبين.

وتتعلق الأهمية المركزية للشرق الأوسط في النقاش السياسي الأمريكي الخاص بالانتخابات الرئاسية المقبلة بارتباط مسار أحداث المنطقة بجذب دوائر انتخابية محلية معينة تلعب –رغم صغر حجمها– دورًا مرجحًا، بما في ذلك الجالية اليهودية المقدر عددها بما يتراوح بين 5.5 و8 ملايين نسمة والذين يمتلكون القدرة على حسم بعض “الولايات المتأرجحة” لصالح أحد المرشحين؛ وبالأخص ولايتي بنسلفانيا ونيفادا حيث يشكلون نسبة أعلى من المتوسط ​​من الناخبين، علاوة على بعض اليهود الذين يعيشون في إسرائيل ويتملكون جنسيه أمريكية تسمح لهم بالتصويت في الانتخابات.

إضافة إلى العرب والمسلمين الأمريكيين الذين يشكلون دائرة انتخابية نشطة قوامها أكثر من 2.5 مليون ناخب مسجل، ويتركز بعضهم في “الولايات المتأرجحة” مثل ميشيجان وجورجيا؛ وتلعب الأولى بأعضائها الـ 15 في المجمع الانتخابي دورًا حاسمًا في ترجيح كفة أحد المرشحين، وتتميز بكونها الولاية ذات أعلى تجمع للعرب الأمريكيين (211 ألف و405) وواحدًا من أعلى تجمعات المسلمين في الولايات المتحدة بأكملها، فضلًا عن كونها الولاية الأمريكية الوحيدة التي تضم أغلبية مسلمة. وتاريخيًا، يصوَّت المسلمون والعرب الأمريكيون لصالح الديمقراطيين منذ عام 2004، ورغم صغر كتلتهم العددية فإن تركزهم العالي في ميشيجان يجعلهم محوريين بالنسبة للتأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية في الولاية، وتُظهر استطلاعات الرأي تقارب اتجاهاتهم التصويتية لترامب وهاريس بنسبة 42% و41% على التوالي، وهذا يجعل لأصواتهم أهمية مضاعفة تتعلق بدورها في تمكين أحد المرشحين من تحقيق هامش ضيق لضمان فوز انتخابي.

تلك الحسابات الانتخابية قادت إلى طغيان أحداث الشرق الأوسط على النقاشات الانتخابية، وجعلت إدارة بايدن ترقب بحذر تطورات المنطقة بينما تخشى أن تدفع شهية رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للحروب واقتناص فرصة اللحظة الراهنة لإعادة تشكيل الخرائط الجيوسياسية للمنطقة وخلق نظام إقليمي يمنح التفوق والهيمنة لإسرائيل ويخرج إيران من معادلة القوى الإقليمية، إلى الانتقال نحو المرحلة التالية بإشعال حرب شاملة مع إيران وهو ما يربك حسابات الإدارة الأمريكية ويفرض عليها الخروج عن مسارات تحركاتها الراهنة واتخاذ قرارات مرتبكة ويدفع بها نحو الانغماس في حرب جديدة بالشرق الأوسط لطالما ضغطت لتجنبها.

وهي حرب ليست ببعيدة التأثير عن الداخل الأمريكي الذي سيدفع ثمنها فادحًا من ارتفاع أسعار الطاقة ومعدلات التضخم وتراجع أسواق العمل، مع العلم أن ارتفاع أسعار الطاقة تُعد دائمًا قضية رئيسية في الحملات الانتخابية الأمريكية، لذا يسعى بايدن لتجنب أزمة نفطية قبل أسابيع من الانتخابات، خشيةً من أن يُحمّل الناخبون –والمنافس دونالد ترامب– الديموقراطيين مسئولية فشل إدارة أزمات الشرق الأوسط ويتهمونهم بتبني سياسات خاطئة، ومن ثّمَ ينصرفون عن تأييد كامالا هاريس –وبالأخص المترددين– لصالح إعادة انتخاب ترامب، وهو سيناريو يفضله نتنياهو. لكن يظل ما دون الانعكاسات الداخلية للحرب في الشرق الأوسط غير مؤثر بشدة في تشكيل اختيارات الناخبين الذين يركزون على قضايا الاقتصاد والإجهاض والهجرة وتغير المناخ والمخاوف بشأن الديمقراطية.

