في عام 2011، أعلن الرئيس باراك أوباما انسحاب القوات العسكرية الأمريكية من العراق، وفاءً بوعده في حملته الانتخابية بإنهاء حرب العراق التي بدأها الرئيس جورد بوش الأبن في 2003، ولكن بعد ثلاث سنوات فقط، عادت القوات الأمريكية، استجابة للتقدم السريع الذي حققه تنظيم “داعش”، على رأس تحالف دولي والذي سمي ب”قوة المهام المشتركة” ولدعم القوات العراقية بما في ذلك القوات الكردية، ولعبت الولايات المتحدة دورا محوريا في تحرير الأراضي العراقية من تنظيم “داعش”.
بحلول عام 2017، لم يعد تنظيم “داعش” يسيطر على الأراضي العراقية، واستطاعت القوات العراقية وبدعم من قوة المهام المشتركة من تحرير المواصل اَخر معقل للتنظيم. ومنذ عام 2017، احتفظت الولايات المتحدة بوجود عسكري محدود في العراق لتدريب وتقديم المشورة ودعم القوات العراقية في مهامها لملاحقة فلول وخلاية ذلك التنظيم. وفي حين أن تنظيم “داعش” لم يعد يسيطر على الأراضي العراقية، لكنه أظهر قدرته على الظهور مرة أخرى عبر تنفيذ هجمات ضد القوات الأمنية العراقية.
وبالتالي، أظهرت الحكومة العراقية الرغبة في استمرار وجود دعم عسكري أمريكي محدود ومتواصل في العراق، لكن بعض الجهات السياسية الفاعلة في الداخل العراقي، لا سيما تلك التي تربطها علاقات وثيقة مع ظهران، عارضت أي وجود عسكري أمريكي هناك بعد انحسار تهديد “داعش”، داعية الولايات المتحدة إلى مغادرة العراق أو طردها منه.
والسؤال الذي يثار هنا هو: لماذا لا تزال القوات الأمريكية متواجدة على أرض العراق، بالرغم من انتهاء تهديد “داعش” الإرهابي بعد تحرير جميع الأراضي العراقية منه، ومن هذا السؤال تثار عدة أسئلة فرعية اَخرى:
1- ما هو الأساس القانوني لبقاء القوات الأمريكية على أرض العراق؟
2- لماذا ترفض بعض الجهات السياسية العراقية بقاء القوات الأمريكية على أرض العراق؟
3- ما هي معوقات وتبعات الانسحاب الأمريكي من العراق.
أولا: الأساس القانوني لبقاء القوت الأمريكية في العراق.
بالمقارنة بحالة غزو العراق عام 2003، فإن العمليات العسكرية البرية والجوية الأمريكية في العراق ضد “داعش” لها أساس قانوني، فقد كان موافقة الحكومة العراقية حجر الأساس القانوني لتلك العمليات. اضافة إلى دعم مجلس الأمن الدولي بموجب قرار رقم (2249) لعام 2015، والذي دعا الدول إلى “اتخاذ جميع التدابير اللازمة ” لمنع وقمع الأعمال الإرهابية التي يرتكبها تنظيم “داعش”. وأصبحنا أمام أهداف تتعلق بالمجتمع الدولي كله، وليس العراق فحسب، بل إن العراق قد أصبح طرفا في هذا التحالف من دون أن يكون له القدرة على رفض شروطه، بسبب الوضع الصعب الذي كان يمر به، وحاجته الملحة إلى المساعدة الدولية لمواجهة خطر “داعش”([1]).
