بهاء النجار
وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
التأمل الأول :
ليس كل ما يشتهيه المرء يدركه ، خاصة إذا كان ما يشتهيه يخالف الحكمة الإلهية ، فإن كان ما يشتهيه مخالفاً للشريعة فالحيلولة دون تحقيقه لطفٌ من الله تعالى ورأفة إضافة الى حكمته عز وجل في ذلك ، بمعنى أن على المرء أن يشكر الله سبحانه إن حال بينه وبين الشهوات المخالفة للشريعة .
وهذه المخالفة للشريعة تأتي في أحيانٍ كثيرة بسبب الشكّ والرَيب العمليين ، فلو كان متقيناً ويملك يقيناً حقيقياً بأن ما في هذه الشريعة يصب في مصلحته الأخروية والدنيوية لَمَا خالفها ، رغم أنه نظرياً ربما يكون متقيناً من ذلك .
وهذه السُنّة سارية على الجميع لأن الجميع مشمولون بحكمة الله ولطفه جل وعلا .
التأمل الثاني :
الشهوات هي ما يشتهيه الإنسان لتلبية رغباته الطبيعية ، ويمكن تقسيم الشهوات الى ثلاثة أقسام من حيث طريق تلبيتها :
1) شهوات محرمة : والتي تُلبى من قبل الإنسان بطريق محرم وغير شرعي ، إذ تكون الغاية هي تلبية تلك الشهوة من دون اختيار طريق سليم لذلك ، وللأسف أغلب الشهوات يلبيها الإنسان بطريق محرم مستسلماً لنفسه الأمارة بالسوء .
2) شهوات محللة شرعاً مرفوضة أخلاقاً : وهي الشهوات التي يلبيها الإنسان بطرق محللة حتى وإن كانت مرفوضة أخلاقياً كالأكل في الطرقات ، ولكون هذه الطرق تقيّد الإنسان نجد أن قليلاً من هذه الشهوات تُلبى بطرق محللة .
3) شهوات محللة شرعاً وأخلاقاً : إذ أن بعض المؤمنين يقيّد نفسه في تلبية شهواته حتى من الطرق المحللة كي لا تجرّه نفسه الى المهالك ، ( حُفَّت النار بالشهوات ) ، وهذا المستوى لا يطيقه إلا القلة ، فلا يجرّبه أحد وهو ليس أهلاً له .
والصنف الثالث هو أكثر الأصناف تفاعلاً مع الحيلولة بينهم وبين شهواتهم ، ويقلّ هذا التفاعل في الصنف الثاني ، وقد ينعدم في الصنف الأول .
التأمل الثالث :
عندما يكون القلب سليماً فإن صاحبه سيستثمر ما تشتهيه نفسه – من أموال وبنين وما ينتج عنهما – استثماراً صحيحاً فيفلح في الدنيا والآخرة ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ) ، ولا يتطلب ذلك الحيلولة بين المرء وقلبه ( أن الله يحول بين المرء وقلبه ) فينعكس ذلك إيجاباً على آخرته .
أما القلب غير السليم فيعتريه الشك المريب وستكون الريبة متحمكة بشهوات صاحبه ، بحيث يستسلم لشهواته لشكّه المريب غير المبرر بأوامر الله سبحانه ، فيَحُول الله تعالى بلطفه بينه وبين قلبه كي يقلل من تأثيرات وانعكاسات تلبية هذه الشهوات على حياته الدنيا والآخرة .
التأمل الرابع :
الشك أحياناً يكون شكّاً طبيعياً باعتبار أن اليقين عند البشر في قضية ما متفاوت ، فمن لم يتيقن بأمرٍ ما سيشكّ به تلقائياً ، لكن المشكلة عندما تكون الآثار المترتبة على هذا الشك أموراً مرفوضة ، كمن يشك بأن فلاناً سرقه فيقوم بسرقته بالمثل أو ربما بقتله ، فهذا الشك مريب لا داعي له ، أو يقتل أحدٌ إمرأةً شكّ بأن لها علاقة غير شرعية مع آخر ، وهكذا .
وهذه الشكوك تكون مريبة لأنها تكون في موضع اليقين ، فعندما يقتل القاتل وفق أسس مشكوك فيها فكأنما استبدل هذه الأسس بأسس متيقن منها ، وهذا أمر مريب ، لأنه بعيد عن الوجدان والمنطق الإنساني الذي يتوحد فيه كل البشر ، وهنا تأتي أهمية الحيلولة الإلهية بين المرء وقلبه .
التأمل الخامس :
إن الحيلولة التي تكون بين المرء وقلبه ستَحُولُ بين قراراته ومشتهياته المنحرفة ، وبالتالي فإنها ستمنعه من العقوبات المترتبة في الآخرة كما فُعِل بنظرائه ممن لم يحُل الله سبحانه بينهم وبين قلوبهم ، وبما أن الشك المريب هو أحد أهم أسباب ميل الإنسان الى المشتهيات المحرمة ( أو الممنوعة بشكل عام ) فإنّ من يحول بين المرء وقلبه من إتباع هذا الشك المريب سيكون ممن تخلّق بأخلاق الله عز وجل ، ومَنَعَ هذا الشخص الشاك من الوقوع في المعاصي التي تؤهله لدخول نارٍ لا يُعرَف نهاية أمدها إلا الله سبحانه .
فهنيئاً لمن حاول تخليص الناس من شكوكهم المريبة التي تروطهم بأشياء أقلها متعب ، كالشك في الطهارة والصلاة وما شابه ، أما كبيرها فنستجير بالله تعالى من تبعاتها ، وتعساً لمن زاد الناس شكاً بدينهم ودنياهم وعلاقاتهم الاجتماعية .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views