وضغطت إدارة بايدن بشدة على نتنياهو لتحجيم نطاق الرد الإسرائيلي على الهجمات البالستية الإيرانية في الأول من أكتوبر الجاري نظرًا لتأثيرها في إعادة تشكيل السباق الرئاسي، ويبدو أن رئيس الوزراء الإسرائيلي استجاب لرغبة بايدن؛ حيث نقلت صحيفة “واشنطن بوست” عمن قالت إنهم مسئولون مطلعون أن نتنياهو أبلغ الإدارة الأمريكية أن الإجراء الانتقامي سيستهدف البنية التحتية العسكرية دون التعرض للمنشآت النووية ومنشآت الطاقة لتجنب تصور التدخل السياسي في الانتخابات الأمريكية، إذ إن أي هجوم إسرائيلي على منشآت النفط الإيرانية قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الطاقة العالمية، بينما يمحو الهجوم على البرنامج النووي أي خطوط حمراء متبقية تحكم الصراع الإسرائيلي الإيراني، مما يعرض الولايات المتحدة لخطر القيام بدور عسكري أكبر في الشرق الأوسط.

بالمقابل، يتحين ترامب لحظة انفلات قبضة الإدارة الديموقراطية الحالية عن مسار الأحداث لتعزيز انتقاداته لإخفاقات السياسة الخارجية لإدارة بايدن، وإلصاق تهمة المسئولية عن الفوضوية العالمية للديموقراطيين، والزعم بأن السلام والاستقرار اللذين حققتهما إدارته في الشرق الأوسط ينهاران تحت حكم بايدن، واتهام بايدن وهاريس بالسماح للتوترات في المنطقة بالخروج عن السيطرة وجر الولايات المتحدة لحرب خارجية جديدة وهي قضية باتت تهم الناخب الأمريكي؛ مما يُمكنه من تعزيز صورته أمام الناخبين باعتباره الزعيم الذي استطاع جلب السلام للشرق الأوسط عن طريق تقويض إيران وممارسة سياسة “الضغط الأقصى” بحقها ومحاولة تشكيل نظام أمن إقليمي تكون إسرائيل أحد مكوناته عبر دمجها بواسطة اتفاقيات إبراهام ضمن محيطها العربي، ومن ثَمّ إعادة تقديم نفسه كـ “زعيم قوي وحاسم” في مقابل “إدارة ضعيفة ومهدئة”؛ مما يجذب الناخبين المترددين الذين يعطون الأولوية للأمن القومي.

وفي كل الأحوال، تعمل أزمة الشرق الأوسط لصالح تعزيز مكانة ترامب بين الناخبين المؤيدين لإسرائيل لا سيَّما في ظل مواقفه السابقة بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس ودعم سياسات نتنياهو المتشددة، بينما لا يعبأ ترامب كثيرًا إلى الناخبين العرب والمسلمين نظرًا لمواقفه المتشددة بشأن الهجرة من البلدان ذات الأغلبية المسلمة ودعمه المطلق لإسرائيل على حساب إيجاد تسوية عادلة للقضية الفلسطينية. بعكس هاريس التي تضطر للسير على حبل مشدود بين دعم إسرائيل ومعالجة مخاوف الأمريكيين المسلمين الذين تأثر كثيرون منهم بشدة بحرب غزة والصراع الأوسع في الشرق الأوسط، لمغازلة أصوات العرب والمسلمين وبالأخص في بعض “الولايات المتأرجحة” مثل ميشيغان وفلوريدا حيث قد يكون تصويتهم حاسمًا، إلا أن سياسة التوازن تلك تحمل مخاطر تتعلق بعدم إقناع الجانبين؛ فالناخبون المسلمون ربما لا يعتبرون سياسات إدارة ترامب وهاريس كافية لدعم الفلسطينيين واللبنانيين ووقف العدوان الإسرائيلي، بينما قد يشعر الناخبون المؤيدون لإسرائيل بأن إدارة بايدن مترددة ولا يزال دعمها غير كافٍ.

