بهاء النجار
إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
التأمل الأول :
من صفات شركاء الله – سبحانه عما يشركون – أنهم لا يسمعون إن دعاهم أتباعهم وعبيدهم والأذلاء بالسير وراءهم ، وحتى لو سمعوا فإنهم لا يستجيبون لهذه الدعوات إما لضعفهم أمام حجم الدعوات ( كمن يطلب منهم أن يرزقه ولد أو ما شابه ) أو لأنهم لا يريدون الاستجابة لأتباعهم وعبيدهم لأن هذه الاستجابة تضعف قدراتهم التي يريدونها أن تتضخم وتكبر كي يستولوا ويسيطروا أكثر .
والعكس ليس بالضرورة أن يكون صحيحاً ، فليس كل من لا يسمع أو يسمع ولا يستجيب يمكن أن نعتبره شريكاً لله جل وعلا ، فكل الخلائق لا يمكنهم سماع كل شيء أو الاستجابة لكل من يطلب منهم شيئاً إلا أن يشاء الله رب العالمين .
التأمل الثاني :
إن الأصنام (الحجرية أو ما شابه) التي يعبدها المشركون يقابلها أصنامٌ غير حجرية ، كالأصنام البشرية مثلاً ، والفرق بينهما أن الأولى لا تسمع والثانية تسمع ولكن لا تستجيب ، لأن الاستجابة تتطلب الى قدرة خاصة تمكّن صاحبها من الاستجابة لكل الدعوات بلا إستثناء .
ومن أشكال الأصنام التي تسمع ولا تستجيب النظريات الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لا تستجيب لكل متطلبات وحاجات الأفراد والمجتمعات ، لذا نجدها لا تصمد أمام التحديات فتسقط الواحدة تلو الأخرى ، كما سقطت الشيوعية والاشتراكية ، والرأسمالية تنتظر دورها في السقوط ، ومع هذا ما زالت الغالبية العظمى من البشر تعظّمها وتدعو إليها رغم عدم إستجابتها لهم ولمتطلباتهم .
التأمل الثالث :
في يوم القيامة يكون القيام ضد كل أشكال الباطل وتشويه الحقائق ، ويعود كل شيء الى أصله وحقيقته ، وتنكشف حقيقة كل شيء ، فرغم أن الذين أُشرِكوا مع الله تعالى لا يسمعون لمن أشركوهم بالله سبحانه ولو سمعوهم لا يستجيبون لهم ، ففي يوم القيامة يتبرأ الذين أُتُّبِعوا من الذين اتَبَعوا ، والذين أُشرِكوا من الذين أَشركَوا ، وهذه قمة النذالة والخساسة .
وكلُ قِيامٍ إصلاحي ينبغي أن يكشف الحقائق والتزييف ، ويمكن أن يكون العكس صحيحاً أيضاً ، فأي كشف للحقائق والتزييف فهو في الحقيقة قيام إصلاحي ، وهذا ما يأمل المؤمنون تحقيقه في أرقى صوره في اليوم الموعود ، يوم يُظهر الله تعالى دين الحق والحقيقة على الدين كله ولو كره المشركون الذين سيتبرأ منهم حتى من أشركوهم بالله جل جلاله .
التأمل الرابع :
إن الاعتماد على الخبير قضية فطرية، بحيث لا يختلف اثنان على ضرورتها حتى ولو إختلفا في أمور أخرى ، ويبقى أن نعرف أن هذا الاعتماد هل هو استشاري ؟ بمعنى أن نسمع لرأيه وليس بالضرورة أن نأخذ به، أم أن الخبرة من الضروري توفرها في صاحب القرار ؟
إن استشارة الخبراء أمر مهم، ولكن أن يكون صاحب القرار خبيراً فسيكون التأثير كبيراً، فعندما يخبرنا اللطيف الخبير جل وعلا بشيء فليس من الصحيح أن نعتبر ذلك الإخبار هو استشارة إن شئنا أخذنا بها وإن لم نشأ لا نأخذ، بل لا بد أن نأخذ بها ، لأن هذا الخبير أعلى مقاماً ومرتبة من الجميع، ولا يمكن أن نفكر بغير ما يخبرنا به عز وجل .
التأمل الخامس :
عادة ما يبحث الناس عن خبير في الشؤون الحياتية المختلفة كالخبير في الشؤون السياسية أو الاقتصادية أو خبير في الإدارة أو الهندسة أو الطب أو غيرها، وهذا أمر جيد وهو أفضل من الخوض في مجال لا خبرة لنا فيه، ولكن قلّما نسمع (وربما لم نسمع حتى عند المؤمنين) عن من يبحث عن خبير في الشؤون الدينية والأخروية لينبئنا بما يحدث يوم القيامة كخساسة المتبوعين الذين لم يستمعوا لنصائح الخبراء في الشأن الأخروي، فهل نريد أن نكون مثلهم ؟!
التأمل السادس:
في مواضع قرآنية متفرقة وبصورة واضحة وجلية حذّر القرآن الكريم الناس من إتباع مَن ليس أهلاً لذلك، ويوضّح القرآن – الخبير بأحوال يوم القيامة – الحوار (بطعم الشجار) بين التابعين والمتبوعين وتبرّؤ طرفٍ من الطرف الآخر.
ومن أسباب هذا التحذير فإن المتبوعين (القادة) أشبه بالبهائم لا يسمعون وإن سمعوا لا يستجيبون، ومثل هذه النماذج يفترض على الإنسان الذي يحترم نفسه وذاته لا يتّبعهم ، وإن اتبعهم فهو مثلهم، ويستحق ما يستحقون.
وهذه رسالة لنا، بأن ننظر إلى من نتبعه عملياً حتى وإن قلنا أننا لا نتبعه، فهل هذا المتبوع والقائد سيتبرأ منا يوم القيامة ويكفر بإتباعنا له أم سيثبت ويتمسك بهذا الإتباع ؟
التأمل السابع:
إن عدم سماع المستكبرين والمتعالين – ممن يعتبرون قادة – لدعوات الاستغاثة والنجدة من قبل أتباعهم ربما يكون مبرراً بدرجة معينة ، باعتبار أن التابع بحاجة الى المتبوع ، فهؤلاء القادة المصلحيون (الذين يبحثون عن مصلحتهم فقط) يرون أن المتبوع لا يدعو إلا لمصلحته ، وهذا يرهقهم ، وبالتالي لا يسمعون تلك الدعوات إستخفافاً وإحتقاراً وإهمالاً .
ولكن الغريب أنهم لا يستمعون حتى الى دعوات الإصلاح التي يقدمها خبراء الإصلاح من الأنبياء والأوصياء ، ويتعاملون مع هذه الدعوات كما يتعاملون مع دعوات أتباعهم ، بل حتى أتباعهم لا يسمعون الى تلك الدعوات الإصلاحية التي تصب في مصلحتهم وتخلّصهم من ذل عبودية أولئك القادة المصلحيين .
* مشاركتها ثواب لنا ولكم
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :