بهاء النجار
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31)
التأمل الأول :
الإيمان بالقرآن – كما هو معروف – له عدة مراتب ومستويات ، مرتبة نظرية وهي التي يندرج ضمنها كل المسلمين – عدا المنافقين – ومرتبة عملية تشمل فقط المؤمنين ، وكل مرتبة تتضمن مستويات إيمانية ، فبعض المؤمنين بالقرآن نظرياً يكونون غير مؤمنين بالقرآن عملياً ، أي كافرين عملياً بالقرآن رغم إيمانهم النظري ، فمثلاً من لم يحكم بما أنزل الله حتى لو كان من المؤمنين بالقرآن نظرياً فأولئك هم الكافرون عملياً بالقرآن ، وليس فقط كافرون بل وظالمون وفق قوله تعالى ( من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون ) لذا سنرى أولئك – ممن هم من المسلمين – موقوفين عند ربهم لامتناعهم عن الحكم بما أنزل الله رغم إيمانهم بذلك .
التأمل الثاني :
ليكن في علم الجميع أننا جميعاً مؤمنون بالقرآن نظرياً ولكننا كافرون به عملياً ، ولكن نسبة الكفر هذه تتفاوت بين مؤمن وآخر حتى تكون صفراً عند المعصومين عليهم السلام ، وهذا الكفر العملي يدفعنا الى الظلم ، سواء كان الظلم لأنفسنا بارتكاب المحارم ومخالفة أوامر ربنا جل وعلا أو ظلم الآخرين بسنّ تشريعات وإصدار أحكام وفتاوى تخالف النهج القرآني ، والظلم الثاني أشد عذاباً وأسوأ مصيراً من الأول ، لأن الأول ضالٌ ولكن الثاني مضلٌ ، فالضال من المستضعفين الذين دفعهم ضعفهم الى إتباع المستكبرين المضلين فضلّوا ، والأتباع عادة أكثر من القيادات لذا فأغلبنا أتباع ، وحتى لا نضِل علينا البحث عن قيادة غير مستكبرة وغير مضلة كي لا نكون من الضالين ، ولا ينفعنا حينها مجادلة المستكبرين وإثبات أننا مؤمنون .
التأمل الثالث :
وصل الحال بكثير من المسلمين في الوقت الراهن أن لسان حالهم يقول : ( لن نؤمن بهذا القرآن ) ! وإلا ماذا نسمي مطالبات بعض المؤسسات النسوية باعتبار الحجاب الشرعي تضييق لحرية المرأة وأداء وظيفتها وعملها ورسالتها في المجتمع ؟ أو رفضهن تعدد الزوجات ؟ أو المساواة بين الرجل والمرأة مثلاً ؟! مع إن هذه المساواة ليس لها جذور قرآنية وهو مبدأ غربي كما هو معروف ، ولو طالبن بالعدالة بين الجنسين لكان خيراً لهم ، أو رفض كثير من المشرعين بأن يجعلوا القرآن وما اتُفِقَ عليه بين المسلمين المصدر الأول من مصادر التشريع في بلاد المسلمين ؟ أو اعتبار الغناء جزءاً لا يتجزأ من الحياة ؟ وغيرها من التصرفات المنافية للنهج القرآني .
التأمل الرابع :
يبدو أن الإستضعاف الذي تعيشه بعض الشعوب هو ذاتي بالدرجة الأساس وليس خارجياً ، أما المستكبرون فاستضعفوا تلك الشعوب لكون الأخيرة تعيش حالة الإستضعاف في ذوات أفرادها ، بمعنى أن أفراد هذه الشعوب ( المستضعفة ) ليست ضعيفة في ذاتها لأن الله تعالى لا يقبل للناس أن يكونوا ضعفاء فلم يخلقهم ضعفاء وحثّهم على البحث عن مصادر القوة وأرسل الأنبياء ليوقظوا تلك القوة في نفوسهم ، ولكن بعض الشعوب وبعض أفرادها تترك طريق الرسل الذي يمثل طريق الإيمان فتستضعف أنفسها وتزعزع ثقتها بذاتها وتستصغر طاقاتها ، بينما تنظر للظالمين باستكبار فيستكبر الظالمون .
التأمل الخامس :
إن الإستضعاف الذي تعيشه بعض الشعوب – ومنها بعض الشعوب الإسلامية – قد لا يكون مقابل إستكبار حكامهم الظَلَمَة بدليل أننا نرى انتفاض هذه الشعوب ضد الظالمين حتى وصل الأمر الى قلب الحُكم وتسنّم أبناء هذه الشعوب مقاليد الحكم بدل الظالمين .