وانصرف جزء من عرب ميشيجان عن التصويت لهاريس وأعلنوا تأييدهم لترامب أو التصويت لأطراف ثالثة، ليس عن قناعة ورضاء بسياسات ترامب؛ فموافقة المناهضة للمسلمين والداعمة بشدة للإسرائيليين تجعله خيارًا غير جذاب، وإنما نكاية في هاريس وعقاب للإدارة الديموقراطية التي يُحملونها مسئولية السماح باستمرار الإبادة الجماعية في غزة، ولرغبتهم في تأكيد ثقلهم السياسي وقدرتهم على توجيه نتائج الانتخابات الأمريكية مستقبلًا، وهو ما يجعلهم رقمًا صعبًا في حسابات الحزبيين، فيما أعلنت اللجنة العربية الأمريكية للعمل السياسي أنها لن تؤيد هاريس أو ترامب، وهو الموقف الأول من نوعه للجنة التي كانت تؤيد عادةً الديموقراطيين منذ تأسيسها عام 1998.

مثلما يُمكن للشرق الأوسط أن يؤثر –ولو جزئيًا اتصالًا بالمتغيرات الراهنة– على المشهد الانتخابي الأمريكي، فإن دول المنطقة تترقب نتائج السباق الانتخابي وساكن البيت الأبيض الجديد، فوضع الولايات المتحدة المهيمن –حتى الآن– على هيكل النظام الدولي يجعل الانتخابات الرئاسية ليست شأنًا داخليًا بحتًا نظرًا للتأثيرات العالمية للسياسة الخارجية الأمريكية وقدرتها على توجيه مسار الأحداث بالشرق الأوسط والإسهام في إعادة تشكيل المعادلات الإقليمية. وعليه، من المفيد دراسة توجهات ترامب وهاريس تجاه المنطقة؛ وبينما يمتلك ترامب سجلًا خلال فترة رئاسته السابقة (2017-2021)، فإن هاريس لم يكن لديها سوى فرصة ضئيلة للاحتكاك بشئون الشرق الأوسط حيث ركز دورها كنائبة للرئيس بشكل أساسي على القضايا المحلية، وهو ما يدفع المراقبين لتوقع أن تشهد فترة رئاسية ثانية محتملة لترامب استمرارًا للخطوط العريضة لسياسته السابقة حتى وإن تعدلت بعض أدواتها اتصالًا بالمتغيرات الإقليمية الجديدة أو الخبرة السياسية التي اكتسبها ترامب، بينما يُرجح أن ترث هاريس الكثير من إطار سياسة بايدن بشأن الشرق الأوسط. ويناقش هذا الجزء توجهات كل من ترامب وهاريس تجاه قضايا المنطقة الرئيسية.

• القضية الفلسطينية وحربا غزة ولبنان: استنادًا إلى خبرة سنوات رئاسة ترامب السابقة وخلفيته الاقتصادية وسياسته الانعزالية القائمة على مبدأ “أمريكا أولًا”، فمن المتوقع أن يُقدم ترامب دعمًا مطلقًا للسياسة الإسرائيلية الهادفة لتصفية وإنهاء القضية الفلسطينية، مع الضغط على نتنياهو لوضع حد لنهج الحروب الممتدة التي راقت له واعتبرها وسيلته المثلى لتشكيل شرق أوسط جديد وفقًا للرؤية الإسرائيلية، وقد يترافق ذلك مع تقديم ضمانات وتطمينات لصديقه الشخصي نتنياهو بشأن مستقبله السياسي وحمايته من المسألة القانونية حال إنهاء الحرب، مع دعم المخطط الإسرائيلي لتفريغ سكان غزة وتوسيع السيطرة على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية وغزة، وإعادة طرح رؤية “السلام الاقتصادي” من خلال نسخة معدلة لما سُمي حينها “صفقة القرن” وبما يضمن القضاء نهائيًا على فكرة الدولة الفلسطينية المستقلة حيث يتوافق ترامب أيديولوجيًا مع حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة ورفضها المطلق لمفهوم حل الدولتين. وينطبق الأمر ذاته على حرب لبنان؛ حيث سيُحفز ترامب نتنياهو على إنجاز الأهداف الإسرائيلية بموجب ضربات مركزة وحاسمة وسريعة ومُحددة المدة، وربما يدعم تنفيذ عمليات عسكرية أو استخباراتية إسرائيلية مركزة ضد أهداف إيرانية أو تنفيذ عمليات اغتيال بحق قادة سياسيين وعسكريين دون الانزلاق لمواجهة شاملة تتطلب نشر قوات برية أمريكية أو استنزاف القدرات العسكرية.

