بهاء النجار
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
التأمل الأول :
إن الأسياد والقادة يكونون مستكبرين عندما يكفرون بدين الله وكتابه ويبتعدون عنه سبحانه ، وهنا الكفر والابتعاد عن الله درجات ، فمنهم من يكون كفره مطلقاً بمعنى أنه لا يؤمن بالله عز وجل أصلاً ، ومنهم من يؤمن به بلسانه وقلبه ولكنه لا ينعكس على سلوكه وحياته ، والقسم الثاني ربما منتشرٌ اليوم أكثر من الأول ، فأصحاب النفوذ ومالكو الشركات الكبرى وزعماء الأحزاب وشيوخ العشائر وحتى بعض القيادات الدينية وغيرهم من مصاديق القسم الثاني عندما يأمرون بأوامر مخالفة لدين الله ، فمثلاً يأمرونهم بالسرقة أو القتل أو التجسس أو الفتنة بين الناس أو تضليلهم أو خداعهم أو إشاعة الفاحشة من خلال التبرج وبث السموم غير الأخلاقية ، فإذا كان الأتباع من ضعيفي الإيمان سينقادون وراءهم وإلا فيتركونهم .
التأمل الثاني :
أحياناً تكون أوامر المستكبرين للمستضعفين بعصيان الله جلت قدرته – وكأنه غير موجود – بشكل سري (ليلاً) خوفاً من ردود الأفعال أو حفاظاً على سمعتهم التي ربما يريدونها تلائم الجو العام الرافض لبعض المعاصي ، وهذا هو الوضع السائد في كل زمان ومكان مع الأسف ، وهذا يكشف عن نفاق هؤلاء المستكبرين الذي يُعتبر كفراً عملياً ، وأحياناً تكون هذه الأوامر المخالفة لشرع الله سبحانه نهاراً جهاراً وبلا خجل أو وجل ، لأن الجو العام يقبل بهذه المخالفات .
وما يجعل تلك الأوامر سرية أو علنية هو الجو العام ، وهذا يكشف دور الناس والرأي العام في إشاعة المستكبرين – من مسؤولين ومدراء شركات ووسائل إعلام وغيرها – للمعاصي من عدمه .
التأمل الثالث :
علينا أن لا نحصر الاستكبار والاستضعاف بالقضايا المجتمعية الداخلية الضيقة ، فمن المعلوم أن هناك إستكباراً دولياً عالمياً مقابل استضعافٍ لدول وشعوب ، إذ تطمح الدول المستكبرة أن تكون الدول المستضعَفَة أداة بيدها تنفّذ أجنداتها بما فيها ما يتعارض مع دين الله من خلال تنفيذ أوامرها التي تكون مرة بشكل سري تحت عناوين جذابة كالديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية ودعم القطاع الخاص وغيرها من العناوين التي يتفق على ضرورتها الجميع ولكن تستغلها الدول المستكبرة ومن خلال اتفاقات دولية مع الدول المستضعَفَة لتطبيق رؤاها السياسية والثقافية والفكرية المخالفة لشرع الله جل وعلا الذي يكشف عن كفرها العملي .
وأحياناً تكون أوامر الدول المستكبرة علنية وفي وضح النهار عندما تشن حروباً عسكرية واستخبارية وإعلامية وسيبرانية وغيرها .
التأمل الرابع :
في عالمنا الإسلامي قد لا نجعل شخصاً نداً لله عز وجل بدرجة عبوديته من دون الله تعالى ، لأننا مؤمنون – نظرياً – بأن الله وحده لا شريك له ، ولكن من الطبيعي أن نجعل أنداداً لله سبحانه في المستويات الأدنى ، فمثلاً عندما نجعل نداً لدين الله وتشريعاته فإننا جعلنا نداً لله على المستوى التشريعي ، فمن يفعل ذلك غير مؤمن بأن التشريعات الإلهية يجب أن لا يعارضها شيء ، فالمصارف الربوية أصبحت أمراً طبيعياً والغناء والتبرج أمراً لا يمكن التنازل عنه والخمور مسألة ضرورية لجذب السياح وهكذا ، وكل هذه وغيرها يقوم بها المستضعفون الذين استضعفوا دينهم في قلوبهم بأمر وضغط من المستكبرين .