لكنّ إستضعاف هذه الشعوب كان أمام القوى المستكبرة من خارج الحدود ممن يريدون الاستحواذ على طاقات الشعوب ، فأما من استضعفوا أنفسهم فقد استسلموا لهذه القوى وسلّموهم ما يملكون من طاقات طبيعية وبشرية وغيرها ، وأما الشعوب المؤمنة فبقيت قوية فلا يستضعفها أحد .
التأمل السادس :
ينبغي أن يكون المؤمن بالقرآن حكيماً يُحكّم عقله بعد أن أبلغه القرآن الكريم بأن هناك جدلاً عقيماً سيدور بين المستكبرين ( القيادات ) والمستضعفين ( الأتباع ) ممن كفروا بالقرآن كفراً عملياً ، باعتبار الكفر النظري مُستبعَد لأنه مخالفٌ للإيمان بالقرآن ، وبما أن أغلبنا أتباعٌ – لكون القيادات هي القلة – علينا أن نستفيد من جدل المستضعفين مع قياداتهم المستكبرة ، فلو افترضنا أن إدعاءهم ( لولا المستكبرون لكان المستضعفون مؤمنين ) صحيح ، فما فائدة صحة هذا الإدعاء في ذلك في ذلك الموقف الرهيب ؟! بينما نجد فائدته في هذا العالم بأن يبتعد الأتباع عن إتباع القادة المستكبرين وليثبتوا إيمانهم الآن حتى لو دفعوا أثماناً دنيوية .
التأمل السابع :
لننظر الى الإستضعاف والإستكبار نظرة نسبية ، بمعنى أن المستضعَف قد يكون قوياً ولكن محاولة إضعافه قلّلت من قوته ، بغض النظر عن من صاحب هذه المحاولة هو نفسه أو غيره ، والمستكبِر ضعيفٌ ولكن يحاول أن يكون أقوى باستكباره ، وهنا نستفيد من هذه النقطة تنموياً ، فالإنسان قوي دائماً مهما حاول الآخرون إضعافه ، وإذا كان ضعيفاً فليحاول أن يقوّي نفسه ولكن طبعاً ليس على حساب الآخرين .
وهنا نستذكر مقولة المفكر الشهيد محمد باقر الصدر ( الجماهير أقوى من الطغاة مهما تفرعنوا ) أي مهما حاول المستكبرون إضعاف الجماهير فيبقى الجماهير أقوياء ويبقى المستكبرون ضعفاء .
التأمل الثامن :
إذا كان الموقوفون – من المستكبرين والمستضعفين – عند رب العزة والعظمة يتجادلون بمحضره جلت قدرته ولا يبالون لذلك الموقف العظيم ومصيرهم الأليم فمن باب أولى أنهم لا يكترثون لوجوده سبحانه وهُم في دار الدنيا التي تحجب الغافلين عن العظمة الإلهية ، وهذا يثبت كفرهم الحقيقي بالله تعالى فضلاً عن كفرهم بالقرآن وبشكل واقعي وعملي وملموس أمام الخلق أجمعين ، لأن إيمان الإنسان وتقواه وورعه وكفره وفسقه وفجوره وظلمه في الدنيا سيتجسد في الآخرة بأشكال معينة ، ولو كان من الممكن أن يكون هؤلاء المستضعفون مؤمنين – كما زعموا في جدالهم مع المستكبرين – لما سمحوا لأنفسهم بالجدال في الحضرة الإلهية المقدسة .
التأمل التاسع :
في الوقت الذي نرى بعض الذين استُضعِفوا قد أدى إستضعافهم الى الكفر والخروج عن جادة الإيمان – كما يدعون – والدخول في مجادلة عقيمة مع الذين استكبروا في الحضرة الإلهية المقدسة نجد البعض الآخر من الذين استضعفوا يمنّ الله عليهم ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين لنهج الرسالة المحمدية الحقيقية ( وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ ) ، إذ لم يكن إستضعافهم ذريعة للكفر ولا سبباً للظلم ، بل رغم إستضعافهم كانوا أولياء الله وأوصياء رسول الله صلى الله عليه وآله فكانوا هم القرآن الناطق المجسدون لتعاليمه على أرض الواقع .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views