وإلى جانب الأهداف السياسية المتعلقة بتجنب التورط في حرب إقليمية وتقليل الانخراط العسكري الأمريكي في المنطقة، وتعزيز صورته كزعيم قوي قادر على ضبط تفاعلات الشرق الأوسط وإرساء السلام الإقليمي؛ حيث إن استمرار الحرب وتمددها تُظهره أمام الرأي العام بمظهر الزعيم الأمريكي الضعيف، فإن نهج ترامب المتوقع يُعود في أحد أبعاده إلى رغبته في وضع حد لاستنزاف القدرات الاقتصادية الأمريكية عبر تخصيص الموارد لإسرائيل لدعم مجهودها الحربي.

بينما يُرجح أن تواصل هاريس نهج بايدن بتقديم الدعم القوي الإسرائيلي واستمرار تدفق المساعدات العسكرية الأمريكية، والدعوة لإنهاء الحروب في الشرق الأوسط لكنها لن تستطيع فرملة الطموح الإسرائيلي الجامح لتوسيع ساحات المواجهة، مع الحفاظ على خطاب الحزب الديموقراطي الداعم –لفظيًا– لحقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته وإنهاء معاناتهم الإنسانية، وصولًا إلى تسوية سياسية للقضية الفلسطينية على أساس حل الدولتين، ورغم تجاوز هذا الطرح للحقائق السياسية والميدانية فإنها صيغة مناسبة لتثبيت الوضع القائم والتغطية على غياب مشروع أمريكي متكامل قابل للتطبيق بشأن التسوية النهائية للقضية الفلسطينية.

• البرنامج النووي الإيراني: يتفق الديموقراطيون والجمهوريون على هدف عدم رؤية إيران دولة نووية، لكن بينما سيعني وصول ترامب للبيت الأبيض إعادة تفعيل سياسة “أقصى ضغط” ضد إيران وذلك من خلال خيارات عدة منها؛ تنفيذ أكثر صرامة للعقوبات الأمريكية، والسعي إلى ضمان عدم وجود أي مساحة لإيران للحفاظ على أي مبيعات نفطية واستخدام الضغوط السياسية والاقتصادية وربما العسكرية مجتمعة لإضعافها، ويُمكن في هذا الإطار تفعيل “آلية الزناد” بعد “يوم النهاية”، وهو يوم 18 أكتوبر 2025 الذي ستنتهي بحلوله وصاية مجلس الأمن على الاتفاق النووي وستلغى العقوبات الدولية المفروضة على إيران، التي عُلقت بمقتضى الاتفاق، وستخرج من الفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة، ومن ثمّ تتيح “آلية الزناد” إعادة تطبيق العقوبات الدولية بشكل تلقائي دونما فيتو روسي أو صيني.

علاوة على ملاحقة وإضعاف أذرعها الإقليمية، والضغط على الدول العربية للامتناع عن تحسين العلاقات مع طهران، وتنفيذ عمليات اغتيالات بحق شخصيات سياسية وعسكرية وأخرى تابعة للمليشيات، ويُمكن لإدارته الاستشهاد بهجمات إيران الصاروخية ضد إسرائيل وتزويدها لروسيا بصواريخ ومُسيرات في حربها ضد أوكرانيا ودعم سلوك أذرعها المزعزع لسلامة عمليات النقل البحري العالمية، مع ما يعنيه ذلك من إجهاض فرص إحياء الاتفاق النووي.

إلا أن تزامن انتخاب هاريس مع وصول الرئيس الإصلاحي مسعود بزشكيان للحكم في طهران، يُنذر باحتمالية العودة لمسار المفاوضات، حيث أبدى الأخير انفتاحًا على إحياء المحادثات النووية مع الغرب بعد حصوله على ضوء أخضر من المرشد الإيراني علي خامنئي ضمن استراتيجية “الانسحاب التكتيكي” كمناورة لمغازلة الإدارة الأمريكية وصرفها عن تأييد ضربات إسرائيلية ضد إيران، مع العلم أن نتنياهو سيبذل ما في وسعه لتقويض هكذا سيناريو.

