بهاء النجار
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ
شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22)
التأمل الأول :
يعترض البعض أحياناً على التركيز على الجانب المعنوي الحقيقي وذلك على حساب التعامل مع الجانب المادي ، والثقافة القرآنية كفيلة برد هذا الاعتراض ، فالمتغطرسون والمتجبرون من الأبالسة يوهمون الناس بقوتهم فيتبعهم الناس وكأن بأيديهم كل شيء ، بل وأعظم من ذلك ، فأحياناً تتصرف هذه الفئة من الناس تجاه أولئك المتغطرسين والمتجبرين وكأن لا وجود لرب لهذا الكون مالك كل شيء في السموات والأرض ، هذا لأنهم ينظرون الى الجانب المادي الظاهري فقط ، مع إن الحقيقة التي يبينها القرآن الكريم أنهم لا يملكون مثقال ذرة في السماوات والأرض .
التأمل الثاني :
على المؤمن أن يعي جيداً أنه لا يوجد مخلوق يملك بالفعل شيئاً من هذا الكون ولو بمقدار ذرة ، وما يملكه المخلوقون – وعلى رأسهم الإنسان – إنما هو في الحقيقة تخويل من الله تعالى بامتلاكه وليس مُلكاً حقيقياً ، بمعنى أنه لا يتصرف بشيء منه إلا بإذن الله سبحانه ، وبعبارة أدق أنه يتصرف بما يملكه (ظاهراً) وفق ما يرضي الله جل جلاله ووفق أحكامه الشرعية التي أنزلها على أنبيائه عليهم السلام وبالخصوص النبي الأكرم محمد صلى الله عليه وآله ، والتصرف بما نملك بما لا يرضي الله هو شيء من الاعتقاد العملي بأنه شريك في مُلكٍ الله عز وجل ، يزداد كلما ازدادت رقعة التصرف المخالف للشريعة الإلهية .
التأمل الثالث :
من المفروض أن الإنسان يسخّر كل ما يملك لينصر الله مالك المُلك ويكون له ظهيراً ، ومن الواضح أن الله جلّت قدرته لا يحتاج الى نصير أو ظهير ، ولكن الإنسان يحتاج الى التكامل فينصر دين ربه جل جلاله ، أو على الأقل أن لا يجعل الإنسان شيئاً مما يملك ظهيراً لأعداء الله من أتباع إبليس ونصرة لهم .
ويبدو أنه كل ما جعل الإنسان ما يملكه من أملاك (ظاهرية) كالأموال والأولاد والأتباع والعقارات وغيرها ظهيراً لأعداء الله ونصرة لهم كلما اقترب من الشرك باعتقاده أنه شريكٌ لله تعالى في مُلكه وإن لم يصرح ذلك بلسانه ، والعكس بالعكس .
التأمل الرابع :
أحياناً يسوق إلينا الباري عز وجل أمثلة واقعية على بعض النظريات المثبتة في القرآن الكريم كي يتم تأكيدها من جانب ، ومن جانب آخر فإن البعض لم يرتقوا الى مستوى التصديق بالنظريات بمجرد طرحها ، وإنما يصدقها عندما يلمس أثرها على أرض الواقع .
فمثلاً لمسنا جميعاً تأثير فايروس كورونا الذي لا يرى بالعين المجردة على العالم كله بما فيه من دول تسمي نفسها (عظمى) ، هذا الفايروس الذي لا يعدل مثقال ذرة عرقل الجيوش والشركات عابرة الحدود وحيّر الخبراء حتى منّ الله على البشرية بإيجاد طرق الوقاية ومنها اللقاحات ، وما فعله الفايروس كشف أن الإنسان – باعتباره سيد المخلوقات – لا يملك مثقال ذرة في الأرض فضلاً عن السماوات .
