بهاء النجار
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43)
التأمل الأول :
عندما تكون الآيات والحجج والبراهين بينات وواضحات وغير قابلة للشك فإنها ستكون حاكمة على العُرف العبادي حتى وإن كان هذا العُرف ضارباً في التأريخ ، لأن القضايا العرفية ليس بالضرورة أن تكون صحيحة ، فكم من فعل فعله الآباء والأجداد والأجيال السابقة وتبين أنه خطأ ، فلماذا نتمسك بعبادتهم من دون دليل أو بينة ؟!
نعم لو كان فعل الآباء والأجداد مُسنَدٌ الى حجة وبرهان ودليل قاطع فيجب التمسك به لكونه يستند الى دليل لا لكون الآباء والأجداد فعلوه ، وبالتالي فمن الطبيعي أن يصدّ من جاء بهذه الأدلة والبراهين والحجج عن العبادة غير المستندة الى حجة ودليل حتى وإن كانت العادة والعرف قد رسخاها في الأجيال .
التأمل الثاني :
إن الآيات القرآنية من أوضح مصاديق الآيات البينات ، خاصة تجاه المسلمين المؤمنين بأن القرآن الكريم صادر من قبل الله عز وجل وأن فيه تبياناً لكل شيء ، وبالتالي فمن غير الممكن أن لا تكون آياته بينات ، وإن لم ندرك بيانها وحجتها فالخلل فينا وعلينا تطوير قابلياتنا لاستيعاب الحجج التي تحملها لنعرف تكاليفنا تجاه ربنا ولنكون حملة علومه الى الآخرين ممن لم تصلهم علومه من غير المسلمين فضلاً عن من لم يوفقوا لفقهه من المسلمين .
ولكن للأسف فإن من يحاول تبيان الحجج التي تحملها آيات القرآن الكريم سيجد معرقلين يعرقلون سعيه المبارك ويرفضون أي تصحيح في سلوكهم ويعتبرونه مخالفاً لما تعودوا عليه وما سار عليه آباؤهم ، ويتهمونه بمختلف الاتهامات .
التأمل الثالث :
حتى نكون موضوعيين ومنصفين فإن الآيات الإلهية كالبراهين والحجج والأدلة إن لم تكن بيّنة وقوية تدحض باقي الحجج فسيكون من حق الطرف الآخر أن لا يقبل بها أو حتى يرفضها ، وبالتالي فعلينا أن لا نطلب من الآخرين أن ينتموا إلى ديننا وتوجهنا إن لم نسعَ لبيان آيات الله جل وعلا وجعلها قاطعة مقارنة بالحجج الأخرى ، وفي الوقت نفسه علينا أن نعذرهم في عدم تقبلهم لديننا وتوجهاتنا الفكرية والعقائدية لأن المشكلة ليست فيهم وإنما فينا بسبب عدم نجاحنا في جعل آيات الله بينات لهم ، ولكن بشرط أن يمتلك الطرف المقابل حجة أقوى من حجتنا في تبنيه للاتجاه الفكري الذي ينتمي إليه ، وإلا ستكون حجته في رفضه لتوجهنا أضعف .
التأمل الرابع :
من الضروري فهم التلاوة بمفهومها القرآني لا بالمفهوم العرفي ، فمن يتلي القرآن ينبغي أن تكون تلاوته مبيِّنة للآيات القرآنية ، وبعبارة أخرى أن تكون آيات القرآن الكريمة – من خلال تلك التلاوة – بيّنة ومبيَّنة (بالفتح) بالقدر المستطاع لا غموض فيها ، أما التلاوة العرفية فتُقرَأ الآيات القرآنية والتركيز على قواعد (التلاوة) ومخارج الحروف الى درجة الإفراط ، وفي الوقت نفسه هناك تفريط ببيان هذه الآيات وتبيانها وتوضيحها .
وبهذا الصدد ننصح بقراءة القرآن الكريم مع شرح مبسط لمفردات آياته الكريمة ، وأن تُركز إذاعات وقنوات القرآن الكريم على شرح الآيات الكريمة وليس فقط على التلاوات المتعارفة .
التأمل الخامس :
يبدو أن الآيات عندما تكون بينات يكون لها سحر مبين وواضح ، بحيث يتأثر بها الذين كفروا لكنهم يعاندون ويصرّون على كفرهم ، وعنادهم هذا يقلب الحقائق ، فبدل أن تكون الآيات بينات والحق مبيناً يكون السحر مبيناً ، وكأنهم يشبّهون الآيات – التي تعتبر رحمة للناس – بالسحر ليشوهوا صورة الحق في أعين عوام الناس والأتباع ويثيرون العصبية والعاطفة الدينية عندما يجعلونه في مواجهة مع العقائد المتجذرة في قلوبهم رغم بطلانها وعدم امتلاكهم على بينات تؤيد معتقداتهم ولا على صحة إتهامهم للآيات البينات بأنها إفك مفترى .
التأمل السادس :
إن تلاوة آيات الله عز وجل بحيث تكون بيّنة هي في الحقيقة رسالة السماء ، وهي مهمة الأنبياء والرسل وأوصياؤهم وكل من سار على نهجهم ، فهي ليست بمهمة يسيرة ، ولا بد من رجل يجسّد هذه الرسالة ويجعل الآيات بينات ، فالآيات لوحدها لا تكون بينة إلا لمن وفق الله جل وعلا ، والذي يتلو هذه الآيات ويبيّنها هو إمام زمانه سواء كان رسولاً أو وصي رسول .