• الأزمات في الشرق الأوسط مثل سوريا واليمن وليبيا والعراق: يبدو أن تلك الأزمات تحتل أولوية متأخرة على أجندة السياسة الخارجية الأمريكية تجاه المنطقة مقارنة بأمن إسرائيل والبرنامج النووي الإيراني وأمن الممرات الملاحية، ولا تمتلك الإدارات الديموقراطية والجمهورية على السواء مشروعًا متكاملًا ومتماسكًا وعمليًا لمعالجة تلك الأزمات، ويقتصر انخراطها فيها على بعض الجوانب. فعلى سبيل المثال، لا تمتلك واشنطن رؤية لحل الأزمة السياسية اليمنية لكن ما يهمها هو أنشطة الحوثيين المهددة للملاحة في البحر الأحمر، ويتوقع أن تواصل إدارة بقيادة هاريس النهج الأمريكي الحالي تجاه اليمن الذي يوازن بين تجنب تصعيد المواجهة العسكرية في المنطقة والحفاظ على الولايات المتحدة قدر الإمكان خارج الانخراط المباشر في أي ساحة معركة وبين إعادة تأكيد قدر معين من الردع في مواجهة الحوثيين من خلال الضربات الجوية المستهدفة وإبقائهم على قائمة الكيانات الإرهابية العالمية المحددة بشكل خاص (SDGT)، بينما يُتوقع أن يُعاود ترامب –حال فوزه– نهجه السابق المتمثل في إيقاف استنزاف القدرات العسكرية الأمريكية من خلال الضربات الجوية، مقابل تعزيز التدابير التقويضية مثل إعادة تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية أجنبية وقطع المساعدات للعمليات الإنسانية في اليمن، وربما دعم ضربات إسرائيلية مركزة ضد بنية الحوثي.

أما بخصوص سوريا والعراق، ففي حين يُتوقع أن تحافظ إدارة هاريس على حجم القوات الأمريكية الحالية بسوريا وتحقيق إعادة تموضع وانتشار للقوات بالعراق لدعم العمليات العسكرية الأمريكية في شرق سوريا، ربما تستعجل إدارة بقيادة ترامب تقليل أعداد القوات الأمريكية بالبلدين، وبالأخص سوريا. أما القضية الثانية المتصلة بالعراق فتتعلق بالإعفاءات من العقوبات، ففي حال دراسة هاريس منح العراق إعفاءات جديدة لدعم واردات الطاقة الإيرانية لتوفير إمدادات الكهرباء العراقية، فإن إدارة ترامب الثانية ستكون أقل ميلًا لمنحه إعفاءات على واردات الطاقة الإيرانية كونها سوف تستهدف إضعاف إيران قدر الإمكان وبأسرع وقت ممكن. فيما سيقتصر دور الإدارتين في ليبيا على محاولات تقويض النفوذ الروسي وتقديم الدعم لسياسة الحلفاء الأوروبيين هناك.

• الانتشار العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط: سوف تظل الولايات المتحدة منخرطة عسكريًا في الشرق الأوسط بغض النظر عمن سيكون الرئيس القادم، إلا أنه من الممكن أن يتجه ترامب إلى تقليص الوجود العسكري الأمريكي تدريجيًا، لكن هذا يتطلب انتهاء حربي غزة ولبنان وتراجع هجمات الحوثيين على الشحن التجاري في البحر الأحمر وتخفيف التهديد الذي تواجهه الأصول الأمريكية في العراق وسوريا، وهذا من شأنه أن يستلزم الدفع إلى حل سريع للحروب المشتعلة في المنطقة، ومحاولات التوسط في إقامة علاقات أوثق بين إسرائيل وجيرانها، وتبني خط متشدد ضد النظام الإيراني. ويسمح هذا بإعادة تركيز الجهود على التهديدات المتصورة للمصالح الأمريكية في المنطقة وبالأخص المتعلقة بتقويض النفوذ الصيني والروسي المتنامي، وتوجيه الموارد العسكرية إلى منطقة المحيطين الهندي والهادئ لمواجهة القوة العسكرية للصين هناك.