التأمل الخامس :
كثير من الذين استكبروا لا يجعلون لله أنداداً ، لكنهم يجعلون لأولياء الله أنداداً ، وكما نعلم فإن الله تعالى شاء أن تكون طاعته من خلال طاعة ولاة أمره من الأنبياء والأوصياء عليهم السلام ، فعندما يجعل لهم المستكبرون أنداداً أمثال السلاطين ووعاظهم وأئمة السوء والكفر والمضللين فإنما يريدون أن يجعلوا لله أنداداً ولكن بشكل غير علني كي لا يضج الضاجون وينتفض المنتفضون ، عندها يسهل توجيه الأوامر – بشكل غير مباشر – الى المستضعفين التي تؤدي الى الكفر العملي ما دام الكفر النظري بعيد المنال ، وما دام المستضعفون قد استضعفوا دينهم في قلوبهم فقد أصبحوا مستعدين لقبول ما يأمرهم به المستكبرون كطاعة السلاطين ووعاظهم وغيرهم باعتبارهم بُدلاء عن أولياء الله تعالى .
التأمل السادس :
إن الاستكبار الناشئ من التكبر مرفوض بلا شك ، وانطلاقاً من مبدأ ( التكبر على المتكبر هو التواضع بعينه ) يمكن أن يكون الاستكبار على المستكبرين مقبولاً ، وبما أن الاستكبار والتكبر لا يعنيان أن المستكبر والمتكبر كبيرين وإنما يحاولان أو يتصوران أنهما كبيران ، وبالتالي فعلى المستضعفين من المؤمنين أن يكونوا مستكبرين أمام المستكبرين فإن ذلك سيُضعف جانب الكفر ويقلل من الأنداد لله تعالى ولشريعته وأوليائه ، وأن لا يبقوا مستضعفين من دون محاولة للتكبر من استكبر عليهم ، وإلا سيندمون على استضعاف قدراتهم وسيكونون مكبلين بالأغلال وهم عملياً أقرب للكفر من الإيمان .
التأمل السابع :
مما لا يحتاج الى إثبات أن الاستكبار على الآخرين أو البقاء تحت نير الاستكبار أمر مرفوض ، ومن باب الإنصاف فإن رفضنا لاستكبار الآخرين علينا يجب أن يرافقه رفض لاستكبارنا على الآخرين ، ولنحمي أنفسنا من الاستكبار ( سواء كان علينا أم على الآخرين ) فإن الحل يكمن في التجسيد العملي لعبارة ( الله أكبر ) ، هذه العبارة التي طالما يرددها المؤمنون في حياتهم بألسنتهم ولكنهم لا يتفاعلون معها على أرض الواقع رغم أن تجسيدها يعني التوحيد العملي ، فلا أنداد لله جل جلاله ما دمنا نراه أكبر من أي شيء ، أكبر من كل مستكبر ، وأكبر من كل من يأمر بالكفر ( عملياً كان أم نظرياً ) ، وأكبر من أنفسنا التي قد تميل الى التكبر حتى على تشريعات الله الأكبر .
التأمل الثامن :
لو دققنا النظر في مصطلحي الاستكبار والاستضعاف لوجدنا أنهما منبثقان من مصدر واحد وهو الاستضعاف ، لأن الاستكبار هو عبارة عن استضعاف المستكبر للآخرين أو استضعاف الآخرين للمستضعَف ، وفي الوقت نفسه – وكما بينا سابقاً – أن المستضعَف قد استضعف نفسه فاستضعفه الآخرون فاستكبروا عليه وتأمّروا عليه الى درجة إجباره على الكفر بالله ( نظرياً كان أم عملياً ) وجعل الأنداد له ولشريعته وسفرائه ، فلا يستطيع أحدٌ أن يستكبر على أحدٍ ويستضعفه إذا كان هذا المستضعَف في نفسه كبيراً .