وبالتالي، فإن العمليات التي أطلقتها الولايات المتحدة كانت تتم بدعوة من الحكومة العراقية، فقد عمل المسؤولون الحكوميون العراقيون والأمريكيون لعدة أشهر في مفاوضات مغلقة من أجل إرساء ذلك الاتفاق. ففي 25/6/2014، أرسل وزير الخارجية العراقي هوشيار زيباري اَنذاك رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي جاء فيها: “طلبنا في السابق مساعدة المجتمع الدولي. وبينما نشعر بالامتنان لما تم إنجازه حتى الاَن، إلا أنه لم يكن كافيا. لذلك ندعو إلى الاعتراف بالتهديد الخطير الذي يواجه بلدنا والنظام الدولي …نحن بحاجة لدعمكم لهزيمة داعش وحماية أراضينا وشعبنا…الخ)، ثم في 20/9/2014، أرسل إبراهيم الجعفري( وزير الخارجية الجديد بعد انسحاب هوشير زيباري والاكراد من الحكومة العراقية احتجاجا على سياسة نوري المالكي)، رسالة أخرى إلى الولايات المتحدة وأعرب عن أمتنانه للمساعدة العسكرية التي قدمتها الولايات المتحدة الأمريكية للعراق. واستطردت الرسالة “أبرم العراق والولايات المتحدة اتفاقية إطار عمل استراتيجية، وستساعد هذه الاتفاقية على جعل هذه المساعدة أكثر فعالية وتمكننا من إحراز تقدم كبير في حربنا ضد “داعش”. وأكدت الرسالة بعد ذلك على أن العراق “وفقا للقانون الدولي والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف ذات الصلة، ومع المراعاة الواجبة للسيادة الوطنية الكاملة والدستور العراقي، طلب من الولايات المتحدة الامريكية أن تقود الجهود الدولية من أجل ضرب مواقع داعش ومعاقلها العسكرية بموافقة صريحة عراقية)[2](.
هذه الرسائل، إلى جانب البيانات والاتفاقيات الأخرى، هي تعبير لا لبس فيه عن موافقة العراق على استخدام الولايات المتحدة القوة العسكرية على أراضيه ضد “داعش”. باختصار، فإن العمليات العسكرية الأمريكية في العراق قانونية، لأن الحكومة العراقية التي تعمل من خلال مجلس الوزراء، بالاعتماد على الصلاحيات المسموح بها بموجب القانون العراقي، دعت الولايات المتحدة للعمل على أرض العراق.
ولكن في الوقت نفسه، فإن الأساس القانوني للأعمال العسكرية الأمريكية في السنوات الأخيرة ضد الجماعات المدعومة من إيران في العراق مشكوك فيه من حيث القانون العراقي والقانون الدولي، ففي حين أن العمليات ضد تنظيم “داعش” في العراق تحتفظ بأساس قانوني قوي في كل من القانونين الدولي والعراقي، فإن هذه القوانين لا تمتد إلى الصراع بين الولايات المتحدة وإيران ووكلائها في العراق. فلكي تستخدم الولايات المتحدة القوة داخل أراضي دولة أخرى، يجب على الدولة المستقبلة وهي الدولة العراقية إعطاء موافقة صريحة والتعبير عنها فعليا، ويجب أن يكون لدى الجهة التي تعطي تلك الموافقة سلطة شرعية للقيام بذلك( يوجد بعض النقاش حول ما الذي يشكل سلطة شرعية، لا سيما في سياق الحكومات الضعيفة وغير المسيطرة على جميع أراضيها).
ولكن في النهاية يجب أن تحصل الدولة التي تستخدم القوة المسلحة على موافقة الدولة المستقبلة ضمن القيود التي تفرضها، وأن عدم الحصول على تلك الموافقة هو انتهاك للقانون الدولي، وبالتالي، إذا سحبت الدولة المستقبلة موافقتها، يجب على الدولة المستخدمة للقوة سحب قواتها، أو اعتبر ذلك انتهاكا للقانون.
ثانيا: المساهمة الأمريكية ونقطة التحول العراقي:
بالرغم من انتهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية في العراق، إلا أن الولايات المتحدة احتفظت بعدد من تلك القوات وأبقت عليها هناك، بدافع تقديم التدريب والمشورة ومساندة القوات الأمنية العراقية في عمليات مكافحة بقاية تنظيم “داعش”، وكل ذلك كان يتم بدعواة وموافقة الحكومة العراقية( التي لا تزال داعمة للوجود المستمر للقوات الأمريكية للمساعدة في منع عودة تنظيم “داعش”، وللحفاظ على الفوائد السياسية والاقتصادية الامريكية).