التأمل الخامس :
ما زال الكثيرون يفهم الشرك على أنه عبادة الأصنام فقط ، مع إننا يومياً نشرك غير الله سبحانه في طاعتنا ومعاملاتنا وقناعاتنا وأفكارنا وسلوكنا ، فمن يتصرف بما يملكه من ممتلكات في معصية الله فهو لا يعتقد – من الناحية العملية – أن ما يملكه هو ملكٌ لله تعالى وهو مستخلف ومخولٌ بالتصرف به في ما يريده الله جل جلاله ، بل يرى أنه يملك هذه الأملاك ومن حقه التصرف بها كيفما يشاء لا كيف ما يشاء الله سبحانه ، أما من يسخّر ما يملك لمعاداة الله ودينه فأمره أسوأ بكثير .
لذا يمكن أن نستنتج أن من أشكال التوحيد هو تسخير ما نملك لطاعة الله تعالى ونصرة دينه ، وكلما سخّرنا كل ما نملك في ذلك كلما اقتربنا من التوحيد عملياً ، والعكس بالعكس .
التأمل السادس :
قد يتبادر الى أذهان بعض الإخوة أن تسخير ما يملكونه لنصرة الله تعالى ونصرة دينه ينحصر بتقديم الدعم المالي للمجاهدين في سبيل الله أو ربما يفهمون هذا التسخير بأنه حرمان أنفسهم من ممارسة الحياة بشكلها الطبيعي حتى لا يشركوا أنفسهم في مُلك أي شيء فيقتربوا من الشرك والعياذ بالله ، وهذا الفهم قد تكون له ردود أفعال سلبية .
مع إن نصرة دين الله تعالى بما نملك لها مصاديق عديدة ، منها الإنفاق الواجب على العيال وجعلهم مؤهلين ليكونوا أفراد صالحين ومصلحين في المجتمع ، ومنها الإحسان الى الوالدين وتخفيف الأعباء عنهم ، ومنها دفع الحقوق الشرعية ، ومنها نشر العلوم النافعة التي تقوي دين الله في عقيدة الناس ، ومنها مصاديق كثيرة جداً .
التأمل السابع :
هناك تقارب بين بعض المصطلحات القرآنية ومصطلحات العلوم الطبيعية من حيث اللفظ ولكنهما يختلفان من حيث المعنى ، فالذرة مثلاً مفردة مذكورة في القرآن الكريم وموجودة في علم الكيمياء ، وكلتاهما تدلان على الشيء المتناهي في الصغر ، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن المقصود بالذرة قرآنياً هي نفسها الذرة كيميائياً كما قد يظن البعض ، ومثل هذه الحالة نجدها في مفردة الكبد ، فقديماً كانت هذه المفردة تعني الأحشاء كما في قصة لفظ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام لكبده بسبب السمّ ، بينما حديثاً تُطلَق على عضو معين في الجسم دون غيره .
وبالتالي علينا أن نتعامل مع كل مفردة وردت في حقل من حقول المعرفة وفق أسس ذلك الحقل وبحسب الظروف الزمانية والمكانية والموضوعية .
التأمل الثامن :
إن الإنسان المؤمن الرسالي يكون واثقاً من موقفه لذا نراه لا يهتم للدعوات الضالة والمضلة ، لأنها خاوية مبنية على أسس خاطئة ، بل هو يدعوهم لطرح مزاعمهم الباطلة ليبطلها ويفنّدها ، لأن حجته أقوى وإيمانه أرسخ .
وعليه فمن المفروض أن يكون باب الطرح العلمي – بشرط أن يكون علمياً بالفعل – للأفكار والقناعات مُشرَّعاً على مصراعيه ، وأن لا يُمنَع فكرٌ من الطرح بشكل علمي بحجة الضلال والإضلال ، نعم الاعتراض ينبغي أن يكون على الأسلوب غير العلمي ( كالأسلوب الإعلامي والاستعراضي والشعبوي ) وليس على الفكر المطروح ، لأن الطرح العلمي كفيل باجتثاث كل فكر منحرف ضال .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views