بهاء النجار
وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
التأمل الأول :
لو راجع كل واحد منا سجل أعماله تجاه ربه وما آتاه الله تعالى من أحكام ومعتقدات عبر القرآن الكريم وسنة نبيه العظيم صلى الله عليه وآله فكم بلغ من هذه الأحكام والمعتقدات ؟ الحذر كل الحذر إن كان بلوغنا لنسبة قليلة منها ( العشر أو أقل ) ، فقد نكون في خانة المكذِّبين والعياذ بالله كما كذّب الذين قبلنا من الأقوام السالفة ، خاصة إذا كان بلوغ هذه النسبة مع التقصير في التعامل مع ديننا لا مع القصور ، لأن التقصير يعني أن الإنسان قد بلغته تلك الأحكام والمعتقدات ولم يلتزم بها ، وهذا هو التكذيب العملي باعتبار أننا لا نكذّب بها نظرياً ، وكلما كانت نسبة البلوغ عالية يعني أن الإنسان ملتزم بما جاء في هذه الأحكام والمعتقدات .
التأمل الثاني :
الإلتزام الديني هو مقدار ما يبلغه الإنسان من الإلتزام بما آتاه الله تعالى من دين عبر كتابه العظيم ورسوله الكريم صلى الله عليه وآله ، فيبدأ هذا الإلتزام من الصفر عند الذين لم ينفِّذوا أمراً من أوامر الله سبحانه سواء التي تخص عمل الواجبات أو ترك المحرمات فضلاً عن العقائد الحقة ، ويزداد شيئاً فشيئاً الى العشر ثم الربع ثم النصف وذلك بحسب مقدار بلوغ ما آتاهم الله جل جلاله .
أما الذين التزموا إلتزاماً كلياً ومطلقاً بدين الله وشريعة رسوله فقد بلغوا كل ما آتاهم الله عز وجل ، إذ لم يرتكبوا صغيرة – فضلاً عن الكبيرة – مما نهاهم الله جل وعلا ، بل إن هذا المستوى العالي من الإلتزام يرافقه حتى الإلتزام بترك المكروهات ، أولئك هم المعصومون سلام الله عليهم .
التأمل الثالث :
عندما يبلغ الشخص معشار ما آتاه الله تعالى فهذا يعني أنه بلغ معشار الطريق الى الله سبحانه ، وهذا الطريق شبيه المرتفعات العالية ، ويتطلب بلوغ القمة جهداً وجهاداً كبيراً وأدوات ومعدات كثيرة تسهّل عملية الصعود والسير في هذا الطريق ، هذه الأدوات والمعدات متوفرة بكثرة في الكتب السماوية وبالأخص القرآن الكريم التي آتاها الله عز وجل الناس بواسطة رُسُلِه الذين وضحوا وفصّلوا ما جاء في الكتب التي أنزلت عليهم ، فمن كذّبهم لم يبلغ حتى معشار هذا الطريق لأنه سيجد صعوبة في سلوكه فضلاً عن بلوغ القمة ، وأما من آمن بالرسل واطلع على الأدوات والمعدات التي بيّنوها واستثمرها في مسيرته التكاملية بلغ مستويات عالية وقد يُوفَّق لبلوغ القمة .
التأمل الرابع :
عندما يتسلق المتسلقُ المرتفعاتِ فغايته وصول أعلى نقطة ممكنة له وبحسب قدرته وطاقته من دون أن تؤدي الى نتائج عكسية عليه ، إضافة الى أنه لا يركز على الأدوات والوسائل التي يستخدمها في التسلق إلا لدورها في إيصاله الى غايته وهو بلوغ القمة ، أما من يهتم بهذه الأدوات والوسائل وينشغل عن بلوغ القمة فسوف لن يحقق معشار ما يجب عليه بلوغه .
وكذلك الأمر بالنسبة للساعي لبلوغ الكمال ، إذ أنه يتعامل مع ما آتاه الله من معارف وأحكام على أنها وسيلة للوصول الى الله تعالى وليست غاية ، ومن ينشغل ويهتم بها وكأنها هي الغاية فسوق لن يبلغ معشار المعرفة بالله عز وجل .