وفي مناسبات عديدة كانت الإدارة الأمريكية تشير إلى أنه لا توجد لديها خطط لسحب جنودها من العراق، فقد أشار قائد القيادة المركزية الأمريكية “فرانك ماكنزي” في مناسبات عديدة إلى قوله “أننا نتطلع إلى المستقبل… وأن هدف الولايات المتحدة يظل هو تطوير قدرات القوات الأمنية العراقية، والمغادرة في نهاية المطاف بعد أن تتمكن القوات العراقية من أن تأخذ نصيبا أكبر من التمكين الذي نقوم به الاَن”([3]).
ورغم تأمين هزيمة “داعش” الإقليمية، إلا أنه تمتع بعودة مستمرة في عام 2019 وأوائل عام 2020، ومثلت حوداث مثل اقتحام سجن “لداعش” في غويران بسوريا 20 /1/2022، ومذبح 11 جندي عراقي في ديالى في 21/1/2022، جرص أنذار وحالة تحذير من الاعتماد على الذات بدون وجود مساندة ودعم أمريكي. وفي حين تقوم القوات الأمنية العراقية بتحقيق الاستقرار ومكافحة الإرهاب، فإن الدعم الأمريكي الاستخباراتي واللوجستي والتدريب والتجهيز يستمر في لعب دور حاسم في تمكين القوات العراقية ومنع “داعش” من إعادة تجميع صفوفه.
حتى مع انحسار تهديد “داعش”، استمرت الهجمات المدعومة من إيران في العراق على القوات الأمريكية بوتيرة ثابتة. ومنذ عام 2019 فصاعدا، انخرطت بعض الجماعات المسلحة في حملة متواصلة من الهجمات على المواقع الأمريكية في العراق وسوريا، وجاءت تلك الحملات من قبل تلك المجاميع في أعقاب انسحاب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في شهر 5/2018 من الاتفاق النووي الإيراني وتفاقمت تلك الهجمات بسبب قراره في شهر1/2020 باغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني)[4](.
• نقطة التحول.
شكل مقتل قائد فيلق القدس الجنرال الإيراني قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد في العراق ابو مهدي المهندس واَخرين في 3/1/2020 في غارة أمريكية بطائرة بدون طيار على محيط مطار بغداد التي وافق عليها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، انتهاك للشروط المكتوبة التي تم الاتفاق عليها مع الجانب العراقي، فلم يقتصر الأمر على أياَ من الأهداف التابعة لتنظيم “داعش”، ولكن الأمر أشتمل على أن العديد من القتلى (بمن فيهم المهندس) والذين كانوا بموجب القانون العراقي، أفرادا في القوات المسلحة العراقية بحكم مناصبهم في قوات الحشد الشعبي (التي تم دمجها بموجب القانون العراقي في قوى الأمن الداخلي في عام 2016). وعلى الفور تم إدانة الغارة التي أمر بها الرئيس ترامب ردا على سلسلة الهجمات المتصاعدة على المصالح الأمريكية في العراق بما في ذلك السفارة الأمريكية، من قبل الطيف السياسي العراقي.
وفي 5/1/2020، أي بعد يومين من الضربة، أصدر البرلمان العراقي قرارا غير ملزم يدعو الحكومة العراقية إلى إنهاء تواجد جميع القوات الأجنبية على أرض العراق وقد تم مقاطعة التصويت من قبل العديد من ممثلي السنة والأكراد( حضر التصويت فقط 168 من أصل 329نائبا)، ولم يكن القرار ملزما للحكومة العراقية التي كانت في حينها حكومة تصريف الأعمال برئاسة عادل عبد المهدي، وبالتالي لم تكن دستوريا قادرة على إتخاذ قرارات مهمة، بالإضافة إلى ذلك، في حين الدستور العراقي والقوانين تمنح البرلمان سلطة التصديق على المعاهدات والاتفاقيات الدولية، فإن القانون لا يمنح البرلمان صراحة سلطة الغاء الاتفاقيات. فهذه السلطة تقع على عاتق الحكومة العراقية والتي لم تقم بإلغاء اتفاقية الإطار الاستراتيجي، ولم تسحب الموافقة على وجود القوات الأمريكية من العراق. ونتيجة لذلك، لم يكن للقرار على الرغم من كونه رمزيا للغاية- أي تاثير فوري على القوات الأمريكية المتواجدة على أرض العراق)[5](.
