تجربة ألمانيا في معالجة اقتصاد الوباء

أندرياس كلوث
لا يستطيع أحد التشكيك في جودة الأداء الألماني خلال هذه السنة العصيبة للغاية، وأن إدارة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تستحق مزيداً من الإشادة والثناء. غير أنَّ البلاد على طريقها لمواجهة مشكلة مختلفة بعض الشيء؛ إذ إنَّ السياسات الحكومية التي اتُّخذت وأحرزت تقدماً ونجاحاً ملحوظاً خلال المرحلة الأولى من الركود ذي الصلة بوباء فيروس «كورونا» من شأنها أن تجلب المزيد من الأضرار، إذا ما اعتمدت نفس الأسلوب والطريقة في مرحلة الوباء الثانية وما بعدها.
ومن حق ألمانيا الاحتفاء والافتخار بما أنجزته خلال العام الحالي. فلقد بذلت جهوداً كبيرة ومكللة بالنجاح في السيطرة المبكرة على منحنى انتقال العدوى، في أزمة وباء «كورونا» الراهنة. ومع سلسلة مثيرة للذهول من الإنفاق التحفيزي وغيرها من التدابير الأخرى، تمكنت الحكومة الألمانية من ضخ ما لا يقل عن ما يوازي 1.18 تريليون دولار في اقتصاد البلاد.
وبفضل هذه الإجراءات المدروسة بعناية، عاد الناتج المحلي إلى النمو والارتفاع مرة أخرى منذ شهر مايو (أيار). وتنتظر الحكومة الألمانية في الآونة الراهنة توقعات أكثر اعتدالاً بالنسبة إلى الانكماش الاقتصادي على مدار العام الحالي مما كان متوقعاً في أول الأمر، بنسبة أقل من 5.8 % فقط. وينبغي – بحلول عام 2022 – أن يعود الاقتصاد الألماني إلى مستوياته المسجلة قبل اندلاع الأزمة الراهنة. وكان بيتر ألتماير وزير الاقتصاد الألماني، يفاخر مؤخراً بمخططات التعافي والانتعاش الاقتصادي الكبيرة المتوقعة في المستقبل المنظور.
وعلى وجه الخصوص، حققت الحكومة الألمانية معدلات أداء جيدة للغاية فيما يتعلق بإنقاذ الوظائف. ولقد جرى ذلك جزئياً عن طريق وقف العمل مؤقتاً بقواعد إعلان الإفلاس، ومن ثم المحافظة على المزيد من أرباب العمل ضمن الدورة الاقتصادية في البلاد. وفي الأثناء ذاتها، استعانت الحكومة الألمانية بأداة من الأدوات السياسية التي يناهز عمرها قرناً كاملاً من أجل استبقاء الموظفين في وظائفهم، حتى وإن لم يكن لديهم أعمال يقومون بتأديتها. ولقد أسهمت تلك التدابير في إبقاء معدلات البطالة عند مستوى 4.4 % اعتباراً من شهر يوليو (تموز) من العام الحالي، في حين بلغ متوسط معدل البطالة لدى الاتحاد الأوروبي 7.2 %، ووصل إلى 10.2 % في الولايات المتحدة.
تُعرف هذه الأداة السياسية باسم «كورزاربيت»، وتعني بصورة حرفية: العمل بدوام قصير. وإيجازاً للقول، تقوم الحكومة الألمانية بتوفير الإعانات المالية للشركات من أجل استبقاء العمالة والموظفين ضمن كشوف الرواتب الشهرية، حتى عندما يكونون عاطلين عن العمل. ويستمر الموظفون في الحصول على أغلب رواتبهم الشهرية بصورة اعتيادية مع استعدادهم الكامل للعودة إلى العمل بمجرد تجدد الطلب. وكانت هذه الأداة السياسية من أكبر الأسباب التي يسّرت على الحكومة الألمانية خروجاً سلمياً بصورة نسبية من أزمة الركود العظيم في عامي 2008 و2009. وينظر إليها مختلف البلدان الأخرى على اعتبار أنها «المعيار الذهبي» الدولي لخطط العمل والفوائد.