وكما نعلم أن القرآن الكريم كتاب صامت ، يستنطقه حَمَلَتُهُ ، فنجد تجسيد القرآن في أفعالهم وأقوالهم وبيان آياته المتلوّة ، لذلك سمي الإمام علي عليه السلام بالقرآن الناطق ، فتجد الكافرين (العدو الخارجي) والمنافقين (العدو الداخلي) لا يعترضون على الآيات كاعتراضهم على من يمثل رمزية بيانها وتوضيحها وتجسيدها .
التأمل السابع :
إن الآيات القرآنية بمختلف أنواعها وأقسامها ( العقائدية والفقهية والتأريخية والسننية والسيرية وغيرها ) يفترض أن تكون حجة وبيّنة على المسلمين جميعاً ، لأن القرآن هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وآله ، إلا أن هذه الآيات الشريفة ليست حجة ولا بينة على غير المسلمين إلا أن تطرح قضايا متفق عليها كالأمور المنطقية والعقلية .
ووفق ما تقدّم فلا معنى لأن يكون مسلم غير مقتنع بما جاء به القرآن الكريم خصوصاً في آيات الأحكام مقلداً ومبغبغاً لما يقوله غير المسلمين بحجة (العلمانية) ، لأن هذه الايات حجة عليه وليست عليهم ، فالخمر حرام والحجاب واجب والربا محرم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب بغض النظر عما يقوله غير المسلمين .
التأمل الثامن :
رغم أن التلاوة المؤدية الى بيان آيات الله عز وجل تمثل رسالة السماء بكل أبعادها وبالتالي فهي أهم من التلاوة المتعارف عليها بين عامة الناس إلا أن الأخيرة ( أي التلاوة العرفية ) يمكن أن تكون وسيلة فاعلة في الوصول الى التلاوة الأولى ، فكثير من مستذوقي الآيات القرآنية والمتأملين والمتدبرين فيها بدأوا مشوارهم التأملي بالتلاوة العرفية قراءةً أو استماعاً فانتقلوا الى التأمل والتدبر وتذوق حلاوة هذه الآيات العظيمة .
ولكن على المؤمن أن لا يقف على وسيلة معينة وينشغل بها ويقضي وقته فيها من دون الوصول الى الغاية المراد الوصول إليها بواسطة تلك الوسيلة ، فلنهتم بالتلاوة العرفية ولكن على أن لا تكون غاية ونترك التلاوة التدبرية والتأملية الكاشفة عن البينات التي أتت بها تلك الآيات الكريمة .
التأمل التاسع :
عندما نسمع الحديث النبوي المروي عن النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله ( رُب قارئ للقرآن والقرآن يلعنه ) نعرف أن انتقاد التلاوة العرفية مستند الى أساس نبوي ، فمتى يلعن القرآن قارئه ؟ عندما لا تكون الغاية من قرائته تبيان الآيات الكريمة وإنما تكون الغاية دنيوية كالشهرة والمال والسمعة والتقرب من السلطان وما شابه ، ولا بد من رضوخ وقبول القارئ بكل ما يقرأه وأن لا يكون لسان حاله (مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى) عند الوصول لبعض الايات .
وهذا لا يعني بالضرورة أن يكون تبيان الآيات القرآنية من خلال نفس القراءة والتلاوة وبشكل مباشر ، وإنما المهم هو أن تكون نية تبيان الآيات – على الأقل – حاضرة عند القارئ لتكون هذه القراءة والتلاوة هي الخطوة الأولى نحو تبيان هذه الآيات الكريمة .
التأمل العاشر :
من سمات التجديد لدى المصلحين أنهم يتلون آياتٍ بيناتٍ على مجتمعهم ، فعلى المستوى الفقهي مثلاً يبيّنون لهم أحكاماً تبدو جديدة على الناس بسبب غفلتهم عنها لانشغالها بِتُرّهات ما أنزل الله بها من سلطان ، ويلتزمون بأعراف لا قيمة لها دينياً توارثوها من أبائهم وأجدادهم ، فعندما يأتي المصلح بِبيّناتٍ مستقاة من آيات الله العزيز ينتفض أولئك الغافلون ضده بدل أن ينفضوا غبار الغفلة عن قلوبهم ويشكرونه ويشكروا الله جلت آلاؤه على مجيئه إليهم ، ويبدو أن تفكيرهم بأن هذا المصلح سيصدهم عما كانوا يعبدون لغايات شخصية وليس بسبب حجج وبينات يعكس عن نواياهم الداخلية بصد الآخرين عما كانوا يعبدون ، خاصة وأنهم لا يملكون من البينات شيئاً كما يملكها المصلح .
التأمل الحادي عشر :
ربما من الملاحَظ لدى الكثيرين إهتمام البعض بتراث الأجداد وتأريخهم كإهتمام العراقيين بحضارة البابليين والآشوريين واهتمام المصريين بحضارة الفراعنة ، وهذا الاهتمام من حيث الأصل لا خلاف عليه ، بل أحياناً يكون مُهمّاً ، ولكن أن يكون هذا الاهتمام الى درجة الإفراط بحيث يتم التفريط بتأريخ الأنبياء والمرسلين الذين عاشروا تلك الأقوام فهنا يكمن الخلاف ، بحيث لو طرح أحد المؤمنين آيات وبينات الأنبياء والمرسلين لاستهجنها بعض أولئك المتأثرين بتلك الحضارات الذين يحاولون التطبع بطباعهم ويسلكون سلوكهم وينتهجون نهجهم ولو سنحت لهم الفرصة لعبدوا ما كان يعبدون أولئك ، وربما يعتبرون ما جاء به الأنبياء والمرسلون صداً عن حضارة الأجداد ومعرقلة لها !
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views