وأصبحت الدعوات العراقية الداخلية لانسحاب الولايات المتحدة أو طردها( لا سيما الجماعات الشيعية) صرخة سياسية وأساس للتعبئة، فكثفت تلك المجاميع المسلحة هجماتها بالصواريخ والطائرات بدون طيار على الأفراد والمواقع الأمريكية في العراق- وكثيرا ما تبرر تلك الهجمات بمطالب الانسحاب الأمريكي من العراق وغالبا ما تستشهد بالقرار البرلماني غير الملزم كإشارة إلى أن الولايات المتحدة هي قوة احتلال غير شرعية في العراق. ومنذ أواخر عام 2019، قتل خمسة مواطنين أمريكان، بينهم ثلاثة جنود أمريكيين(إلى جانب جندي بريطاني واحد)، في هجمات لتلك المجاميع المسلحة على قواعد أمريكية في العراق)[6](.
وحتى عام 2022، أقر البيت الأبيض بضربات جوية على تلك المجاميع المسلحة المدعومة من إيران على الأراضي العراقية في أربع مناسبات، مرة واحدة في عهد الرئيس بايدن(27/6/2021)، بالإضافة إلى ثلاث مناسبات في (29/12/2019) و (3/1/2020) و (13/3/2020) في عهد الرئيس ترامب.
وعلى عكس العمليات الأمريكية في العراق ضد تنظيم “داعش” فإن العليات الأمريكية ضد المجاميع المسلحة المرتبطة بإيران غامضة من الناحية القانونية، فليس من الواضح إطلاقا ما إذا كانت الموافقة العراقية تشمل هذه الضربات. في الواقع أدان العراق علانية الهجمات الأمريكية على أراضيه بعد الغارة الأمريكية بدون طيار التي قتلت قاسم سليماني والمهندس، ووصف رئيس الوزراء أنذاك عادل عبد المهدي القتل بأنه “عمل عدواني على العراق وانتهاك لسيادته”، وأشار إلى أنها “انتهكت شروط الوجود العسكري الأمريكي في العراق”)[7](.
وبينما تسمح شروط التعاون الأمريكي العراقي، الولايات المتحدة الدفاع عن نفسها من الهجمات، تشير التصريحات العراقية المعلنة إلى أن الحكومة العراقية ترفض التبريرات الأمريكية لتلك الضربات. وتجدر الأشارة إلى أن الكثيرون في الدولة العراقية متعاطفون خلف الأبواب مع الضربات الأمريكية، لكنهم مضطرون لإدانة تلك الضربات علنا خوفا من انتقام وردة الفعل من تلك المجاميع المسلحة في العراق.
• جولات الحوار الاستراتيجي.
في شهر 6/2020، عقدت الحكومة العراقية برئاسة مصطفى الكاظمي والإدارة الأمريكية برئاسة ترامب، الجولة الأولى من الحوار الاستراتيجي العراقي الأمريكي المخصص لمعالجة مستقبل الوجود الأمريكي في العراق. تضمنت الجولات اللاحقة من الحوار لقاء أيضا بين الرئيس جو بايدن ورئيس الوزراء الكاظمي في شهر 4/2021، أكد الطرفان أن مهمة القوات الأمريكية انتقلت إلى مهمة التدريب والمهام الاستشارية، مما يسمح بإعادة انتشار أي قوات قتالية متبقية في العراق، مع تحديد موعد المحادثات التالية، ثم في محادثات شهر 6/2021، أعلنت الحكومتان العراقية والأمريكية، أن العلاقة الأمنية سوف تنتقل بالكامل إلى دور التدريب وتقديم المشورة والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية، وأنه لن تكون هناك قوات أمريكية ذات دور قتالي في العراق بحلول 31/12/2021، وأن الولايات المتحدة ستواصل دعمها للقوات الأمنية العراقية بما في ذلك قوات البيشمركة، لبناء قدراتها في التعامل مع التهديدات المستقبلية.