التأمل التاسع :
ذكرنا سابقاً أن المستضعفين يكون إستضعافهم في كثير من الأحيان من دواخلهم ، أي أنه إستضعاف ذاتي ، بحيث يستضعفون أنفسهم وقيمهم ومبادئهم وثوابتهم ودينهم فيستضعفهم الآخرون ، وأحياناً أخرى يكون هذا الإستضعاف صفة ذاتية متجذرة ومتأصلة ، بحيث تكون هناك رغبة عند المستضعفين بالاستضعاف ، بمعنى أنهم يرغبون بالإستضعاف فإن استطاعوا إضعاف غيرهم استضعفوهم فيكونوا مستكبرين وإن لم يستطيعوا فيستضعفوا أنفسهم فيكونوا مستضعفين .
وعندما يكون الاستضعاف بهذا المستوى وبهذا الشكل فمن الطبيعي أن يأتمروا ويأمروا بالكفر وأن يجعلوا أنداداً لله تعالى ولشريعاته وأوليائه .
التأمل العاشر :
هناك رأي تفسيري يذهب الى أن (الذين استكبروا) ليس كالمستكبرين بل هم أدنى استكباراً ، و (الذين استضعفوا) ليس كالمستضعفين بل هم أقل استضعافاً إلا أن تكون هناك قرينة تثبت العكس ، ووفق هذا الرأي فإن فهمنا للآية الكريمة يكون أقرب الى اعتبار (الذين استكبروا) و (الذين استضعفوا) هم من يكفرون بالله تعالى عملياً وليس نظرياً ، باعتبار أن الكفر العملي هو أقل مرتبة من الكفر النظري ، وهذا يعني أن ذلك يشمل المسلمين المؤمنين بالله سبحانه نظرياً لكنهم يكفرون به عملياً من خلال ارتكابهم للمعاصي وجعل أنداد لدينه وأوليائه من دون أن يجعلوا أنداداً له جل وعلا .
التأمل الحادي عشر :
على المستوى الأسري والعائلي نجد هناك إستكباراً وإستضعافاً أيضاً وليس فقط على المستوى السياسي ، وهذا ما يهمّ غالبيتنا ، إذ نجد آباءاً وأزواجاً مستكبرين وأبناءاً وزجات مستضعفين ، هذا الإستكبار والإستضعاف يشمل الجانب السلوكي والجسدي وكذلك الجانب الفكري ، إذ أن هناك آباءاً وأزواجاً يجبرون أبناءهم وأزواجهم على قناعات يتبنونها ، هذه القناعات تصل الى حد الكفر ( النظري أو العملي ) وجعل أندادٍ لله تعالى وأندادٍ لشريعته وأوليائه ، أما الأبناء والزوجات فقد يضعفوا أمام هذا الاستكبار وربما يروق لهم لإرضاء أنفسهم الأمارة بالسوء فيستجيبوا لما يؤمروا به .
التأمل الثاني عشر :
ربما يشعر المستَضعَفون بالندامة عندما يروا العذاب أكثر المستكبرين ، باعتبار أن المستكبرين قد حصلوا على شيء ما من الدنيا ، أما المستَضعَفون فقد خسروا الدنيا والآخرة ، خسروا دنياهم باستسلامهم لأوامر من تكبّر عليهم حتى وصل الأمر الى الكفر بالله تعالى ، وخسروا آخرتهم نتيجة ذلك الاستسلام .
وبما أن غالبية الناس أتباع ، والقليل منهم قادة ، وحتى لا يكون في موقف الندامة يوم القيامة عليهم أن يعيدوا النظر في القيادات التي إتبعوها ، فإن كانت قيادات مستكبرة تأمر بالكفر بالله سبحانه – حتى لو كان عملياً – مما يدفعهم الى جعل أنداد لله ولشرعه وأوليائه فعليهم أن يتركوا هذه القيادات ويتخلصوا من الانقياد وراءها .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views