التأمل الخامس :
عندما يقال لقارئ القرآن ( إقرأ وارقى ) فسيقرأ ما آتاه الله تعالى في ما قرأ وسيرقى ويبلغ مرتبته بمقدار ما جسّده وطبقه في حياته ، أما إذا كذّب ما يقرأه عند تركه ما أُمِرَ به فسوف لن يبلغ ولن يرقَ حتى معشار ما خُصِّصَ له من كمالات ، وكذلك الحال عند تكذيبه لما جاء به الرسول صلى الله عليه وآله الذي يُعتبر تكذيبه تكذيباً لكتاب الله العزيز الذي ينص على ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) .
فكيف يرقى ويبلغ مرتبة عالية من يقرأ ما آتاه الله سبحانه في كتابه المجيد ( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ولا يحكم بما أنزل الله ؟! ولا يسعى للحكم بما أنزل الله ؟! بل ويسعى ويرفض للحكم بما أنزل الله ؟!
التأمل السادس :
لو استطلعنا ما آتانا الله تعالى في قرآنه الكريم لوجدنا أن القسم الأكبر منه يهتم بالجانب العقائدي ( أصول الدين ) ، والقليل منه – الذي لا يتجاوز معشار العلوم القرآنية – يتناول الجانب الفقهي من العبادات والمعاملات التي ترك تفصيلها للسُنّة المحمدية المطهرة ، وبالتالي فإن الاهتمام بالمسائل الفقهية ينبغي أن يكون معشار الاهتمام بالعقائد وأن لا يزيد عن هذا الحد .
هذا يعني أن علينا الاهتمام بالمشتركات العقائدية أكثر من اهتمامنا بمشتركاتنا الفقهية التي تكون مساحة الاتفاق فيها ضيقة ، وهذا أمر طبيعي ، وبالتالي علينا أن لا نجعل اختلافنا الفقهي يدمّر وحدتنا العقائدية ، لأن ذلك سيمنعنا من بلوغ ما ادُخِرَ لنا من مقامات عالية .
التأمل السابع :
التكذيب بما آتانا الله تعالى يكون على مستويات :
1) المستوى الأول : التكذيب بآيات الله جل وعلا وعلى رأسها رُسُل الله عز وجل وأنبيائه الذين جاءوا بالآيات والبراهين القاطعة على رسالتهم ، وهذا المستوى أُبتلي به أغلب الناس .
2) المستوى الثاني : التكذيب بأوصياء رُسُل الله عز وجل الثابتة وصياتهم باعتبارهم خلفاء الرسل وحجج الله على أقوامهم ، وهذا المستوى أُبتلي به أغلب المسلمين .
3) المستوى الثالث : التكذيب بالفقهاء العدول الرساليين باعتبارهم ورثة الأنبياء وأمناء الرسل كشرط أساسي لعدم تكذيبهم ، وهذا المستوى أُبتلي به أغلب المؤمنين .
التأمل الثامن :
التكذيب بما آتانا الله تعالى من حجج وبينات وآيات ينتج عنه تكذيب برسله ، وبعبارة أخرى التكذيب بالعموميات يؤدي الى التكذيب بالجزئيات ، والتكذيب بالمقدمات يسبب تكذيباً بالنتائج ، فمن يكذّب بما يحكم به العقل والفطرة السليمة مثلاً – باعتبارهما من أبرز الحجج والآيات الإلهية – بالتأكيد سيكذّب بمن يرسله الله عز وجل وبما أُرسِلَ به لبيان ما هو مطلوب بالدقة من الإنسان بما ينسجم مع العقل والفطرة ، بل قد يكذّب بضرورة وجود رُسُلٍ من قبل الله سبحانه فيُنكر ضرورة إرسال الرسل لأنه لا يرى حاجة لمعرفة القوانين التي تضبط تحركاته كي لا يُقيَّد حتى يبقى منفلتاً يفعل ما يشاء بلا حسيب ولا رقيب ، وهذا مخالف للفطرة والإنصاف ( إنصاف الناس من نفسه ) .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views