ثالثا: معوقات الانسحاب الأمريكي من العراق.
على ما يبدو، فإن الاتفاق الذي تم التوصل اليه بين الجانبين العراقي والأمريكي بخصوص التواجد الأمريكي على أرض العراق، ما هو إلا إعادة تكييف الوجود العسكري الأمريكي الذي يتمثل في ال(2500) جندي أمريكي على ارض العراق، وليس إنهاء الوجود أو الانسحاب الكامل، بحيث تتحول مهما تلك القوات من مهام قتالية إلى مهام تدرب ودعم استراتيجي وإسناد لوجستي، والتركيز على عملية مكافحة تنظيم “داعش”، مع الإبقاء على هذه القوات في قواعد عسكرية عراقية.
وبالتالي، فإن هذا التكييف للقوات الأمريكية على أرض العراق، يدلل الحاجة على بقاء تلك القوات في العراق، وان ثم فهناك معوقات تفرض نفسها بقوى للإبقاء على الوجود الأمريكي على أرض العراق، أهمها:
أولا: عدم استطاعة العراق بمؤسساته الأمنية الحالية توفير حماية أمنية فعالة للمصالح الأمريكية من قواعد وعتاد، ولا للمستشارين العسكريين الذين يتولون مهام التدريب والتسليح والعمل الاستخباراتي. من جانب أخر، فإن عملية تفكيك البنية العسكرية الأمريكية في العراق بحيث تتحول إلى قواعد وطنية تحت القيادة والسيطرة العراقية هي مسألة صعبة في المدى المنظور، رغم أن هناك سوابق في هذا الشأن، حيث جرى تفكيك ما لا يقل عن (12) قاعدة عسكرية أمريكية مع إخلاء ما يقارب من (147) ألف جندي أمريكي على مدار عشر سنوات)[8](.
ثانيا: لن تسمح حكومة أقليم كردستان بإي نوع من الانسحاب الأمريكي، نظرا لطبيعة العلاقات التعاونية المتميزة ما بين الأقليم والإدارات الأمريكية المختلفة، كما أن حكومة الأقليم لن تنسى مساندة القوات الأمريكية لها عندما وصل تهديد تنظيم “داعش” على تخومها واستطاعت بفضل تلك المساندة من إيقافه. وهذا الرفض من قبل الأقليم لسحب القوات الأمريكية كان سببا مباشرا في استهداف الجماعات المسلحة الموالية لإيران القواعد العسكرية الأمريكية في الأقليم عدة مرات وكان أبرزها هو استهداف القاعدة الأمريكية في مطار أربيل. كما أن بقاء القوات الأمريكية في الأقليم مهم جدا، خصوصا إذا ما قررت الولايات المتحدة في يوم من الأيام “استقلال” هذا الأقليم)[9](.
ثالثا: من جانب أخر، على الرغم من موقف إيران والجماعات التي تتبعها في العراق الصريح من الانسحاب الأمريكي من العراق، فإنها تدرك تماما، أن إي انسحاب أمريكي من العراق قد يؤدي إلى عقوبات أمريكية حقيقية على العراق، خاصة مع عجز العراق عن الالتزام بالعقوبات الأمريكية (يحظى العراق باستثناء أمريكي مؤقت، يتم تجديده كل (90) يوم، فيما يتعلق بوارداته من الغاز والكهرباء الإيرانيين)، وهذا يعني أن إيران ستخسر شريانها الاقتصادي الرئيس الذي يمدها بالعملة الصعبة في ظل الضروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها بفعل العقوبات الغربية عليها([10]).