• العلاقات مع الحلفاء الإقليميين: ومن المتوقع أن تتوارى موضوعات مثل الديموقراطية وحقوق الإنسان كمحرك للسياسة الخارجية لإدارة ترامب تجاه حلفاء واشنطن الإقليميين الرئيسيين لصالح عقلية صانع الصفقات ونهج “أمريكا أولًا” بحيث تُعطى الأولوية للترتيبات الثنائية الاستراتيجية مثل توقيع صفقات عسكرية واقتصادية مربحة، مع تفعيل العلاقات الشخصية مع الزعماء الإقليميين لتحقيق مكاسب محتملة للكيانات الاستثمارية التي يمتلكها وتحديدًا “منظمة ترامب”. فيما ستحافظ إدارة بقيادة هاريس على نهج العلاقات البراجماتية الحالية مع المنطقة بحيث تقدم أو تؤخر قضايا الديموقراطية وحقوق الإنسان على أجندة العلاقات حسب المصالح السياسية والأمنية الأمريكية؛ فإذا تطلبت قدرًا واسعًا من التعاون تراجع توظيفها، أما إذا أرادت حمل بعض الدول على تبني سياسات ومواقف تخدم مصالح واشنطن فإنها تصبح ورقة ضغط وابتزاز جيدة. كما يُتوقع أن تواصل الإدارة المقبلة سواء ديموقراطية أو جمهورية التفاوض على صفقة أمنية مع السعودية بدأتها إدارة بايدن منذ فترة والتي تتضمن وصول السعودية إلى الأسلحة الأمريكية المتقدمة والتكنولوجيا النووية المدنية والتقنيات المتطورة، مقابل تقديم ضمانات أمنية للمملكة تتعلق بالدفاع عنها في حالة تعرضها للتهديد. ومع ذلك، يُمكن أن يكون ترامب أكثر ترددًا في تقديم ضمانات أمنية صريحة لكنه سيحرص على زيادة مبيعات الأسلحة إلى الرياض.

• التطبيع السعودي الإسرائيلي: يتبنى الجمهوريون والديمقراطيون وجهة نظر مشتركة مفادها أن تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين إسرائيل والسعودية سيسهم في تحقيق قدر أكبر من الاستقرار في الشرق الأوسط، والمساعدة في احتواء التهديد الذي تشكله إيران، والحد من النفوذ الصيني والروسي في المنطقة، ولا شك أن الإدارة القادمة ستشرع في استكمال جهود بايدن لضم المملكة إلى الاتفاقيات الابراهيمية، لكن الأمر سوف يتوقف على انتهاء حرب غزة والتقدم المحرز بشأن القضية الفلسطينية، أو قدرة واشنطن على اقناع المملكة بالفصل بين المسارين –لكنه يظل احتمالًا ضعيفًا– ومع ذلك، ستحاول إدارة ترامب الثانية تكثيف الضغوط/التشجيع لإنجاز تطبيع سعودي إسرائيلي لتعزيز إرثه الذي بدأه خلال ولايته الأولى باستكمال حلقات التقارب العربي الإسرائيلي.

ختامًا، تظل السياسة الخارجية الفعلية للإدارة الأمريكية المقبلة خاضعة للمتغيرات السياسية وتطورات الأحداث في الشرق الأوسط، أي أنها ليست بالضرورة تتوافق مع التصريحات التي يُدلي بها المرشحون في أثناء حملاتهم الانتخابية، فعلى سبيل المثال تناقضت تعليقات الحملات الانتخابية لجورج بوش الابن وجو بايدن مع سياساتهم الفعلية تجاه المنطقة؛ فقد انتقد بوش تدخلات الولايات المتحدة الخارجية بحجة إعادة بناء الدولة ونشر الديموقراطية ليقود بعد توليه منصبه أحد أكبر عمليات التدخل الخارجي لبناء الدولة في أفغانستان والعراق. ومن جانبه، توعد بايدن السعودية بجعلها منبوذة بينما سارت العلاقات بشكل جيد مُجريًا زيارة إلى المملكة مع مساعي لتوقيع صفقة أمنية بين البلدين، ومن ثَمّ يظل هناك هامش للتباين والتحرك خارج التوقعات، مع التأكيد على أن السياسة الخارجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط تحكمها مبادئ ومحددات ومصالح ثابتة، بغض النظر عما إذا كانت الإدارة جمهورية أو ديمقراطية، وعليه فإن السياسات تتسم بالاستمرارية النسبية وإن تغيرت أدواتها وفقًا لاختلاف مدركات ورؤى وتصورات الرؤساء الأمريكيين، كذلك، فإن السياسة الأمريكية ذات طابع مؤسسي وليس شخصيًا إلا في بعض الاستثناءات مثل ترامب وهو ما يجعله شخصًا غير متوقع ومن ثَمّ لا يُمكن الجزم مسبقًا بسلوكه السياسي تجاه المنطقة.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M