إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38)
التأمل الأول :
إن من يعلم ما يغيب عن عقولنا وقلوبنا يجعله يرى ما لا نرى ، وبالتالي يقرر ويفكر بطريقة وأسلوب تختلف عن طريقة وأسلوب تفكيرنا وقرارنا ، ومثال ذلك ما حصل بين الخضر وموسى عليهما السلام ، إذ قرر الخضر عليه السلام قرارات كانت محط استغراب ورفض من موسى عليه السلام وهو رسول من أولي العزم ، أي من الطبقة الأولى من عباد الله المخلَصين ، وبالتالي فمن المتوقع أن نستغرب – ونحن المحجوبة قلوبهم بالمعاصي – مما يقوم به بعض من ارتضى الله تعالى أن يطلعهم على الغيب ، فضلاً عن استغرابنا من بعض الأحكام الشرعية التي تأخذ بنظر الاعتبار أبعاداً لا ندركهها بأفهامنا وعقولنا لأننا لم نطلع على الغيب ، لذا يكون الاستغراب من تلك الأحكام أمراً مستغرباً ، لأننا نقحم أنفسنا في ما لا علم لنا به .
التأمل الثاني:
كل علم يبحث عن ما يغيب عن الناس ، حتى لا يكون غيباً ، وهذا ينطبق حتى على العلوم الطبيعية ، ومن أسباب استمرار وديمومة وحركة الحياة أن كل شخص يحتاج الى ما يغيب عنه ويعرفه ويعلمه الآخرون فيتكامل الجميع ، فإذا انحصر العلم بالمختصين به زادت حاجة الآخرين – ممن تغيب عنهم تلك العلوم – إليهم ، فالعلماء السائرون وفق المعايير الإلهية ينشرون العلم ، ولكون الناس على مستويات مختلفة من تلقي هذه العلوم نجدهم بحاجة مستمرة الى أولئك العلماء الربانيين ، أما العلماء الشيطانيون فيستغلون هذه الحقيقة فيحصرون العلوم بهم لكي يسيطروا ويهيمنوا على الناس لتحقيق مكاسب دنيوية زائلة .
أما علم غيب السماوات والأرض وذوات الصدور فمنحصر بالله عز وجل ، لذا يحتاجه جميع المخلوقات بلا استثناء .
التأمل الثالث:
إن سعي الدول المستكبرة للهيمنة على العالم جعلهم يتسابقون علمياً بشكل ملفت للانتباه الى حد التصارع ، وذلك لأنهم يعلمون أن القوة مرتبطة بالعلم بما يغيب عن الناس ، وعندما يحتكرون هذا العلم ستتعاظم هذه القوة ، وهو ما يصبون إليه .
ولكنهم بالتأكيد لا يستطيعون التوصل الى العلم بالغيب فضلاً عن علمهم بغيب السماوات والأرض وما في صدور الآخرين لأنه منحصر بالله عز وجل ، وبالتالي فمهما توصلوا اليه من علم فلن يصلوا الى مستوى العلم بالغيب ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً ) ، ويبقى من يعلم الغيب ممن ارتضاه الله تعالى هو أعلم من كل العلماء الذين انبهر بهم البسطاء والجهلة .
التأمل الرابع:
قد يقول البعض أن كل إنسان يعلم الغيب من دون أن يعلّمه الله تعالى الغيب ، فمثلاً من يعلم أن المادة القابلة للاشتعال ستشتعل إذا توفرت حرارة وأوكسجين ، وبالتالي سيتجنّب الحرائق بتجنب عواملها ، وهذا علمٌ بالغيب .
للإجابة نقول : إن علم الإنسان بعوامل الاحتراق وما شابهه هو علم من الله سبحانه ( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) ، وأن هذا لا يُعدُّ علماً بالغيب لأنه قد يطرأ طارئٌ في لحظة تَوفّر تلك العوامل فيفسد عملية الاشتعال ، والعلم بالغيب يكشف عن ما يحدث بلا أدنى خطأ . ومع هذا فإن كان ذلك غيباً فهو جزءٌ يسير جداً جداً من العلم بالغيب المادي ، فأين العلم بالغيب المعنوي ، ومن أشكاله العلم بذات الصدور ؟!
التأمل الخامس:
هناك فرق بين ( العالم ) و ( العليم ) ، فإن كان العلم بغيب السماوات والأرض يدل على عظمة علم الله عز وجل فإن علمه بذات الصدور يدل على علم أعظم ، فما في الصدور أمور ليست بأقل شأناً مما في السماوات والأرض إن لم تكن أهم وأفضل ، وما يؤكد ذلك ما يروى عن أمير المؤمنين عليه السلام ( وتحسب أنك جـــرم صغير ، وفيك انطوى العالم الأكبر ) ففي صدر الإنسان ما هو أكبر مما في السماوات والأرض ، فالإيمان والصلاح والهداية والقلب الذي يحمل هذه المعاني العظيمة أفضل مما في السماوات والأرض ، بل إن الله تعالى خلق السماوات والأرض من أجل الإنسان ( وسخر لكم ما في السموات وما في الأرض ) ، وكما يروى في الحديث القدسي : ( يا بن آدم خلقت كل شيء لأجلك وخلقتك لأجلي ) .
التأمل السادس:
عندما نريد أن نصف كفاءة شخص ما ومقدرته على فعل شيء ما (كتصليح معدة أو علاج مريض أو بناء غرفة أو ما شابه) فنحاول أن نستعرض المنجزات الكبرى التي قام بها كي يفهم المتلقي بأنه يقدر على ما هو أدنى منه ، باعتبار أن من يقوم بالشيء الكبير فإنه يقدر على ما هو أصغر منه .
ووفق هذا الفهم فإن من يشك أو يستكثر على الله تعالى علم غيب السماوات والأرض فإنه سبحانه عليم بذات الصدور ، ومن يكن عليماً بذات الصدور لا شك أنه يكون عالماً بغيب السماوات والأرض التي سخّرها لهداية ما في الصدور ، وهذا المعنى لا يفهمه المشغول ( فضلاً عن الغافل ) عن أسرار الخلائق .
للمزيد من التأملات القرآنية انضموا الى قناة ( تأملات قرآنية ) على التلغرام :
https://t.me/quraan_views