رابعا: ليس لدى الإدارة الأمريكية الحالية الرغبة في الانسحاب العسكري من العراق بإعتباره أحد أوراق الضغط الأمريكي على إيران، وربطه بتطورات المباحثات الجارية في فيينا لإحياء خطة العمل المشترك(الاتفاق النووي)، لا سيما وأن هناك رغبة أمريكية أيضا في تقويض التمدد الإيراني في المنطقة كأحد استحقاقات عودة واشنطن إلى الاتفاق النووي مع طهران.
خامسا: حتى مع الانسحاب الأمريكي من العراق والإبقاء على عدد محدود من القوات لغرض التدريب والاستشارة، فإن الجماعات المسلحة المرتبطة بإيران في العراق اعتبرت ذلك مجرد تغيير في المسميات، وليس تغييرا في مضمون وطبيعة البقاء العسكري الأمريكي داخل العراق، حيث تهدف واشنطن من ذلك- وفقا لرؤية تلك الجماعات- إعادة انتشار قواتها لضمان استمرار البقاء تحت مسميات أخرى. وفي هذا السياق يشير المحللون إلى أن موقف إيران من قبول أو عدم قبول الانسحاب الأمريكي من العراق مرتبط بمعطيات المباحثات الأمريكية الإيرانية حول الملف النووي الإيراني وتتسع لتشمل كافة انخراطات إيران في الملفات الإقليمية العديدة.
•سيناريوهات محتملة. إذا ما أصرت القوى السياسية التي ترتبط بعلاقات مع إيران على مواقفها بشأن سحب القوات الأمريكية من العراق أو اللجوء إلى القوة لطردها منه، حينها سنكون أمام سيناريوهات عدة:
سيناريو الفوضى: يذهب هذا السيناريو بإتجاه أن الولايات المتحدة من حيث المبدأ لا تريد الخروج من العراق في الوقت الحالي، ولكن إذا ما أجبرت على ذلك، ربما تضع العراق أمام خيارات صعبة، ومن تلك الخيارات المرعبة، هو خيار “داعش” عام 2014، لمرحلة ما بعد الخروج الأمريكي، وهذا الخيار قد يمنح الجماعات المسلحة الأخرى فرصة لإقناع العراقيين بأن وجودهم لا يزال مطلوبا في العراق كعنصر حماية وموازنة.
سيناريو التجزئة والتقسيم: من المحتمل جدا إذا ما وجدت الولايات المتحدة نفسها مجبرة على إنهاء وجودها بشكل كامل من العراق تحت ضغط تلك الأطراف المرتبطة بإيران، أن تلجأ إلى سحب قواتها ونقل قواعدها العسكرية والمستشارين إلى شمال العراق في الأقليم الكردي، وحينها قد تغير الولايات المتحدة من قواعد اللعبة العراقية وتبادر على سبيل المثال إلى الاعتراف باستقلال اقليم كردستان الذي جمدته في فترة حكومة السيد العبادي واستخدام نفوذها الدولي للاعتراف بالاقليم كدولة، وهنا ستصبح أربيل محور القيادة والتحكم، في مقابل تراجع دور بغداد، خصوصا إذا ما تبع ذلك خطوات مماثلة لإقامة أقاليم مماثل مناطق أخرى من العراق كأقليم في غرب العراق للسنة.
سيناريو اليد الطولى لإيران في العراق: يعطي هذا السيناريو إيران اليد العليا مرة أخرى لتشكيل مستقبل المشهد السياسي العراقي. منذ عام 2005، شجعت إيران ودعمت تشكيل قوى سياسية شيعية تصل للسلطة. كانت إيران لاعبا نشطا وفي معظم الحالات، حاسما في العراق. وهذا سيعني قوة الجماعات المسلحة المرتبطة بها لمزيد من الهيمنة في بغداد.
