تجربة المسفرين العراقيين وتجربة اللاجئين اللبنانيين

إن فترة وجود الاخوة اللبنانيين في العراق ربما تطول أو تقصر بسبب ظروف الحرب، بيد أن المهم استثمار هذا الوجود في نوع من الاندماج الاجتماعي مما يثمر تبادل ثقافي وعلمي يفيد على المدى البعيد، إذ ليس من المعقول استمرار حالة المسكنة والهوان كما لو أنهم في مخيم للنازحين…

تهاجر مع الانسان ثقافته وعلومه ومهاراته فيحاول مطابقتها على الواقع الجديد في غير بلده لتكون تجربة جديدة في حياته، وفي هذا المسعى يواجه تحديات جمّة لابد من التعامل معها بأفضل الطرق الذكية لتحقيق افضل فرص العيش مع محيط اجتماعي وثقافي جديد عليه.

توافد الاخوة اللبنانيين على العراق بعد تعرض مناطقهم السكنية للقصف الاسرائيلي، واضطرارهم لترك ديارهم، ذكرني بما جرى على شريحة من العراقيين عام 1980 عندما تركوا ديارهم وهاجروا الى ايران، مع الفارق أن هؤلاء تركوا ديارهم وهي عامرة، كما تخلّوا عن أعمالهم ووظائفهم عِنوةً بقرار من النظام البائد بتهمة “عدم ولائهم للحزب والثورة” فأطلق عليهم “المسفرون”، بينما الاخوة اللبنانيون أجبرتهم الحرب الدائرة بين حزب الله والكيان الصهيوني على أن يكونوا لاجئين للحفاظ على ارواحهم من الموت تحت قنابل الطائرات الاسرائيلية.

لا نخوض في الدوافع والخلفيات السياسية لوضع انساني مرير، إنما المفيد تسليط الضوء على ما تترتب عليه هذه الهجرة والانتقالة من مكان الى آخر، و اذا اخذنا تجربة “المسفرين”، وفق التسمية التي أشاعها النظام البائد، او المهجّرين، وفق ادبيات المعارضة العراقية، نجدهم شكلوا تجربة فريدة –ربما- من نوعها في العالم العربي والاسلامي، فهم عوضوا فقدان الوطن والأحبة الذين اختطفهم النظام وغيبهم الى الأبد، بتأسيس تجمعات منتشرة في المدن الايرانية، ثم بدأوا بتأسيس مراكز وكيانات تحولت فيما بعد الى معالم ثقافية ينظر اليها الايرانيون بإجلال وإكبار، أبرزها؛ الحسينيات والمستوصفات الخيرية، قدموا من خلالها ثقافة العطاء، والعمل الجادّ، والالتزام بالقيم الاخلاقية والدينية، حتى اصبح المواطن الايراني –بنسبة كبيرة منهم- مطمئنين من شاب عراقي يتقدم لخطبة ابنته، أو شاب عراقي يعرض عليه خدماته ومهاراته في مجال العمل، وللعلم، فان أكثر من مائتي ألف عراقي دخلوا ايران خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي.

وأجدني ملزماً بالاشارة الى أن المسألة ليست بالأمر الهيّن، إنما تحتاج صبراً جميلاً وتفاعلاً واجتهاداً مضاعفاً لاثبات الوجود وتحقيق الذات على الأرض، مع اختلاف اللغة و الاجواء والظروف والتقاليد، وهو ما نجح فيه العراقيون –بعضهم وليس كلهم طبعاً- خلال وجودهم في ايران، فقد نجد الاطباء والمهندسين والمهنيين الماهرين مقيمين في ايران يكنّون لهم الايرانيون لك الحب والاحترام لما يقدموه من خدمات جليّة، الى جانب استفادتهم العظيمة من تجربة النجاح هذه في حياتهم.

إن فترة وجود الاخوة اللبنانيين في العراق ربما تطول أو تقصر بسبب ظروف الحرب، بيد أن المهم استثمار هذا الوجود في نوع من الاندماج الاجتماعي مما يثمر تبادل ثقافي وعلمي يفيد على المدى البعيد، إذ ليس من المعقول استمرار حالة المسكنة والهوان كما لو أنهم في مخيم للنازحين، فهم اليوم داخل المدن، يعيشون وسط حركة دؤوبة للعمل والتعليم والعمران، فمن الجدير دخولهم سوق العمل ليكونوا منتجين يفيدون انفسهم وعوائلهم، كما يفيدون السوق العراقية.

وأبرز مصداقية لهذا؛ وجود شريحة الاطباء السوريين في المستشفيات العراقية خلال السنوات الماضية، الى جانب عدد من العمال، وقد أثبتوا جدارتهم في عملية الاندماج بما استحسنه ابناء المجتمع العراقي، وبما يجعلنا نفكر في تكرار التجربة الناجحة مع الاعداد الكبيرة من اللبنانيين الوافدين الى العراق البالغ عددهم حسب المتحدث باسم وزارة المهجرين في العراق علي عباس حوالي 16الف شخص، بينما مصادر الأمم المتحدة تتحدث عن حوالي 25الف لبناني عبر الحدود العراقية السورية.

إن صفة الضيافة والعطاء التي تميز بها العراقيون في العالم، تسبق أي توصية او دعوة للإغاثة والمساعدة كالذي جاء في بيان المرجعية الدينية بضرورة مد يد العون الى المتضررين بالعدوان الاسرائيلي، سواءً من هم في داخل لبنان، او من وصلوا الى العراق، فالبيان الصادر من المرجع الديني الأعلى السيد علي السيستاني جاء ليعطي زخماً اضافياَ للروحية المعطاءة عند العراقيين ويضفي على عملهم طابعاً دينياً، بعد أن كان اجتماعياً وأخلاقياً.

ونحن لا نرجو طول فترة ابتعاد الاخوة اللبنانيين عن ديارهم وأهلهم وأعمالهم، بيد أن العبرة فيما يتركه وجودهم حالياً في العراق من آثار ايجابية لحياتهم في المهجر كتجربة جديدة، وايضاً للعراقيين، لاسيما لمن استضافوهم في بيوتهم وقدموا لهم مختلف اشكال المساعدة والدعم.

هذه الآثار سنجدها في قادم الأيام، وبعد تغير الامور والاحوال، كما حصل بين الشعبين الايراني والعراقي، فاذا عدنا الى بداية الثمانينات من القرن الماضي، نجد صعوبة في المقارنة بين تلك الفترة والحال الحاضر، بحصول تغييرات جذرية وايجابية في النظرة الى التقاليد والثقافة والأخلاق بين الشعبين، وهذا التقارب الثقافي من شأنه الاسهام في مشاريع تنموية في مجالات عدّة، ومن ثمّ، يكون عامل تطوير لاقتصاد البلدين.

 

المصدر

حول الكاتب

مقالات ذات صله

الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

W P L O C K E R .C O M