بهاء النجار
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20)
التأمل الأول :
العجيب والغريب أن إتباعنا لإبليس عليه لعائن الله هو لمجرد ظنون يطرحها علينا فنصدّقها ، فلم يُجبر إبليس يوماً أحداً منا على فعل معصية ، كل ما بالأمر يقترح مقترحات السوء المبنيّة على أساس الظن ويحاول بدهائه وحِيَلِه ومَكرِه إقناعنا فنصدّق ظنه ونقبل بخداعه ونعصي الله جل جلاله .
ولو كان إبليس يُجِبُرنا على عمل السوء لكانت حجتنا أقوى ، وبهذا تكون الحجة علينا أعظم ، إلا من أسعفه إيمانه الذي رسم له خطوات الشيطان فتجنّبها وأعطاه طرق التعرف على مكائده وتمييزها عن الحق .
التأمل الثاني :
إن المأمونين من إتباع إبليس هم المؤمنون ، ولو استقرأنا الواقع لوجدنا أن كثيراً من المؤمنين متورطون بإتباعهم لإبليس ، وكل مؤمن وبحسب إيمانه متورط بدرجة من درجات الإتباع ، فبعضهم يتبعه بدرجة كبيرة والبعض الاخر يتبعه بدرجة قليلة ، بعبارة أخرى ، فإن كل المؤمنين متورطون بإتباعهم لإبليس ولكن بدرجات متفاوتة ، وهذا يعني أن هناك فئة خاصة من المؤمنين لم يتورطوا بإتباع إبليس فاستثنتهم الاية الكريمة وليس عامة المؤمنين ، هذه الفئة هم المعصومون الذين لم يتبَّعوا إبليس طرفة عين لأنهم بدرجة إيمانية عالية تجعلهم محصنين من التأثر بتصديق ظن إبليس عليهم حتى يتبعوه .
التأمل الثالث :
إن المؤمنين إذا كانوا على هيأة فريق فسيتمكنون من حماية أنفسهم ( كجماعة وكأفراد ) من خطر وساوس إبليس ، وكما قيل ( يد الله مع الجماعة ) ، فأعضاء الفريق المؤمنين يكمّل أحدهما الآخر ويأمر بعضٌ الآخرين بالمعروف وينهى بعضٌ البعض الآخر عن المنكر ، وهذا لا يتحقق في ما لو كان المؤمنون على هيأة أفراد .
وهذا يدفع المؤمنين الى العمل المؤسساتي وترك العمل الفردي خاصة إذا علمنا أن الذنوب الاجتماعية أعظم خطراً وأشد أثراً من الذنوب الفردية ، وإصلاحها أصعب من إصلاح آثار الذنوب الفردية ، ولكي لا نرى الناس يتّبعون إبليس أفواجاً بدل أن يدخلوا في دين الله أفواجاً .
التأمل الرابع :
يتفق المؤمنون على أن إتباع إبليس لا يتوافق مع إيمانهم ، وهذا قد يكون على المستويين النظري والعملي ، ولكن المشكلة تكمن في إِتِباعِ أَتبَاعِ إبليس ، فهذا الإتباع مرفوض عند المؤمنين على المستوى النظري ولكنه عملياً مطبقٌ عند فريق من المؤمنين فقط من الذين يعرفون أتباع إبليس ويعرفون طرق إتباعه فيتجنبونها ويتجنبونهم ، أما من لا يميّز أتباع إبليس عن أتباع الحق فإنه يتَّبع أتباع إبليس في أحيان كثيرة وربما يظن أنه يتَّبع أتباع الحق ، وذلك لأنه لا يمتلك الأدوات المعرفية للتمييز بين الاثنين .
بالنتيجة أن المؤمنين إيماناً نظرياً وعملياً هم المؤمنون الواعون لقدرتهم على التمييز بين أتباع الحق وأتباع إبليس ، وأما المؤمن غير الواعي فإيمانه نظري شكلي لا ينقذه من التورط في إتباع إبليس .
التأمل الخامس :
إن إبليس نصّب نفسه مستشاراً لنا ، فيقترح المقترحات السيئة المبنية على الظنون ، فمن قَبِل باستشارته ومقترحاته فقد تَبِعَه فيصدّق عليه إبليس ظنه ، ومن رفض كل ما يصدر منه كان المؤمنين ، وكلما زادت رقعة الرفض لاستشارات إبليس زاد المستوى الإيمان ، والعكس صحيح أيضاً .
إلا أن الغريب أن كثيراً من أولياء إبليس – من الإنس – لا يعتبرون أنفسهم مستشارين فيقترحون علينا ويبقى الأمر لنا نقبله أو نرفضه ، بل نصّبوا أنفسهم ولاة وقيّمين علينا ، بحيث يفرضون مقترحاتهم السيئة فرضاً ويريدون إجبارنا على إتباعهم وليس من حقنا الرفض ، وتجاوزوا بذلك حتى سيدهم إبليس .
التأمل السادس :
من أهم ما يميز إبليس هو تعامله بالظن ، فمن كان الظن – فضلاً عن الشك – منهجه كان متبعاً لإبليس شعر بذلك أم لم يشعر ، فإن الشكوك والظنون لواقح الفتن ، ومن أهم أهداف إبليس هو إثارة الفتن ، وذلك عندما يكون القرار قطعياً رغم أنه مبني على الشك أو الظن ، والفتنة أكبر وأشد من القتل الذي يعتبر من أكبر الكبائر .