سيناريو الوضع القائم: يميل هذا السيناريو إلى الواقعية في التعامل مع موضوعة الانسحاب الأمريكي من العراق، فالحكومات العراقية منذ عام 2003 إلى اليوم كانت تيمل دائما إلى التعامل مع الجانب الأمريكي، رغم كل الضغوطات التي تتعرض لها من القوى المناوئة لذلك الوجود، وهي تدرك مدى أهمية الدعم الأمريكي للعراق في هذه الضروف ومدى الضرر الذي سيحلق بالمعادلة الدقيقة للقوى وتوزيع المصالح والثروات داخل البلاد. ولذلك يعتبر هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحا في الوقت الحالي بسبب الضروف الداخلية والإقليمية والدولية المحيطة بالعراق.
الاستنتاجات:
يبدو واضحا أنه ليس ثم إجماع وطني على موضوع سحب القوات الأمريكية من العراق، فقد أعادت المواجهة الأمريكية – الإيرانية على أرض العراق ذلك الاستقطاب العراقي الداخلي، بعد أن حاول الجميع نكران هذا الاستقطاب لفترة طويلة. وبالتالي، كانت هنالك فوائد ومخاطر ستترتب على الوجود الأمريكي في العراق:
– بينماتمهزيمة تنظيم “داعش” على الأرض، يمكن للتنظيم أن يعاود الظهور دون سابق أنذار مرة أخرى. وفي غياب الدعم الأمريكي المستمر، قد لا تتمكن قوات الأمن العراقية من التعامل بفاعلية مع عودة تنظيم “داعش” المحتملة.
– بينما استمرار الوجود العسكري الأمريكي في العراق يهدد بالتصعيد مع إيران، لا سيما في ضوء الهجمات المتبادلة والمتكررة بين القوات الأمريكية والجهات المدعومة من إيران، والتي عجزت الحكومة العراقية نفسها عن السيطرة عليها بشكل كامل، فإن هنالك ضرورات سياسية قوية للحفاظ على وجود عسكري أمريكي محدود في العراق لضمان استقرار العراق ومواجهة النفوذ الإيراني.
– بينما هنالك قلة تعترف علنا بضرورة وجود القوات الأمريكية على أرض العراق، فإنه ونظرا للحساسيات السياسية، فإن العديد من مسؤولي الحكومة العراقية يدعمون بالخفاء استمرار الوجود الأمريكي في العراق كثقل موازي للنفوذ الإيراني، وهم أيضا قطعن لا يريدون أن يسيطر عليهم جيرانهم. هذا الخوف من التبعية الإيرانية قوي بين المكون السني والكردي، ولكنه أيضا بدأ يظهر بشكل متزايد بين المكون الشيعي في الفترة الأخيرة، الذي دعم العديد منهم الاحتجاجات الشعبية المطالبة بخروج العراق من السيطرة الإيرانية والجماعات المسلحة المتهمة بقتل المتظاهرين والصحفيين وتورطها بقضايا فساد، وبالتالي، إفلاتها من العقاب. أن الدعم الأمريكي للاستخبارات العراقية وقوة نفاذ القانون وتعزيز سلطة القضاء العادل، هي أمر حاسم ومهم في منع أنزلاق العراق إلى حالة اللادولة.
– بينما مستقبل العراق كدولة ديمقراطية غير مكتمل بعد، فهو مسار طويل وشاق ويحتاج إلى الصبر، وبينما يحاول العراق أن يخضع لسيادة القانون بالرغم من كل المأخذات والانتقادات في هذا المجال، إلا أن كل ذلك من غير المرجح أن يتم تحقيقه من خلال السماح بمزيد من السيطرة الإيرانية. وبالتالي، يجب أن لا تسمح الولايات المتحدة لنفسها بالانزلاق إلى أي صراع جديد وغير واضح المعالم مع إيران، ممكن أن يؤثر على مستقبل العراق.
