بهاء النجار
فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
التأمل الأول :
على العاقل أن يفكر ويهتم جيداً باليوم الذي يمكن أن ينفع الآخرين أو يضرهم ، أو يمكن أن ينفعه الآخرون أو يضرونه ، فتركيز الاهتمام على النفع والضر في الدنيا لا يناسب المؤمن العاقل ، لأن هذا اليوم زائل بأي حال من الأحوال ، وهذا لا يعني طبعاً إهمال الدار الدنيا ، ولكن أن لا يكون اهتمامنا الرئيسي والأساسي وربما الوحيد هو النفع والضر فيها ، نفع أنفسنا وضر أعدائنا ، أو أن نجعل النفع والضر في هذه الدنيا قربة الى الله تعالى ونصرة لدينه كي نستفيد منه يوم القيامة بأن ننفع الآخرين أو ننتفع منهم أو نضر أعداءنا ولا يضرونا ، وهذا ما يمكن أن ننسبه لما يُعرف بتجسيد الأعمال يوم القيامة .
التأمل الثاني :
إن عذاب النار يكون أشد قساوة عندما يرى الشخص أنه قد نفع من يجب عليه ضره ، كَنفعِ أعداء الدين والمؤمنين كالنفع الاقتصادي أو تيسير وتسهيل أمورهم وقضاء حوائجهم ، والإضرار بمن يجب عليه نفعه كالإضرار بالمؤمنين وبمصالحهم وعرقلة حياتهم وتضييقها ، ويشتد العذاب عندما يرى أنه لم ينتفع – حتى دنيوياً – من نفع أعداء الدين والمؤمنين ولا من إضرار أولياء الله وعباده ، بل إن المنتفع – دنيوياً – هو غيره من المتسلطين والمتنفذين ، بل وربما قد تضرر دنيوياً من هذا النفع والإضرار بسبب بغض الناس له ومقاطعته ، وبالتالي تضرر دنيوياً وأخروياً ، ولم ينتفع لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وذلك هو الخسران المبين .
التأمل الثالث :
إذا كان التكذيب النظري فقط يجعل المكذبين يذوقون عذاب النار من دون التكذيب العملي فهذا يعني أن بمجرد أن يؤمن الإنسان بالله تعالى ورسله وكتبه واليوم الآخر فإنه سينجو من هذا العذاب حتى لو قتل وزنا وسرق وشرب الخمر وكذب واغتاب ووو ! وهذا أمر غير معقول ، خاصة وأن من الثابت لدينا أن للعاصين – ممن يؤمنون إيماناً نظرياً – عذاباً يناسب معاصيهم ، ربما هو أقل من العذاب المخصص لغير المؤمنين إيماناً نظرياً ولكنه موجود .
فأصحاب المعاصي هم في الحقيقة مكذبون – تكذيباً عملياً – باليوم الذي لا يملكون فيه نفعاً ولا ضراً ، ولو كانوا مصدقّين بذلك عملياً لما عصوا ، فشغلهم النفع والضر الدنيوي عن النفع والضر الأخروي .
التأمل الرابع :
إن القرآن الكريم يفتح أذهاننا حول بعض المصطلحات المهمة كي ينمّي الوعي فينا ولنواجه الحياة بعقول نيرة واعية مستوعبة لما يحدث من حولنا ، ومن هذه المصطلحات التي يتناولها القرآن الكريم بين الحين والآخر (الظلم) ، فكثير من الناس – ومنهم المسلمون – يحصر الظلم بجور الحكام ، ولو درسنا النظرة القرآنية للظلم لعرفنا الظلم والظالمين بشكل دقيق ولرتبنا على ذلك أثراً ينفعنا في الدنيا والآخرة .
ومن مصاديق الظلم التكذيب بالعقائد الحقة كالإيمان باليوم الآخر ، وأن المكذِّب بهذه العقائد يُعتبر ظالماً ، وبالتالي فلا نلومنّ من يعتبر المكذِّبين بهذه العقائد من الظالمين ويتعامل معهم وفق هذا الاعتبار .