أما المؤمنون الواعون فيبتعدون عن الشكوك والظنون ، ويعتمدون على الأمور القطعية بقطعية ومع الظنّية بظنّية ، وبحسب مستوى الظن ، فكلما زادت نسبة اليقين في الظن كلما اقترب القرار الظني من القطعي ، ولكن لا يكون قطعياً حتى يكون اليقين تاماً .
التأمل السابع :
هناك نظرة سلبية تجاه مصطلح ( الظن ) ، ربما بسبب الفهم غير الواعي وغير الكامل لهذه المفردة ، رغم أن القرآن يصرّح أن بعض الظن إثم وليس كله ، وربما ينظر البعض الى الظن على أنه أسوأ من الشك ، وقد لا يميز بين الظن والشك أصلاً ، والواقع أن أغلب حياتنا ظنيّة ، والجزء الحقيقي والقطعي أمر يسير جداً ، وهنا يأتي دور إبليس إذ يدفع الإنسان للتعامل مع الجزء الكبير من حياتنا على أنه قطعي ، وهنا تحصل المشاكل وتُخلَق الأزمات والفتن ، أما المؤمنون الواعون فيتعاملون بواقعية مع الحياة ، ولا يتأثرون بوساوس إبليس التي توهم بأن الحياة أغلبها أمور قطعية ويقينية .
التأمل الثامن :
كل حادثة إما أن نحيط بها علماً تاماً ( يقيناً ) أو يكون اليقين مساوياً لعدم اليقين ( شكاً ) أو أن يفوق اليقين مقدار عدم اليقين ( ظناً ) ، ودور إبليس يكون في محاولة خداع الإنسان في نسبة اليقين من كل حالة ، فيقلل من نسبة اليقين في الحالة الأولى ليجعلها ظنية أو شكّية رغم أنها يقينية قطعية ، ويرفع من نسبة اليقين
في الحالة الثانية كي يحوّل الشك الى ظن وقد يوصلها الى حد اليقين ، بينما في الحالة الثالثة فيحاول رفع نسبة اليقين ليحعل الظن مقترباً من اليقين ، أو يقلل هذه النسبة لجعل الظن شكاً ، والأمر خاطئ في كلتا الحالتين ينتج عنه مشاكل وأزمات كثيرة ، فإذا عرف الإنسان نسبة اليقين في كل حادثة وتعامل معها بما يناسبها من يقين تجنب تبعية إبليس كالمؤمنين الواعين .
التأمل التاسع :
بعض القيادات المنحرفة تتبع خطوات إبليسية كي تحقق غاياتها ومن أهمها إتباع الناس لها ، إذ توهم هذه القيادات الناس بأوهام ظنّية يعلمون أن كثيراً من الناس تتعامل معها على أنها قطعية فيوقعوهم في فخ الإتباع ، فمثلاً تستخدم بعض القيادات – وخصوصاً السياسية منها – أموال الدولة ومؤسساتها (وخصوصاً الإعلامية) لِتُبيّن للناس أنها قامت بمنجزٍ معين ( خدمي كان هذا المنجز أم سياسي أم أمني أم اقتصادي أم ثقافي ) وأنها قامت بهذا المنجز بجهود استثنائية ، فيصدّق الكثير من الناس بهذه الأوهام فيتبعون تلك القيادات الإبليسية .
أما المؤمنون الواعون فلا تنطلي عليهم مثل هذه الأكاذيب ويميزونها عن الصدق الذي يقوم به بعض القيادات الصادقة .
التأمل العاشر :
إن ما يعاني بعض الناس منه في الصلاة أو الطهارة أو أحياناً في التعامل مع الناس على أنهم أشرار بناء على معطيات ومقدمات ظنية هي في الحقيقة وسوسة من قبل إبليس فيتَّبعه هؤلاء الناس في ما يوسوس لهم ، فيشكُّ بعض هؤلاء بأنه قام بفعل شيء في صلاته فيبني على أن فعله يقيني رغم أنه شكٌ ، أو يتعامل مع بعض الأماكن أو الملابس على أنها نجسة يقيناً رغم أنه يشك ( وربما يظن ) في طهارتها ، ويصل الأمر الى اعتبار أغلب الناس أشرار رغم أن ذلك أمراً ظنياً لا يقينياً .
لكن المؤمنون يعتمدون على الأحكام الشرعية في التعامل مع الطهارة وأفعال الصلاة وحتى في التعامل مع الناس .
التأمل الحادي عشر :
لو نظرنا الى الاحتياطات الأمنية التي تتبعها الأجهزة المختصة ، فهل تُعدُّ من الظنون الإبليسية التي ينبغي على المؤمن أن يتجنبها كي لا يكون من أتباع الشيطان ؟
إن مثل هذه الظنون من الظنون المحمودة لأنها تحمي الإنسان والمجتمع من شرور أتباع إبليس الذين يريدون أن يسلبوا استقرار المؤمنين ليجبرونهم على إتباعهم وإتباع إبليسهم ، بل إن الشكوك والظنون الإبليسية تحاول إيهام المؤمنين بأن لا يتعاملوا أمنياً مع الأعداء بسوء الظن ، لكن المؤمنون يقظون وواعون ويميزون بين تكليفهم الشرعي ووسوسة الشيطان .
إضافة الى ما تقدم فإن هذه الظنون ليست حكماً على المشكوك به فضلاً عن المظنون ، وإنما هو تحوط ، مثل من يقفل باب بيته ، فهو لا يسيء الظن بجيرانه وإخوانه .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views