بهاء النجار
قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48)
التأمل الأول :
يكون الحق أحياناً ظاهراً جلياً وأحياناً يكون باطناً خفياً ، والباطل كذلك ، فعندما يكون الباطل خفياً مستوراً أو غير ملموس ولا محسوس فإن غلبة الحق ستكون صعبة إن لم يكن هناك عالم بالغيب – فضلاً عن علّام بالغيوب – يعرف بواطن الباطل فضلاً عن ظواهره .
فالمنافق مثلاً باطلٌ ولكن خفيٌ ، فإن لم تكن علامات المنافق واضحة ومعروفة فقد يصعب على الكثيرين معرفته وتمييزه من غيره ، أما من يعلم الغيب يمكنه تمييزه فيقذفه بالحق ، وهذا أملنا بربنا الذي لا يريد للباطل أن يتحكم بنا .
التأمل الثاني :
من صفات رب العالمين ورب الأنبياء والمرسلين العلمُ الدقيق بالغيب ، غيب السماوات والأرض ، غيب الدنيا والآخرة ، غيب المادة وما وراء المادة ، غيب ما علمناه وما لم نعلمه ، وكل أنواع الغيوب ، وإلا كيف لربٍ أن يرعى مربوبيه وليس عنده علم ما يحيط بهم في كل دقائق الأمور .
ويمكن القول أن كلَ ربٍ يمكن أن يرعى مربوبيه بقدر علمه بغيب ما يحيط بهم – كرب الأسرة ورب العمل وما شابه – كعلم الأب بأن اقتراب طفله من النار سيؤدي الى احتراقه وغيرها ، بمعنى قدرته على معرفة ما يغيب عنهم مما يصب في مصلحتهم ، وذلك بقدرته على التخطيط لمستقبلهم وقراءة المستقبل قراءة واعية حكيمة .
التأمل الثالث :
إن العلوم عموماً – ومنها الطبيعية – تُمكّن الإنسان من الحصول على بعض مختصات علم الغيب ، فالعلماء يعلمون بما يغيب عن ذهن وتصور ومخيلة الجهّال ، مع ملاحظة أن هذا العلم الجزئي بالغيب لا يمكّن حامله من الجزم بوقوع ما يعلمه ، فالطبيب مثلاً لا يمكنه الجزم بشفاء مريض عند تناول الدواء الذي يحدده أو تدهور حالته الصحية عند عدم تناول هذا الدواء ، لأن المشيئة الإلهية قد تحول دون ذلك .
ومن خلال هذا العلم الجزئي بالغيب يمكن لحامله القذف بالحق بمقدار ما يملكه من علم ، فالعلماء الذين يرفعون راية الحق يمكنهم ضرب أعداء الحق من خلال أسلحة لا يعلم بجزئيات فعاليتها إلا هم ، ويمكن أن تكون هذه الأسلحة عسكرية وغير عسكرية كالإعلام والاقتصاد والسلاح الإلكتروني (السيبراني) وغيره .
التأمل الرابع :
من المعلوم أن علم الغيب هو علمٌ منحصر بالله تبارك وتعالى ، ويمكن أن يُستفاد منه في التربية ، وجهل المخلوق بالغيب فرصة لتربيته تربية أخلاقية تزيد من ترابطه بربه جل وعلا ، ولو كان هذا العلم متاحاً للمخلوقين لتهدّم أحد أركان الاختبار والابتلاء الإلهيين .
فلو عَلِمَ الإنسان موضع رزقه مثلاً لاستغنى عن طلب الرزق من الله الرزاق عز وجل ، ولو عَلِمَ الأشخاص الذين يمكن أن يؤذونه لما احتاج إلى الاستجارة بالله سبحانه، وهكذا نجد ضرورة قصوى في جهل الإنسان بالغيب كي يرتبط بالله جل شأنه.
التأمل الخامس :
من الثابت قرآنياً أن الرسول صلى الله عليه وآله يمكن أن يعلم الغيب بإذن الله تعالى ( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ) ، وقد تطرّقنا في تأملات سابقة الى أن الرسول يمكن أن يكون كل حامل رسالة إلهية وليس بالضرورة أن تكون هذه الرسالة شريعة خاصة به ، أما إذا كان سائراً على نهج الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله بشكل دقيق كما كان أمير المؤمنين علي عليه السلام حيث قال : ( ولَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُه اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّه ) فيمكن أن يعلم الغيب بإذن الله عز وجل ، ولم يكن فقط متبعاً لرسول الله صلى الله عليه وآله بل كان نفسه بنص القرآن الكريم ( وأنفسنا وأنفسكم ) من آية المباهلة ، خاصة وأنه مرتضى عند الله سبحانه حتى لُقِّبَ بالمرتضى ، وأن طائفة كبيرة من المسلمين تترضى عليه .
* مشاركتها ثواب لنا ولكم
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views