التأمل الخامس :
الذين يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي او مخالفة أوامر الله تعالى او ترك الواجبات الملقاة على عاتقهم إنما يفعلون ذلك لأنهم يكذّبون بيوم الدين ، يوم لا يملك أحدهم لأحد نفعاً ولا ضراً ، حتى وإن كانوا يؤمنون به نظرياً ويعتقدون بوجود ذلك اليوم ، ولو كانوا يؤمنون به حقيقة لانعكس ذلك على سلوكهم ولابتعدوا عن المعاصي ولالتزموا بالواجبات تجنباً للضُر الذي يمكن أن يُلحَقَ بهم أو أملاً بالنفع الذي لا يملكه إلا الله أو من ارتضى من عباده .
وبعبارة أخرى ، أن الظلم درجات يختلف بحسب التكذيب بيوم القيامة الذي يسببه ، فالتكذيب النظري ينتج ظلماً أعلى ، والتكذيب العملي ينتج درجات أدنى من الظلم ، وبالتالي لكُلٍّ عذابٌ يناسبه .
التأمل السادس :
إذا كان الذين ظلموا ( سواء ظلموا أنفسهم بالمعاصي أم ظلموا الآخرين بالتجاوز على حقوقهم ) سيذوقون عذاب النار ، فما مصير من لم يظلم نفسه ولم يظلم غيره ؟ بالتأكيد سينجون من النار ، بل إن هؤلاء يملكون النفع والضر بإذن الله تعالى ، إذ ينفعون المؤمنين بالشفاعة لهم ، ويضرون الكافرين والمشركين والمنافقين بالشهادة على ظلمهم .
طيب ، وهل يوجد أحدٌ لم يظلم نفسه ولم يظلم غيره ؟ نعم هم المعصومون من الأنبياء والأوصياء ، فهؤلاء لم يكذّبوا مطلقاً بيوم الدين فوصلوا الى ما وصلوا إليه .
التأمل السابع :
النفع والضر أمران ضروريان لمعرفة الطرف الذي نتقرب منه ، فالعقل والفطرة يؤكدان هذه الضرورة ، إذ يميل الى الإنسان بفطرته الى من ينفعه ويتقي ضرر من يمكن أن يضره ، ولكن النفس الأمارة بالسوء تستغل هذا الميل الفطري لتحقيق غايتها من الراحة والدعة والسمعة وما شابه ، فتدفع هذه النفس صاحبها الى الميل لأصحاب النفوذ لتنتفع منها وكذلك الميل لأصحاب الأموال لنفس الغرض ، وفي الوقت نفسه تتقي ضرر من ضرره شكلي ووقتي وتتغافل عن من بيده الضرر الحقيقي جل وعلا ، الضرر الأخروي فضلاً عن الدنيوي .
أما المؤمن فيميل الى من ينفعه النفع الحقيقي حتى وإن كان ظاهره ضرراً كالفقر والمرض مثلاً ويتقي من بيده الضر حتى وإن كان ظاهره نفعاً كالسلطة والنفوذ .
التأمل الثامن :
لكل تكذيب هناك ظلم يناسبه في الكمّ والنوع ، ولكل ظلم هناك عذاب يناسبه في الكمّ والنوع ، ولكل عذاب هناك نار تناسبه في الكمّ والنوع ، وبالتالي فالنار تكون شديدة وحقيقية للظلم الجلي ، وتخفّ شدتها كلما خفّت شدة الظلم ، فإذا صار الظلم محدوداً لا يتجاوز النفس وبحدود ضيقة جداً فإن ناره يمكن أن تكون من نوع خاص ، كنارِ الفِراق كما ورد في دعاء كميل الشهير ( فَهَبْني يا اِلـهى وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبّي صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ فَكَيْفَ اَصْبِرُ عَلى فِراقِكَ ) ، أو نار العتب أو نار الحسرة والندامة أو نار إعراض الله تعالى وجهه عن العبد أو نار الخلود في مستوى ثابت ورتيب من الحياة حتى وإن كانت في الجنة ، وهكذا باقي أشكال النيران .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views