غير أن إعانات العمل لم يتم تنفيذها بالكامل، وكان التعليق المؤقت لقواعد الإفلاس والإعسار المالي المقصود منها أن تكون تدابير مؤقتة وغير مستدامة. ومع ذلك، اتخذت الحكومة الألمانية في الآونة الأخيرة قراراً بتمديد العمل بتلك البرامج. ثم صدر القرار بتمديد العمل بسياسة «كورزاربيت» حتى نهاية عام 2021.
بيد أن العديد من خبراء الاقتصاد في ألمانيا يخشون من أن الجمع بين هذه الأدوات السياسية في آن واحد من شأنه أن يخلق ما تُسمى شركات «زومبي» – وهي الشركات التي يتعيَّن عليها أن تتوقف تماماً عن مزاولة الأعمال بسبب المشكلات المالية غير ذات الصلة بأزمة الوباء الراهنة، ولكنها تواصل العمل والاستمرار بصورة مصطنعة على الرغم من ذلك. وأشار أحد التقديرات إلى وجود ما لا يقل عن 550 ألف شركة «زومبي» بصورة فعلية.
وهناك حالة أعمق من الخوف والتوتر تتعلق بأنَّ ممارسات مثل تلك الشركات البائسة، من شأنها أن تلحق العدوى بالشركات والأعمال السليمة في البلاد، سيما مع رفع الضغوط من عليها بشأن إعادة الهيكلة الضرورية. وكما كتبتُ من قبل في يناير (كانون الثاني) الماضي، كان الكثير من خبراء الاقتصاد في ألمانيا يتوقعون بلوغ النهاية للمعجزة الاقتصادية الأخيرة في البلاد، حتى قبل اندلاع أزمة وباء «كورونا»، ما لم تفرض الدولة على نفسها تدابير التحديث الصارمة والجذرية على المستويات الصناعية، والتقنية، والثقافية في البلاد.
ومن أبرز أسباب القلق في الواقع الألماني التركيبة السكانية في البلاد: هذا هو العقد الذي يبدأ فيه جيل طفرة المواليد الألمان في بلوغ سن التقاعد بأعداد هائلة. وهناك سبب آخر يتمثل في الفقدان الكبير للميزة التنافسية في القطاعات المركزية الرئيسية للاقتصاد الصناعي في ألمانيا، من صناعة السيارات إلى صناعة الماكينات وما بينهما.
هناك أمل في الأفق أن تتمكن أزمة وباء «كورونا» من تسريع بعض التغييرات الضرورية في الواقع الألماني. بعد هذا التدافع المشهود في ربيع العام الحالي على العمل من المنازل، على سبيل المثال، زعم ما يقرب من نصف الشركات العاملة في ألمانيا – في أحد استطلاعات الرأي الأخيرة – أنها تستشرف مستويات أكثر ذكاءً من الناحية الرقمية في المستقبل القريب. ولكن المعروف أن استطلاع الرأي المذكور اشتمل على مديري الموارد البشرية في تلك الشركات من دون غيرهم. فلا توجد إشارة واحدة واضحة حتى الآن تفيد بأن صناع وموردي السيارات في ألمانيا – التي تستهلك الكثير من الغاز الطبيعي في الوقود – سوف تقترب من حد المنافسة مع الولايات المتحدة أو مع الصين في مجال الذكاء الصناعي، وهو ما سوف تشتدّ الحاجة إليه في الفترة المقبلة، من أجل التحول إلى صناعة السيارات الذاتية القيادة لمواكبة التحولات اللازمة في المستقبل.
أجل، تستحق حكومة المستشارة أنجيلا ميركل الثناء الكبير على ما بذلته من قصارى جهدها في إنقاذ الاقتصاد الألماني خلال العام الحالي. ولكن مع تمديد التدابير (المسكّنة) القصيرة الأمد على المدى الطويل، فإن الائتلاف اليميني واليساري يبدو أكثر انشغالاً بالمحافظة على استقرار الأوضاع الداخلية في البلاد، حتى ميعاد الانتخابات في الخريف المقبل وبأكثر من انشغالهم بتأهب ألمانيا واستعدادها لمواجهة التحديات الكبرى القادمة لا محالة.
ومن شأن ذلك أن يتطلب سلسلة من الإصلاحات الداخلية المؤلمة في مجالات الرعاية الاجتماعية، والضرائب، والتوترات التي طال أمدها في مختلف القطاعات الصناعية، والخدمية، والمالية في ألمانيا. وكما قال الثري الأميركي الكبير وارين بافيت – عميد الرأسمالية الأميركية الأكثر تشدداً: مع انحسار موجة المد العالية الحالية سوف ينكشف للجميع من كان يسبح عارياً. بمعنى، أنه يمكن للحكومة الألمانية مواصلة ضخ الأموال الكثيرة في مفاصل الاقتصاد الألماني لفترة طويلة، ولكنها لن تستطيع وقف تحركات المد والجزر الاقتصادية العنيفة.

رابط المصدر:

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M