المراجع:
1- أحمد عليبة، سياسة “شد الأطراف” والحوار الاستراتيجي الأمريكي-العراقي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 10/4/2021، متاح: https://acpss.ahram.org.eg.
2- استفتاء حكومة إقليم كردستان العراق المزمع عقده، الخميس ٢١أيلول ٢٠١٧، السفارة الأمريكية والقنصليات في العراق، متاح: https://iq.usembassy.gov.
3- جدل الانسحاب الأمريكي من العراق بين الشعارات والاحتياجات، تقييم حالة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2020، متاح على موقع المركز.
4- صافيناز محمد أحمد، الحوار الاستراتيجي بين العراق والولايات المتحدة.. معضلات الانسحاب والشراكة، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 4/8/2021، متاح: https://acpss.ahram.org.eg.
5- عمر ستار، مواقف عراقية من الاغتيال… إدانات ودعوات لضبط النفس و”جهوزية المجاهدين”، عربية اندبندنت، 3 يناير 2020 ، متاح: https://www.independentarabia.com.
6- مصطفى هاشم، إخراج القوات الأجنبية”.. خبراء: لا أثر قانونيا لقرار البرلمان العراقي، قناة الحرة، 05 يناير 2020، متاح: www.alhurra.com.
7- ميرفت عوف، سيناريو أفغاني أم إيراني.. ماذا لو انسحبت أميركا من العراق اليوم؟، موقع الجزيرة نت، 30/10/2021، متاح: https://www.aljazeera.net.
1-Crispin Smith, Still at War: The United States in Iraq, Just Security, May 18, 2022, At: justsecurity.org.
2-General Kenneth F. McKenzie Jr., CENTCOM Commander Gen. Frank McKenzie Holds a Press Briefing,
3-March 18, 2022, U.S. Departmentof Defense, At: https://www.defense.gov.
4-Michael Knights, Deterring Militias in Iraq: What Works and What Doesn’t, Washington Institute for Near East Policy, Jun 28, 2021, At: www.washingtoninstitute.org.
[1]) جدل الانسحاب الأمريكي من العراق بين الشعارات والاحتياجات، تقييم حالة، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2020، متاح على موقع المركز.
[2]) Crispin Smith, Still at War: The United States in Iraq, Just Security, May 18, 2022, At: justsecurity.org.
[3]) General Kenneth F. McKenzie Jr., CENTCOM Commander Gen. Frank McKenzie Holds a Press Briefing, March 18, 2022, U.S. DepartmentofDefense, At: https://www.defense.gov.
[4]) ميرفت عوف، سيناريو أفغاني أم إيراني.. ماذا لو انسحبت أميركا من العراق اليوم؟، موقع الجزيرة نت، 30/10/2021، متاح: https://www.aljazeera.net.
[5] ) مصطفى هاشم، إخراج القوات الأجنبية”.. خبراء: لا أثر قانونيا لقرار البرلمان العراقي، قناة الحرة، 05 يناير 2020، متاح: www.alhurra.com.
[6] ) Michael Knights, Deterring Militias in Iraq: What Works and What Doesn’t, Washington Institute for Near East Policy, Jun 28, 2021, At: www.washingtoninstitute.org.
[7]) عمر ستار، مواقف عراقية من الاغتيال… إدانات ودعوات لضبط النفس و”جهوزية المجاهدين”، عربية اندبندنت، 3 يناير 2020 ، متاح: https://www.independentarabia.com.
[8] ) أحمد عليبة، سياسة “شد الأطراف” والحوار الاستراتيجي الأمريكي-العراقي، مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القاهرة، 10/4/2021، متاح: https://acpss.ahram.org.eg.
[9]) استفتاء حكومة إقليم كردستان العراق المزمع عقده، الخميس ٢١أيلول ٢٠١٧، السفارة الأمريكية والقنصليات في العراق، متاح: https://iq.usembassy.gov.
[10] ) جدلية الانسحاب الأمريكي من العراق بين الشعارات والاحتياجات، مصدر سابق.
.
رابط المصدر: